لا بدّ لأحد أن يعيش ليروي ما حدث: “العذراء والموت” في “الميدان”

“الكثير من كتاباتي تتحدّث عن إنسان تنتابه فكرة ما تلازمه على نحو دائم، وهي أنه يعيش كالشبح، وأنّ كل شيء ما هو إلا مجرد وهم، وأن ثمة أناسًا يموتون من أجل أن نستمرّ نحن على قيد الحياة. فلزاماً علينا أن نقدّم لهم شيئاً ما. كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟”

لا بدّ لأحد أن يعيش ليروي ما حدث: “العذراء والموت” في “الميدان”

ملصق "العذراء والموت" من إنتاج "الميدان" وتظهر فيه الممثلة كلارا خوري

ملصق "العذراء والموت" من إنتاج "الميدان" وتظهر فيه الممثلة كلارا خوري

يقدم مسرح “الميدان” في حيفا، ابتداءً من 19 آب الجاري، مسرحية “العذراء والموت”، من تأليف آرييل دورفمان (تشيلي) ومن إخراج جوليانو مير خميس وتمثيل كلارا خوري وصالح بكري وعامر حليحل.

وستُعرض المسرحية أيام: 19-21 آب الجاري و28-30 من الشهر نفسه الساعة الثامنة والنصف مساءً.

تُرجمت مسرحية “العذراء والموت” إلى العربية تحت عنوان “الموت والعذراء” وأنجز الترجمة علي كامل، وهو ممثل ومخرج مسرحي وسينمائي عراقي مُقيم في لندن. وقد نُشرت الترجمة لدى دار “المدى” في العام 2005.

تعميمًا للفائدة، وكتوطئة سياسية وفكرية لمشاهدة المسرحية، ننشر هنا المقدمة التي وضعها المترجم لنصّ المسرحية بالعربية، والتي يبرز فيها أهمية النصّ وعناصره وسياقه التاريخي.

فاصل

علي كامل

لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة، ولا المكان أن يطمس هويته، فقد قرر لحظة وصوله أمريكا، لاجئاً، أن يجعل من كتاباته سلاحًا، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يوميّ وساحة حرب ضدّ من شرّدوه، ضدّ من خنقوا صوت الحرية في بلاده.. ضد وحشية الإستبداد وبربريتة في كلّ مكان.

على أحد جدران غرفة مكتبه المعتم، كان دورفمان يعلق صورة مواطنه بابلو نيرودا، التي كانت تضيء له وحشة سنوات الاغتراب، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة كان استعارها من أحد معارفه القدامى، الروائي الأرجنتيني هارولد كونتي، سلفه في المنافي. تقول العبارة:”هنا ساحة الحرب، ساحة معركتي، ولن أغادرها أبدًا”.

كتب دورفمان الشعر والرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن. وقد تُرجمت نتاجاته تلك إلى ما يقرب الخمسين لغة.

وقد شغل -وما يزال- موقع بروفيسور في جامعة ديوك في نيويورك، لتدريس أدب أمريكا اللاتينية، إضافة إلى نشاطه كمحرّر دائم في صحف واسعة الانتشار، مثل”نيويورك تايمز”،”لوس أنجلوس تايم”،”ناشيونال”،”فيليج فويس”، وغيرها. كما عُرف عنه كونه ناشطًا بارزًا في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان.

عاد دورفمان إلى تشيلي برفقته زوجته وولديْه عام 1990 بعد زوال الدكتاتور بينوشيت وقيام السلطة الوطنية المنتخبة، ومنذ ذلك التأريخ وهو مُوزّع بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

صور من فيلم "الموت والعذراء" للممثلين بن كينغسلي وسيغورني ويفر. سيناريو أرييل دورفمان وإخراج رومان بولانسكي.

صور من فيلم "الموت والعذراء" للممثلين بن كينغسلي وسيغورني ويفر. سيناريو أرييل دورفمان وإخراج رومان بولانسكي.

لا بدّ لأحد ما أن يبقى حيًا ليروي ما حدث

لقد تمّت تصفية الكثير من أصدقاء دورفمان ورفاقه في ذلك اليوم الفاجع الرّهيب، يوم الإنقلاب على حكومة أليندي، في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، ساعة اقتحام قوات بينوشيت قصر لامونيدا. أما هو فقد نجا بإعجوبة من موت محتم!

