حمادة الجن/ قصة قصيرة لنائل الطوخي

أما النظر إلى سؤال “أين الحقيقة؟” بوصفه سؤالا يتعلق بمستقبل البلاد، وإيكال مهمة الإجابة عنه إلى مباحث أمن الدولة بالتحديد، وإلى رائد شاب وواعد، فلقد عُدَّ بادرة اهتمام من الدولة بالأسئلة ذات المدى الأبعد، وبالشباب في ذات الوقت

حمادة الجن/ قصة قصيرة لنائل الطوخي

|نائل الطوخي|

nael-qadita

إلى أسود وأشبال وزارة الداخلية المصرية، عرفاناً بالجميل

..

كلّ ما كان مطلوبًا من الرائد هيثم حمدي هو الحركة السريعة؛ رجل الشرطة هو رجل الحركة السريعة. رجل الأداء المكثف والمركّز والدقيق. تأكد الرائد هيثم حمدي من وضع المسدس في الحزام خلف خصره، ونزل الشارع، كعادته، عندما يحتاج الإلهام في قضية حساسة ودقيقة. مع حجر المعسل وكوب الشاي على القهوة بدأ في التفكير.

المهمة المكلف بها كانت واضحة: قال له سعادة اللوا بوضوح إنّ الشباب في خطر شديد: “كلّ شيء غامض وغير مُحدد. الشباب حائرون. أنت صغير يا ابني. لا تذكر أيامنا، كل شيء كان مفهوما ومحددًا. الناس الآن محتارة. الحقيقة غائبة. ومهمتك الآن الوصول للحقيقة. في يومين، يومين بس يا هيثم. لا نريد للوضع أن يتفاقم أكثر من هذا. أرجوك يا هيثم. المهمة دي مستقبل البلد كله معلق عليها.”

منذ سنوات طويلة لم تخض مباحث أمن الدولة معركة كتلك، معركة للوصول إلى الحقيقة الشاملة، الشاملة لكلّ شيء، الوجود والموت والحياة والخير والحقّ والعدل والجمال. فمنذ سنوات طويلة تركّزت عملياتها في بؤر موضعية صغيرة، أنشطة معادية وتجسّس وأحزاب محظورة، أما النظر إلى سؤال “أين الحقيقة؟” بوصفه سؤالا يتعلق بمستقبل البلاد، وإيكال مهمة الإجابة عنه إلى مباحث أمن الدولة بالتحديد، وإلى رائد شاب وواعد، فلقد عُدَّ بادرة اهتمام من الدولة بالأسئلة ذات المدى الأبعد، وبالشباب في ذات الوقت. كلّ هذا كان يضع أمن الدولة، ومن خلفها وزارة الداخلية كلها، في تحدٍّ صعب، ويحفزها للنجاح في هذا التحدّي، الذي سيكون الأكبر من نوعه.

في الساعة الثالثة عصرًا من يوم السادس عشر من آب/ أغسطس للعام 2010 كان الرائد هيثم حمدي جالسًا على قهوة “الشيشة”، بملابسه المدنية، يضع ساقًا على ساق ويفكر: “الحقيقة يجب أن تكون شاملة، منذ آدم وحواء إلى، إلى، أضرب رقماً، سنة 3150. ثانيًا: الحقيقة ينبغي أن تكون دائرية، بدايتها مرتبطة بنهايتها، يعني آدم وحواء، سنة صفر، عليها أن تلتحم بسنة 3150. الحقيقة يجب أن تكون صادمة، لأنها تشير إلى أشياء لا نعرف عنها شيئاً أبداً، والحقيقة يجب أن تكون مقنعة، تفاصيلها مرتبطة منطقياً ببعضها البعض، ولا يشترط أن تكون واقعية. أي: بكلمات أخرى، فلا يشترط في الحقيقة أن تكون حقيقية. تكفيها جدًا الصفات السابقة.” كلّ هذا كان يسجّله في رسالة خاصة قام بحفظها على تليفونه المحمول.

