قصة قصيرة: فطر يذبل في ثلاجتي لعدنية شبلي

في الشّارع هبّت ريح قد لوّنها دخان السيارات لتوّه بالأسود، تحمل من حين إلى آخر إمّا منديلاً ورقيًا أو قطعة من جريدة قديمة. كان هنالك أيضًا ضوء يلاحقهما في تنقلهما الموسيقيّ.

قصة قصيرة: فطر يذبل في ثلاجتي لعدنية شبلي


|عدنية شبلي|

في الشّارع هبّت ريح قد لوّنها دخان السيارات لتوّه بالأسود، تحمل من حين إلى آخر إمّا منديلاً ورقيًا أو قطعة من جريدة قديمة. كان هنالك أيضًا ضوء يلاحقهما في تنقلهما الموسيقيّ.

الوقت عصر. الوقت جميل.

لدرجة قد يفقد المرء صوابه معها.

وبدافع من هذا الإحساس تركتُ الشارع، شارع صلاح الدين، من دون أية سيطرة أو إدراك لما أقوم به، دخلت إلى “السّمان”- حانوت الخضار، واشتريت سلة فطر من دون لحظة تردّد. قطعة كبيرة واثنتان صغيرتان أخرجتهما من محفظتي التي بدأت تتمزّق رغم قلة الاستعمال، وسلمتهما للبائع، لأستلم نهائيًا وإلى الأبد سلة الفطر. وضعتها في حقيبتي التي بدأت تتمزّق “2″، فوق الكتب والأوراق والقلم، وعدتُ إلى شارع صلاح الدين الذي كان لا يزال ينتظر كعادته خارج الحانوت.

حان الوقت للتفكير ولمعاقبة نفسي.

ولماذا الهبل؟ ما حاجتي لفطر؟

لعنتُ نفسي بغير جهد، إلى أن وصلت إلى البيت.

المحاولة الأولى للتخلص من الفطر:

“ن” صديقة. أعرفها منذ ربما سبع سنوات. قديمة. و”ن” تعزمني كلّ أسبوع منذ سبع سنوات على الغداء أو العشاء. مرة عزمتها على الإفطار. مرة واحدة فقط.

“ن” قبلت دعوتي على العشاء وقالت: “أووه”، عندما عرفتْ أنّ الوجبة ستكون باستا بصلصة الكريم والفطر.

في مساء ليلة قبل اليوم الموعود، صار الطقس باردًا جدًا.

وللبرد قدرة عظيمة على جعل المرء أن يكره نفسه، وكلما كَثـُر البرد كَثـُر الكره. بشدّة.

وهكذا صار فجأة مكان لـ “د” في هذا العالم. مكان ضروري. وعندما غاب عنه، إنتابني شعور رهيب بالاشتياق إليه.

لم أستطع النوم تلك الليلة لشدّة الكره، لكنني اقتربت من النوم عند ساعات الفجر، على الآذان. ذلك المؤذن الذي لم أعرفه أبدًا، وقد يكون كاسيت فقط، كان إلى الأبد في هذه الساعات العصيبة من الأرق قصة ما قبل النوم المنتظر.

حمل الصوت الهادئ خدرًا يشبه نومًا متقطعًا ومؤلمًا، إذ أعود وأصحو على البرد في كلّ لحظة.

أخيرًا، استسلمت للصّحو مع قرار إنهاء لعبة الغزل هذه مع رغبة النوم.

كان الألم يملأ كلّ عظامي ونفسي. اتصلت بـ “ن” واعتذرت لها. ردّت بدفء: “حبيبتي”.

“غدّا.”

“غدًا.”

المحاولة الثانية للتخلص من الفطر:

غدًا إتصلت بـ “ن” ولكنها لم تكن في البيت. تركتُ لها خبرًا بأنني بانتظارها على العشاء.

المحاولة الثالثة للتخلص من الفطر:

عاد البرد يقلّ تدريجيًا وكذلك زرقة السماء.

“ش” و”ب” يُحبّان بعضهما منذ أربع سنوات ولا أدري من يحبّ الآخر أكثر، “ش” أم “ب”.

تعرّفت إلى “ش” و”ب.”

“ش” و”ب” وأنا قلنا إننا سنعلن أنّ عام 2001 هو عام “بدون خيانة”. ردّت “ب” بحزن، وهي تنقل عينيْها بيني وبين “ش”: لا حاجة للرّهان. أنا سأفوز على أية حال.

بعد هذا الردّ شعرتُ بالقرب من “ب”.

أما قربي من “ش” فقد حدث قبل أيام.

قال لي بسعادة: إتصل بـ “ب” ليخبرها بدعوة العشاء. باستا بصلصة الكريم والفطر. ردود فعله على غير المسموع لي، أوضحت لي كم كانت “ب” غير راغبة بذلك ولا حتى بسماع اسمي على لسان “ش”.

ليتَ إحساسها بفوزها هذا العام بالرهان، ليس هو الدافع لكلّ هذا.

المحاولة الرابعة للتخلص من الفطر:

لقد مضت ستة أيام على الفطر في الثلاجة، وقد لاحظتُ أنه بدأ يكتسب القليل من اللون الأسود في بعض المناطق الخفية.

“إ” صديق عزيز. من أعزّ الأصدقاء، منذ تسع سنوات أو عشر، رغم كل الصعوبات الجمة في طريقه.

قلت له: “هيه “إ”، هل تعرف أنني أجيد الطبخ؟”. إنفجر ضاحكًا.