كان دورفمان يشغل موقع بروفيسور لمادة الأدب والنقد ومحاضرًا في جامعة تشيلي. وكان رُشح في عام 1971 مستشارًا ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس أليندي في قصر لامونيدا.

“شعرتُ أنني كمواطن ينبغي عليّ أن أتحلى بروح عالية للمسؤولية، وكفنان، علي أن أجيب على النداء المروّع والعاصف لشخصياتي”

في مقابلة أجراها معه داني بوستل في مجلة The Progressive الأمريكية عام 1998، قال دورفمان: “كان عليّ أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع. كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة، وكان اسمي واحداً من تلك الأسماء، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح. لم أفهم السبب مطلقاً!! وبعد ثلاث سنوات، وبطريق الصدفة، قابلت الشخص الذي كان مسؤولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك واسمه فرناندو فلوريس، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سرّ بقائي حياً.

“لقد أخبرني فرناندو أنه شطب اسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح، وحين سألته عن السبب، صمت قليلاً وغار عميقاً، عميقاً، كما لو أنه أراد إن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية. أخيراً، تطلع نحوي قائلاً: “حسناً.. كان لا بدّ أن يبقى أحد ما حياً، ليروي ما حدث”.

“لم تكن ثمة معجزة دينية وراء بقائي حياً، ولا أومن بأنّ قوى غيبية هي التي أنقذتني من ذلك الموت المحتم. لكنني موقن بشيء اسمه قدر الإنسان أو هو ذلك الشيء الذي يُحيل الأحداث التي تمرّ في حياة الإنسان، إلى شيء ضروري لا بدّ من وقوعه. ما فعلته أنا، حسب ظني، هو أنني أحلت نفسي إلى راوي حكايات. وهكذا أمضيت الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة أروي قصة شيلي بطرق مختلفة.

“الكثير من كتاباتي تتحدّث عن إنسان تنتابه فكرة ما تلازمه على نحو دائم، وهي أنه يعيش كالشبح، وأنّ كل شيء ما هو إلا مجرد وهم، وأن ثمة أناسًا يموتون من أجل أن نستمرّ نحن على قيد الحياة. فلزاماً علينا أن نقدّم لهم شيئاً ما. كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ كيف يمكننا أن نتحدّث إليهم، نحكي قصصهم، ومن أجلهم، بل وعلى الرغم منهم؟ ومع ذلك، فإنّ قصصي ليست قصصاً عن الموت فقط. لا، إنها قصص عن الحياة، والتغني بها أيضًا.”

إستوحى الكاتب عنوان مسرحيته”الموت والعذراء” من رباعية شوبرت الوترية التي تحمل ذات العنوان، وهي قصيدة مُغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740-1815. أما الثيمة فقد استقاها من خبر كان قرأه في صحيفة تشيلية، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في الطريق العام وكادت تودي بحياته. وأثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفاً إلى منزله، تحدث المفاجئة المروعة.

ففيما هما يتحدثان، تميز الزوجة نبرة صوت ذلك الرجل الغريب، وتكتشف أنها نفس نبرة الرجل الذي عذّبها واغتصبها في السجن قبل سنين. عند ذاك تقرّر سجنه في المنزل وإخضاعه إلى محاكمة شخصية، تنتزع خلالها اعترافاً كاملاً منه بتلك الجريمة، ثم تحكم عليه بالموت.