في الساعة الثالثة والنصف من نفس اليوم قام الرائد هيثم حمدي من على القهوة. زهق. ببساطة زهق. وقام. الحقيقة دائما مملة، والبحث عنها دائما أكثر إملالا، ولكن رجل الشرطة ليس عليه أن يشعر بالملل. رجل الشرطة هو رجل التشويق المستمرّ، هكذا قام بتأنيب نفسه على باب سلم العمارة.

• • •

عاد الرائد هيثم حمدي إلى البيت في ذلك اليوم الصيفيّ من رمضان، استعدادًا لتجهيز إفطاره (رجال الشرطة يصومون كسائر الناس). بعد الإفطار جلس ليقرأ ملفات قضية قديمة، (ويتثقفون كسائر الناس). ثم شرد قليلا (ويشردون) ليفكر في تفاصيل تحقيق يقوم به: أم أميرة القرعة، محمود أبو خيرة وحمادة الجن. أم أميرة صاحبة العمارة استعانت بحمادة الجن ليطرد أبو خيرة من عمارتها، وحمادة الجن قام بجرحه بالمطواة في وجهه، مما أنتج عراكًا كبيرًا انتهى بقطع قضيب أبو خيرة بمطواة الجن. هذه رواية أبو خيرة. أم أميرة نفسها لديها رواية مختلفة، أبو خيرة لا يدفع الإيجار، على رغم مطالبتها الدائمة به، ولكي يتخلص منها قام بتسليط الولا حمادة الجن عليها، الذي فتح لها رأسها برقبة زجاجة بيرة، مما جعلها تركب فوقه فيدافع هو عن نفسه بإلقاء زجاجة ماء نار على وجهها فيتشوّه للأبد. واحد من الاثنين، أم أميرة وأبو خيرة، جرح نفسه ليدّعي على الآخر، وحمادة الجن عميل لأحدهما (هل يمكن أن يكون عميلاً مزدوجاً، وأن تكون الحادثتان قد تمتا بتنفيذ حمادة الجن؟ كل شيء جائز).

إحتجاز أم أميرة وأبو خيرة في القسم لم يسفر عن شيء جديد، كل منهما يُصرّ على موقفه، برغم الاستجواب البدني المتواصل الذي يتعرضان له منذ ثلاثة أيام والذي أمر به الرائد هيثم حمدي (البعض يطلق على الاستجواب البدني اسم التعذيب). يلزم هنا توضيح، صحيح أنّ الاستجواب البدني غير مشروع قانونا، وصحيح أنّ الرائد هيثم حمدي يلجأ له من حين لآخر، إلا أنّ هذا، أولاً، لا يصِم أبداً، جهاز الشرطة كله، المعروف بشجاعته وإنسانيته؛ وثانياً، فهذا لا يصم الرائد هيثم حمدي نفسه، الذي قد تكون له نقائصه الشخصية كإنسان، والإنسان تكمن قوته في نقائصه أحياناً، وهيثم حمدي إنسان حتى النخاع، رأينا من قبل كيف أنه يصوم ويتثقف ويشرد كأي إنسان. لهذا، فليس مدهشاً أبداً أنه يردد يومياً، ليلاً ونهاراً، بعد انتهائه من قراءته أذكار الصباح والمساء: “أنا ضابط فاسد، ولكنني لا أمثل زملائي الضباط الشرفاء بأيّ شكل. أنا حالة فردية. أنا استثناء. أنا خارق. أنا خارج عن القطيع. ”

التعذيب (ويسميه البعض استجواباً بدنياً) كان يتم أمام عيني الرائد في القسم. ربما كان يتألم وهو يشاهد التعذيب، وربما كان يبتسم متلذذاً، لا نعرف بالضبط (التألم لدى رؤية المشاهد المؤثرة هو خاصية إنسانية، ولكن أيضاً الابتسام المتلذذ لدى رؤيتها هو خاصية إنسانية. في الحالتيْن بطل قصتنا هذا، الاستثنائي والفردي والخارج عن القطيع، هو إنسان مطلق، إنسان حتى النخاع). ووعي شرطينا بنفسه كاستثناء وحالة فردية وطفرة لن تتكرر كان يعطيه بعضا من الثقة وهو يوجّه الأسئلة إلى مستجوَبيه، ولكن ثقته تحطّمت أمام أم أميرة، وأمام أبو خيرة. الأمل الوحيد الذي ظلّ يتشبث به هو حمادة الجن، عملينا العزيز المزدوج.