قلتُ له: “باستا بصلصة الكريم والفطر.”

قال: “لا حاجة”. وانتقل إلى موضوع آخر.

المحاولة الخامسة للتخلص من الفطر:

تعرّفت إلى “د” قبل عدة أيام.

“د”. “د”. “د.”

“د.”

حتى أنني لم أطقه، وعندما اتصل ليدعوني على العشاء، شعرت أسوأ مما أشعر به عندما تتحتم عليّ مراجعة مكتب الضريبة.

حين تناولنا العشاء معًا في تلك المرة، أوشكتُ على أن أنفجر لشدة الملل.

“ر” و”ي” عزيزان آخران. “ر” لا تحبّ “ي” ولا “ي” يحبّها، ولكن لا أحد منا يوافق على ألا نلتقي ثلاثتنا. ببساطة لا تقترب إلينا المتعة إن لم نكن الثلاثة.

بشكل غير مباشر، حتى تقل الحدة بين “ر” و”ي”، اقترح كل منا إضافة رابع. تعليل “ي” حتى لا يسمع “ر” أكثر. تحليل “ر” أنها ستستطيع أن تتحدث بعمق أخيرا إن ابتعد “ي” عنها بضعة أمتار.

قلت لها عن “د”.

فصرنا نتخيل المنظر على شاطئ البحر، حيث نمشي معًا، و”ي” و”د” أمامنا.

وهكذا صار فجأة مكان لـ “د” في هذا العالم. مكان ضروري. وعندما غاب عنه، إنتابني شعور رهيب بالاشتياق إليه.

ثم رأيته يمدّ يده من تحت الطاولة إلى ساق فتاة كانت تجلس أمامي. عندها، امتلأت روحي بالرغبة وأحسستُ بالعوارض الجانبية لبدايات الحبّ. كان في تلك الحركة جمال الإيروتيكا المرئية في لمحة بصر، ورجل قذر سيطلق العنان لخاصتي.

إنتابني كذلك فهم لسؤال يطرحه أستاذ التاريخ “ع” منذ الصف الرابع “ب”، فانتقلت العدوى إلينا نحن تلاميذه بشكل طبيعي:

“ما هو مثير للدهشة يا أولاد، أنّ الحروب لا تنتهي أبدًا رغم كل العذابات التي تمرّ بها البشرية خلالها، والتي تعلمتم لتوّكم كم هي ضارة. ضارية.

“أنتم أنفسكم يا أولاد ستكونون ذات يوم جزءا من هذه الحروب. بل ستصنعوها.”

بالتأكيد “م” و”أ” و”ن” في آخر طاولة، لم يكترثوا للسؤال أكثر مما لكش الذباب الذي لم يكل محاولته للهبوط على وجوههم.

سألت نفسي وأنا أبتسم ليد “د” المتسربة لتلك الفتاة من تحت الطاولة، والحب يغمرني، كيف يا أولاد أنّ الحب لا ينتهي أبدا، رغم كل العذابات التي نمرّ بها في كل مرة نحب.

في الليل والساعة في طريقها إلى الواحدة صباحًا، بينما شع ضوء أبيض على قبة الصخرة، درت بظهري إلى الهاتف واتصلت بـ “د.”

“هل تريد أن نتناول العشاء معًا؟”

“متى؟”

“باستا بصلصة الكريم والفطر.”

قبل أن أخلد إلى النوم بدأت رحلة التردّد. لا يمكن أن أحضر له العشاء مباشرة وفي الخلفية ذكرى العشاء من الحب السابق: معكرونة بصلصة الكريم والفطر.

كان نوما متقطعا. أدعوه، لا، أدعوه، لا. ثم أنام وأصحو، أدعوه. لا. أدعوه. لا. لا. لن.

الطقس جميل في الخارج. السماء لا تزال زرقاء حتى بانعكاسها على الخزانة البنية.

ذهبت إلى المطبخ، وفي الثلاجة يزداد سواد الفطر. صنعت القهوة وعدتُ إلى قبة الصخرة، التي ابيضّت بعدما غطتها قطع ملابس من دورة الغسيل الأبيض من عند “ل” و”هـ” و”ن” ولا أدري ما اسم الزوج.

الجيران في الساحة عملوا اليوم دورة ملون. أغطية السرير. و”ش” من الجانب بناطيل شقيقها، وقبالتي دورة غسيل ملون عادي. نحن في الحارة، من دون أن نعرف كل الأسماء، نعرف ألوان ومقاسات كل الملابس الداخلية لكل واحد.

رغم كل الغسيل الذي يحيطني من كل جانب، لا حلّ.

لا أدري ماذا سأفعل بالنسبة للفطر المستمر في الاسوداد مع كلّ لحظة عابرة من أمام باب الثلاجة، لكنني قررت بينما كان رأسي يكاد يلامس الشرشف المنشور خلفي، بأنني لن أشتري الفطر في حياتي، من دون أن يكون لذلك سبب مباشر وواضح.

(كاتبة فلسطينية من مواليد عرب الشبلي. حائزة على جائزة “القطان” للأدب مرتين. صدرت ترجمة روايتها “مساس” بالإنجليزية مؤخرًا في الولايات المتحدة. مُقيمة في لندن)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. قصة ولا أروع, وصفك للأمور مذهل..

  2. من كان يدري ان الفطر سيأتي يوما ليضع ابتسامة عريضة على شفتي.. جميل جدا

    “ت”

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>