يقول دورفمان: “لقد تأملت تلك الحادثة عميقاً، وبدأت أستكشف في مخيلتي، بشكل خجل ومتردّد، حالة دراماتيكية أصبحت فيما بعد نواةً لمسرحية “الموت والعذراء”. كنت أجلس بين الحين والآخر أفكّر بهذا الموضوع وأخربش على الورق ما تخيلته أن يكون في يوم ما رواية. لكن، بعد جلسات عدة وبضع صفحات غير مقنعة عدلت، خائباً، عن الفكرة كلها تماماً، بسبب أنّ ثمة شيئاً ما كان غائماً، شيئاً ما جوهرياً وضرورياً في الحكاية كان مفقوداً. فمثلاً لم أستطع أن أستكشف شخصية زوج تلك المرأة. ترى من هو؟ وكيف ستكون استجابته إن صدقها؟

“لم تكن واضحة عندي أيضاً، الوقائع والظروف والإلتباسات التفصيلية، تلك التي ظهرت من خلالها تلك الحكاية. كذلك كان ثمة غياب للعلاقات الرمزية والدلالية بين العامّ والخاصّ. بمعنى آخر، ما نوع علاقة هذه الحكاية بالوضع العام للحياة في البلاد نفسها. كما لم أفهم صورة العالم الذي كان يقف خلف تلك الحدود الضيقة والخانقة والمغلقة لمنزل تلك المرأة”.

هكذا، ولسوء الحظ، ظلت المسرحية تنتظر مُكرهة مثل دورفمان نفسه لوقت طويل، لحين زوال النظام الديكتاتوري في البلاد عام 1990 وعودة الكاتب وعائلته إلى تشيلي بعد نفي استغرق سبعة عشر عاماً. ففي زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة، عثر الكاتب على إجابات على تلك النقاط التي كانت غائمة في رأسه، واستطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده أخيراً إلى الطريقة التي ستُروى بها تلك الحكاية.

ديموقراطيات في دور النقاهة

كان الوضع السياسي في تشيلي إبان زوال نظام بينوشيت الفاشي وقيام السلطة الوطنية المنتخبة، ينذر باحتمال وقوع حرب أهلية في البلاد، بسبب الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها الحكومة الجديدة، وفي مقدّمتها الإبقاء على الكثير من رموز النظام السّابق في مواقع خطيرة وحسّاسة، مثل المؤسّسات القضائية والبرلمان والمجالس البلدية وكذلك المؤسّسات الإقتصادية، ناهيك عن ترك الكثير من أزلام السلطة من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقين من دون عقاب.

“كنت على يقين بأنّ الديمقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها عبر المكاشفات واتباع نهج المصارحة والوضوح، لكي يرى الجميع كيف ستتفتح وتزهر الأعمال الدرامية العميقة الرؤى،

كان ذلك قد أثار غيظ الناس وضغينتهم، خصوصاً أولئك الذين ظلّ يسكنهم الخوف رغم سقوط الدكتاتور، والذين أحالتهم زنازين الدكتاتور إلى مجرد أشباح، أو أنصاف بشر. لقد أثارت فيهم تلك الإجراءات المؤقتة حقاً مخاوف عودة النظام القديم إلى السلطة. لكن واقع الأمر أنّ الرئيس الجديد المنتخب (باتريسيو إيلوين) كان يسعى من خلال تلك الإجراءات إلى تطبيق برنامج إصلاحي برغماتي للبلاد، ووضع حلول وسطية بشأن التعامل مع أدوات النظام القديم، خوفاً من تجدّد الوضع الإرهابي، وتحت غطاء الديمقراطية هذه المرة، وخشية من قيام مذابح جديدة وعمليات ثأر شخصية، قد تقود البلاد فعلاً إلى حرب أهلية وإلى فوضى قد تفقد البلاد فرصتها التاريخية تلك، وتفضي إلى عودة النظام الديكتاتوري ثانية إلى البلاد.

ولأجل تطبيق ذلك البرنامج، قامت السلطة بتشكيل هيئة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي اُرتكبت في زمن الدكتاتور بينوشيت سُمّيت بـ “هيئة ريتيج” التي كانت تنتهي عقوباتها بالموت أو احتماله، شرط أن لا يُعلن عن أسماء المجرمين أو تُجرى محاكمهم علناً. علق دورفمان حينها قائلاً: “إستطاع الرئيس إيلوين حقاً أن يدير الدفة بحذر وتبصّر وشجاعة، باتباعه مسلكاً وسطاً يوفق ما بين أولئك الذين يؤثرون دفن الخوف، خوف الماضي الإرهابي كلياً، وبين أولئك الذين يريدون الكشف عنه كاملاً”.