• • •

منذ طفولته ورائدنا يحلم بالوصول إلى الحقيقة. بحث عنها في كل مكان: في الكنائس والمساجد والمزارع والمصانع وعلى القهاوي وعلى البارات، لم يكلّ. قرأ في كل شيء، وسأل كل الأشخاص، بصيغ مختلفة، عن الحقيقة. كان إنساناً متديناً، يصلي ويصوم ويتبرع بجزء من أمواله أيضاً للزكاة، ولكن في حياة كل إنسان مؤمن لحظات من الشكّ وضعف الإيمان؛ في هذه اللحظات كان السؤال يغزو قلب رائد الشرطة الذكي، وهذه اللحظات كانت تداهمه في أيّ وقت، ومنها شهر رمضان الفضيل. استغلّ سعادة اللوا هذا الولع القديم لدى ضابطه ليكلفه بالمهمة التي يتعلق بها مستقبل البلد وشباب البلد كلهم. والضابط لم يقصر، كثف من جولاته للسؤال عن الحقيقة، وعاد مرة أخرى وسأل في كلّ الأماكن، في الكنائس والمساجد والمزارع والمصانع وعلى القهاوي وعلى البارات. ولكن حياة ضباط الشرطة دائما قاسية. عليهم فعل ألف شيء في لحظة واحدة.

• • •

في يوم السابع عشر من آب/ أغسطس للعام ألفين وعشرة انتقل هيثم حمدي إلى مكتبه. أمر باستدعاء حمادة الجن إلى المكتب. جاءه هذا، منهكا ومحمولاً بيد المخبرين. أشعل الرائد سيجارته، وأعطاه واحدة، طلب منه الجلوس. سأله بهدوء وأدب عمّا حدث في يوم الحادي عشر من أغسطس. حمادة أجاب إنه تعارك مع أمين شرطة أصرّ على سحب رخصه – حمادة سائق ميكروباص– وأنّ أمين الشرطة هدّده فاضطرّ للعودة مبكرًا لبيته، وطول الليل يا باشا مش عارف أنام، بفكر لغاية أمّا اتخنقت يا باشا. والنبي لو تعرفه خليه يفُكّه مني.

الرائد هيثم حمدي لم يكذب على أحد من قبل، ولذا فهو لا يطيق من يكذب عليه. الكذب بالنسبة له أكبر الكبائر، خط أحمر، أفظع شيء في العالم. احمرّ وجهه. أصبح مثل الطماطماية (أي: “حبة البندورة”؛ فهذه القصة منشورة في موقع فلسطيني). بعنف ألقى كوب الشاي المغلي على وجه حمادة، ثم طار من فوق المكتب وركب فوقه. قال له بقوة: “انت عندك أخت اسمها آية، وامك اسمها حُسنَى، اختك كانت ماشية مع الولا محمود، واحنا صورناهم وهما مع بعض ف المقطم، امك بقى اتجوزت مرتين، ومانبسطتش. ممكن نجيبها هنا نعمل معاها أحلى سكس.” ضابط الشرطة، مثل كل الناس، أحيانا يفقد أعصابه.

“شوف يا حمادة، أنا مش زعلان منك”، يعود الرائد إلى مكتبه، ويشعل سيجارة أخرى، يواصل: “انت خدمتنا قبل كدا، احنا عارفينك كويس، بس الناس ف المنطقة مش عارفين انك خدمتنا، ومش هينبسطوا لو عرفوا.”

حمادة الجن لا يردّ. ينظر للرائد بعينين منهكتين، يبتسم، ابتسامة محيرة، لا يفهمها: “باشا، بالأدب يا باشا، مش هتقدر تاخد مني حاجة بالعافية، بالأدب يا باشا ابقى خدامك.”

• • •

عاد الرائد هيثم حمدي إلى بيته، يفكر، يسترجع تاريخ حمادة الجن، سائق الميكروباص ذي العينين الذكيتين واللماحتين الذي عمل مع الجميع، مع الحكومة وتجار المخدرات الصغار والكبار والبلطجية والإرهابيين، وأفلت من كلّ هذا ليتم اتهامه في قضية بلطجة تافهة. الشاب الأكثر ذكاء بين جميع المتهمين الذين قابلهم في حياته المهنية والشخصية. حمادة الجن، الأسطورة الملهمة لحي الخليفة.

هناك صدف في حياتنا. هكذا تحدث، بلا منطق ولا نسق، الصدفة تحدث هكذا، لأننا، هكذا، نريدها أن تحدث، هكذا. الصدفة تطير في الهواء، وهناك من يلقف، ومن لا يلقف، وهذا ليس بفضله، وإنما بفضل سرعة الريح، واتجاهها، وقوة دفع الصدفة لتطير في الهواء، الصدفة بنت جميلة، راكبة عجلة ببدال، شعرها بيطير قدامنا، ويداري علينا جمالها، كما يقول المثل الشعبي.

هل يمكن، طيب يعني، الدنيا صغيرة لهذه الدرجة؟ لا لا مش معقول، يا أخي معقول، استحالة، مش معقول، وهكذا وهكذا وهكذا، ثم جافى النوم الرائد هيثم حمدي لليوم الرابع على التوالي.

• • •

الرائد هيثم حمدي لم ينم منذ أربعة أيام كاملة، أربعة أيام يبحث قضية حمادة الجن، ويبحث عن الحقيقة، هذه المهمة الجديدة التي جاءت لتضيف عذابا فوق عذابه ولتواصل منعه من النوم. هو –يلزم القول– قارئ في جميع المجالات، وفي بحثه المحموم عن الحقيقة قرأ عشرات الصفحات في ساعات معدودة. فتح العهد القديم، وصفحات الإعلانات في المصري اليوم، وتفسير الشعراوي للقرآن، وكتاب فقه السّنة للشيخ سيد سابق، والعددين الأخيرين من أهرام الجمعة، بريد الجمعة بالأخرى، ولا تحزن لعائض القرني، والخيميائي لباولو كويلهو، والكاماسوترا، وكتاب الرياضيات في الابتدائية، وكتاب الرياضيات في الإعدادية، وكتاب الرياضيات في الثانوية العامة، وقصص الأنبياء، ورؤيا يوحنا اللاهوتي، والذين هبطوا من السماء لأنيس منصور، وحوار مع صديقي الملحد لمصطفى محمود، وبعضا من ألغاز ملفّ المستقبل. كل هذا، مع الوعي بقرب انتهاء المهلة التي يفترض أن ينفذ مهمته فيها، متزامنا مع التحقيق مع أم أميرة وأبو خيرة وحمادة، متزامنا مع عدم النوم لأربعة أيام، قد يفسر حالة الهستيريا التي انتابته في صباح الثامن عشر من آب/أغسطس، وهو يحقق مع حمادة الجن. ولكنه أبداً لا يفسر ما تلا هذا.

أصدر أمره للمخبر بالتوقف عن الضرب، ثم اقترب من حمادة، بهدوء لوّح بسيجارته، بهدوء غرزها في لحم ذراعه. نار السّيجارة، بالإضافة إلى رائحة اللحم المشوي المنبعثة من ذراع حمادة، بالإضافة إلى بوكس محترم أطاح به إلى الطرف الثاني من الغرفة، كل هذا كهرب الجو فجأة. حمادة الجن راقد على الأرض، يقترب هيثم حمدي منه، يشوطه في وجهه بركلة من حذائه ذي الطرف المعدنيّ المدبب، ثم ينحني. يصبح مستوى كتفه بمستوى رأس حمادة الممدد على الأرض. يهمس: “إوعى تفتكر يا حمادة إني بعذبك علشان تتكلم ف موضوع أم أميرة القرعة.”