قامت تلك اللجنة حينها، وكاجراء إحترازيّ، بحجب أسماء أولئك المتهمين وعدم استدعائهم لحضور تلك المحاكم علناً، خشية وقوع صدامات دموية بين عوائلهم وأهالي المتهمين. لكن المأزق الأكبر هو أنّ تلك العدالة المنتظرة كانت منقوصة، فعلى الرغم من التجربة الموجعة لمئات الآلاف من ضحايا النظام القديم، وخصوصاً أولئك الذين استطاعوا أن ينجوا من الموت، إلا أنّ الكثير من حقوقهم الشخصية ضاعت وسط زحمة الأحداث العامة، حيث كان كل شيء مؤجلاً، كسباً للوقت ورغبة في إستتباب الوضع العام للبلاد.

هذه هي الخلفية السياسية التي قدمت المفتاح الرئيس لحلّ مغاليق الحكاية، وأجابت عن تلك الأسئلة التي كانت أجوبتها مبهمة في رأس الكاتب.

آرييل دورفمان

آرييل دورفمان

يقول دورفمان: “وفيما أنا أرقب بدهشة لجنة التحقيق تلك، وهي تقوم بإنجاز مهمتها الشاقة والشائكة، بدأت أدرك شيئاً فشيئًا وببطء، أنني أعثر أخيراً على الإجابة عن السؤال الملتبس للحكاية، ذلك السّؤال الذي ظلّ يدوي في رأسي لسنوات عديدة. وكانت الإجابة أنّ اعتقال المرأة للرجل الغريب في منزلها وإخضاعه إلى محاكمة شخصية، لا يمكن أن تتمّ في دولة يتربع على السلطة فيها دكتاتور، كما حدث في زمن تلك الحادثة التي قرأتها في تلك الصحيفة، بل في دولة هي في مرحلة انتقال إلى الديموقراطية، حيث جراح الكثير من التشيليين لم تندمل بعد، وحيث الكثير من الجناة ما زالوا أحراراً يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم فيما لو تم الكشف عن جرائمهم.

“لقد أصبح واضحاً أنّ الطريقة التي يمكن أن نجعل فيها من زوج تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب والتعذيب، يعيش حالة رهان مروّعة ومُربكة، كونه زوجاً لتلك المرأة التي اعتقلت ذلك الرجل الغريب من جهة، وفي نفس الوقت عضواً في لجنة التحقيق من جهة أخرى! وهو الوضع المشابه إلى حدٍّ ما لوضع المحامي العجوز الذي عينته الحكومة الجديدة لرئاسة هيئة التحقيق (ريتيج) في الواقع.”

لم يتطلب من دورفمان الوقت الطويل لإتخاذ قرار حاسم بشأن العمل، وكان القرار، هو أن الهدف كتابة نص مسرحي وليس رواية. وقد تم إنجاز “الموت والعذراء” عام 1991 وهو في نيويورك، لكنه أرجأ إرسالها إلى تشيلي، خوفاً من الاستجابات السلبية التي قد تثيرها أسئلتها المعبئة بخيارات صعبة، وهي ذات الأسئلة التي كانت تسعى شخصياتها لأن تفهمها وتجيب على جملة منها، والتي كان التشيليون يطرحونها على أنفسهم في السرّ، ونادراً ما تجد من يرغب في طرحها علناً.

كيف يمكن للجلادين وضحاياهم العيش على أرض واحدة؟

هل في الإمكان معافاة بلد قاسى صدمة القمع والكبت، ومازال الخوف من إبداء الرأي سائداً في جنباته؟

كيف يمكن الوصول إلى الحقيقة، إذا كان الكذب قد أصبح عادة؟

كيف يمكننا الإبقاء على الماضي حياً، شرط أن لا نكون سجناءه؟ وكيف يمكننا أن ننسى ذلك الماضي من دون المخاطرة بألا يتكرر في المستقبل؟

ما هي عواقب كبح صورة ذلك الماضي، وثمة حقيقة تهمس في آذاننا أو تنبح في وجوهنا؟

هل من المنطقي أن نضحي بالحقيقة، لكي نضمن الطمأنينة والأمن؟

هل الناس أحرار حقاً في بحثهم عن العدالة والمساواة، وتهديدات العسكر تلازمهم كالوسواس؟