حمادة لا يردّ. يبصق دما، ويمسح شفتيه بكمّ قميصه.

“لا يا حمادة. أنا بعذبك علشان عاوزك ف حاجة أكبر.”

“…………….”

“الحقيقة يا حمادة. أنا عاوزك تقولّي كلّ الحقيقة.”

يعتدل حمادة. عيناه المنهكتان تلتمعان.

“إحنا هنا ليه، رايحين على فين، ليه عايشين، بنعمل ايه ف الدنيا.”

صمت طويل.

صمت أكثر طولاً.

حمادة ينطق أخيراً، ببطء:

“يبقى بالأدب يا باشا. عاملني بالأدب ابقى بتاعك، اقولك على كلّ حاجة.”

……….

“إنتَ عاوز تعرف الحقيقة. انت جيت للي هينفعك. هحكيلك كل حاجة، جايين فين ورايحين على فين، حقيقة الدنيا، الدنيا صعبة يا باشا، واللي زينا لو عاشوا من غير ما يفهموها هيتداسوا، دنيتنا بقت غابة يا باشا، انا هاقولك عالصح، من يوم ما ربنا خلق آدم لغاية آخر الزمن، إنشالله لحد سنة تلتلاف مية وخمسين. بس تعاملني بالاحترام. دا مصلحة ليك ومصلحة ليا.”

“ولو كذبت؟”

“اختبرني يا باشا. اختبر كل الكلام اللي هقولهولك. اللي زينا عايش ف الدنيا مش بفضل دعا الوالدين. اللي زينا عايش بفضل انه عرف الحقيقة وبيطبقها ف حياته.”

“لو كذبت يا حمادة يا جن انا بنفسي هغتصبك. افتكر عماد الكبير يا حمادة.”

خرج المخبران من الغرفة بعد إشارة من الرائد، والذي مد يده إلى حمادة كي يعينه على القيام. وأجلسه على مكتبه، قدم له سيجارة وطلب له كوب شاي. وبدأ حمادة يحكي.

الحقيقة، كما تصورها هيثم بالضبط، جاءت شاملة، تضم كل شيء بداخلها، دائرية، كل شيء ملتحم ببعضه، مقنِعة، ولم تكن واقعية بالضرورة، كانت صادمة، ولم تكن معروفة مسبقاً. حمادة كان يحكي وهيثم حمدي يعيد الحكي وهو يملي كاتب المحضر. لا يتدخل في الصياغة. فقط يقوم بجعل الألفاظ المغرقة في عاميتها أكثر فصاحة. فتح تسجيل موبايله أيضاً، الصيغة الدقيقة لكلام حمادة الجن يجب أن تُحفظ في التاريخ. لثلاث ساعات كان حمادة الجن يتحدث، ولا يقاطعه أحد، فقط نظرة مندهشة من الرائد كانت تدفعه للإفاضة في شرح نقطة بعينها، أو نظرة غضب كانت تدفعه لاختيار صيغة أكثر تخفيفا (الحقيقة دائما صادمة). وهيثم حمدي مصدوم طوال الجلسة، فاتح فمه وعرقان. فقط عندما انتهى حمادة الجن من حديثه، أغلق فمه، تنفس بعمق، وجفف حبات العرق فوق صلعته اللامعة. قام وعانق حمادة الجن، بللت دمعتان نزلتا من خده كتف قميص الجن. انتبه الجن لهذا فبكى هو الآخر.

وكان نواح ونحيب وبكاء مرير.

• • •

في يوم الثامن عشر من أغسطس/ آب للعام 2010، صدر الأمر بترقية الرائد هيثم حمدي إلى درجة مقدم. المقدم هيثم حمدي، الذي تعلم هذا اليوم درساً مهما، وهو أن الحقيقة يتم الحصول عليها دائما بالأدب، وليس بالعافية ولا بفرد الصدر، توقف عن استخدام التعذيب نهائيا، وانتقل من زمرة الضباط الفاسدين إلى زمرة الضباط الشرفاء. في هذا اليوم أنهت مباحث الأمن الدولة واحدة من أكثر عملياتها خطورة، محرزة فيها نصرا حاسما، لقد توصلت إلى معرفة الحقيقة الشاملة لحياتنا، كمصريين وكعرب وكبشر معذبين وواقعين في فخ الوجود الواسع.

منذ ذلك اليوم والشعب المصري كله يتسم بالحكمة البالغة. منذ ذلك اليوم والشعب المصري هو الشعب الوحيد الذي يعرف الحقيقة ويتباهى بها على سائر شعوب العالم. ومنذ ذلك اليوم والشعب المصري يكن لمباحث أمن الدولة، مباحث أمن دولته العزيزة، عرفاناً ومحبة خاصة، محبة لا تنتهي.

_____________________

قراءة شخصية • الحقيقة لا شيء إلا الحقيقة!

لا يفصح نائل الطوخي عن الحقيقة التي يبوح بها حمادة الجن للمقدم هيثم حمدي. يبخل بها على القراء، رغم أنه سحبهم من أنوفهم رغمًا عنهم لقراءة القصة حتى نهايتها، بالتشويق والمتعة.

هكذا هي الحقيقة: جميع القصص لا تفصح عنها صراحة، بل تحشرها حشرًا بين السطور. إذًا فهي حقيقة عصية، يمكن لكلّ قارئ أن يفسّرها على سجاه. إنها حقيقة نسبية، شخصية، متوارية. هل هذه الحقيقة المطلقة إذًا؟

يكتب نائل الطوخي بانسياب مثير، يحقق معادلة “السهل الممتنع”. يدير دفة الحدث بتقشف نصيّ ولكنه يُبهّره بحوارات عامية حقيقية، “أوثنتِكْ”. يعبث بالسّرد ويتمرّد على لينائريته. يقول للقارئ: سأبدأ من هنا، وربما من هنا، بل ربما من هنا. وعليك أن تمشي عبر متاهات النصّ والسّرد والشخصيات. والقارئ سيمشي.

لماذا؟ لأنّ نائل الطوخي مراوغ عربيد؛ أي أنه بكلمات أخرى قاصّ جيد.

(علاء حليحل)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. من القصص القليلة الممتعة التي قرأتها مؤخرا بالعربية . تمتع القاريء لأنها تتمتع بتواجد شروط الأدب فيها. اي الامتاع والمؤانسة ، والسخرية والتشويق. بحيث لا تحظي اعمال ادبية كثيرة بهذه الشروط او حتى ببعضها.
    هذا المزج الرائع بين “الحياة الشكلية” للإنسان الاعتيادي المعتمدة على الطقوس الجوفاء ( مثل الثياب الرسمية للشرطة والمسدس والاشارات والرتب ) من صوم وصلاة و”قراءات ” كثيرة تافهةلكتاب معظمهم سخفاء وتافهين .. والمزج بين عمل “امني ” يبدو انه “عبثيا وعشوائيا “.. يناقش العقلية الامنيةمصرية وعربية وعالمية التي تعتقد ان “التعذيب ” سوف يقود حتما الى الحقيقة . لنجدان هناك حقيقة يمتلكها شخص آخر هو حمادة الجن الذي على استعداد لقول “الحقيقة ” لكن بطريقة اخرى .. بالأدب والذوق ..
    ولانه لا توجد “حقيقة ما” مستديرة او مربعة فلم يغامر الطوخي بالتبرع او التنطع بقولها لنا . بل تابع معنا بتشوق رحلة الرائد هيثم في البحث عن الحقيقة. رحلة تقاطعت مع “حقيقة ” حمادة الجن . شخصيتان هنا الضابط والمجرم تستخدمان العنف في الوصول الى ما يريدان بغض النظر عن ما يريد كل منهما .
    انها فكرة ناجحة، في الدخول الى عالم مغلق( عالم الشرطة والامن)وهو عالم نكن له العداء والمقت ، بعضنا دخله بالرغم عنه وخرج مشوها ومنه وبعضنا سمع عنه وبقي خائفا ، يدخله الطوخي ساخرا ..
    هذه واحدة من البوابات ..لا بأس .. حلوة!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>