هل يمكن تجنب العنف في البلاد في ظروف كهذه؟ وكم نحن، جميعاً، ودون استثناء، مذنبون إزاء ما حدث لأولئك الذين قاسوا أكثر من غيرهم؟

ومن المحتمل أن المأزق الأكبر هو: كيف يمكننا مواجهة كل هذه المشاكل، من دون أن يؤثر ذلك في تقويض الإجماع العام، ذلك الذي يرسّخ الاستقرار للمضي في تحقيق الديمقراطية؟

كتب دورفمان يومها: “كنت أدرك جيداً أنني سأنتقد بضراوة من قبل البعض في بلادي لأنني “هززت القارب بقوة” عبر تذكيري الناس بوقع الإرهاب والعنف الذي قاسوه طوال تلك الفترة الطويلة، في وقت مطلوب منا جميعاً أن نكون حذرين إلى حد كبير.

“لقد شعرت على أيّ حال، أنني كمواطن ينبغي عليّ أن أتحلى بروح عالية للمسؤولية، وكفنان، علي أن أجيب على النداء المروّع والعاصف لشخصياتي، وأن أحطم ذلك الصمت الذي كان يلقي بثقله على كاهلهم. كنت أتأمّل من كان يتابع كتاباتي بوّد من الأصدقاء، وخوفهم الجميل من أنني، ربما، أسهم ومن دون قصد في خلق مأزق لتلك الديمقراطية الهشة. لكنني كنت على يقين من قبل، وزاد الآن يقيني أكثر من أي وقت مضى، بأنّ الديمقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها عبر المكاشفات واتباع نهج المصارحة والوضوح، لكي يرى الجميع كيف ستتفتح وتزهر الأعمال الدرامية العميقة الرؤى، ويرى أيضاً الأحزان العميقة والآمال الكبيرة، تلك التي تشكّل جميعها مرتكزات وجود صلبة للديمقراطية.

“بهذه الطريقة فقط -وليس عبر جلد الذات- نستطيع أن نتفادى تكرار ما حدث لنا..”

هواجس الكاتب.. هواجس الشخصيات..

إنّ موضوع “الذاكرة” يكاد يشكل هاجساً دائماً لدورفمان ولشخصياته. الذاكرة التي تستعيد ماضي بلد جريح مثل تشيلي، مجسداً بشكل كوابيس في النوم ووساوس في اليقظة، والتي تلازم ضحايا الأمس، أولئك الذين نجوْا من الموت، بشكل دائم. أما “الخوف” فهو يشكّل موضوعاً جوهرياً في البناء الإجتماعي والسيكولوجي لشخصيات الكاتب. إنه يجري في عروقهم، يؤرقهم، ويشلّ حيواتهم.

فإذا كان ذلك الخوف يتشظى في الماضي سراً، فقد أصبح في الحاضر معلناً، لدرجة الخشية من أن يتحول إلى تأريخ رسمي للبلاد، ومن الممكن جداً أن يقود إلى إعادة إنتاج مجتمع تمزقه النزاعات والحزازات، تلك التي يسعى الكاتب أصلاً إلى نسيانها.

لا يدعو دورفمان إلى تكريس ذلك الخوف، بل إلى فهم مغزاه وأبعاده، كي لا يتكرر في المستقبل.

“دعونا نطوي هذه الصفحة، دعونا ننسى ذلك، دعونا نبدأ من جديد، وهذا كله نعثر عليه ساطعاً في شخصية المحامي وعضو هيئة التحقيق جيراردو في “الموت والعذراء”"

موضوع “النسيان” هو أيضاً هاجس آخر له وجوهه المتعدّدة لدى الكاتب. فوجهه الأول، طيّ صفحة ذلك الماضي والبدء من جديد، حيث الناس يسعون إلى نسيان أوجاعهم ومخاوفهم والعنف الذي نزل بهم، وثمة أسباب عديدة وراء الرغبة في ذلك النسيان، سواء للناس الذين تعرضوا للإساءات أم للبعض ممن ارتكبها. هؤلاء يشعرون بأنّ استعادة الماضي تحطيم لهم. إنهم يقولون إنّ ثمة مستقبلاً ينتظرنا، دعونا نطوي هذه الصفحة، دعونا ننسى ذلك، دعونا نبدأ من جديد، وهذا كله نعثر عليه ساطعاً في شخصية المحامي وعضو هيئة التحقيق جيراردو في “الموت والعذراء” وأيضاً في شخصية الكابتن في مسرحية “الأرامل”.

أما الوجه الثاني للنسيان فهو ذلك الذي يتعامل غالباً مع الناس الذين يخوضون نضالاً مسعوراً ضدّ من يريد إلغاءهم وتهميشهم وتجاهلهم، بل وحتى محوهم من وجه الأرض. هؤلاء الناس ذاقوا جور الماضي ومرارته، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين، وحين استيقظوا على حاضر آخر جديد، وجدوا أنفسهم منسيين مُهمّشين، يسيرون على رصيف واحد وجلاديهم.

هذا ما نعثر عليه بصورة جلية لا لبس فيها في شخصية باولينا في “الموت والعذراء” والرجال المفقودين في “الأرامل”.

يذهب دورفمان أبعد من ذلك، حين يضيف وجهاً ثالثاً لمغزى مفهوم النسيان وهو ذلك الذي يتعلق بالهوية. فقد كتب يقول: “ومشكلة الذاكرة ليست مشكلة أننا نتذكر المخاوف التي مُورست معنا وعلينا نسيانها، بل تلك التي لها تأثير أيضاً على الهوية، هويتنا التي فقدناها.

“أين هويتنا؟ علينا أن نفكر عميقاً وبدقة في هذا السؤال.”

آرييل دورفمان: بيبلوغرافيا

آرييل دورفمان (1942) مواطن تشيلي أمريكي الجنسية.

الدراسات:

- كيف تقرأ دونالد دِك (عمل مشترك مع الكاتب أرماند ماتيلارت)، 1971.

- ملابس الإمبراطور العجوز، 1983.

- بضع كتابات من أجل المستقبل، 1991

- مسرح اللامعقول بين أربعة جدران: “مسرح هارولد بنتر”.

- رحلة مزدوجة “عين نحو الجنوب، وأخرى نحو الشمال”- مذكرات وثائقية، 1998.

الروايات:

- الأرامل، 1983.

- أغنية مانويل سينديرو الأخيرة، 1987.

- ماسكارا، 1988.

- المطر القاسي، 1990.

- الثقة، 1995.

- مذكرات صحراء (رحلة في شمال تشيلي)، 2004.

المجاميع القصصية الأخيرة:

- الفالس الأخير وقصائد عن المنفى والإختفاء، 1988.

- وطني وسط النار، 1990.

المسرحيات:

- ثلاثية المقاومة (الأرامل 1989؛ القارئ 1990؛ الموت والعذراء 1991).

- ماسكارا وقائمة في سيرة حياة المشهورين، 2004.

- الجانب الآخر، 2005.

السيناريوهات:

- الموت والعذراء (كتابة مشتركة مع روفائيل إيغليسياس، 1992. أنتج عام 1994 وقام بإخراجه المخرج السينمائي رومان بولونسكي. تمثيل: بن كنسلي وسيكورني ويفار).

- سجناء في الموعد المحدد (مشترك مع ولده الأكبر رودريغو، 1995).

- وطني وسط النار (سيناريو وإخراج مشترك مع رودريغو 1999).

- الموعد الأخير (سيناريو وإخراج مشترك مع رودريغو 2002).

- أعزل في نيويورك (كتبه دورفمان ولعب أحد أدواره، وأخرجه دانيال ألغرانت 2003).

الجوائز التي نالتها مسرحية “الموت والعذراء”:

- جائزة Time Out Award عام 1991 كأفضل عرض مسرحي في لندن.

- جائزة السير لورنس أوليفيه عام 1992 كأفضل عرض مسرحي في لندن.

- جائزة 9the Dong Award 1993 في كوريا.

- جائزة Dora Mavor Award 1994 كأفضل عرض مسرحي في كندا.

- جائزة Yoshiko Yusasa Prize 1995 كأفضل مسرحية أجنبية في اليابان.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>