لون الشراشف البيضاء/ معن أبو طالب

.. |معن أبو طالب| أدرك كم هو محظوظ عندما قفزت عارية من […]

لون الشراشف البيضاء/ معن أبو طالب

..

|معن أبو طالب|

أدرك كم هو محظوظ عندما قفزت عارية من السرير واختارت –دون اتفاق مسبق- موسيقاه المفضلة. أدرك كم هو محظوظ عندما وقف يُعدّ القهوة التي اختارتها له بخبرة وعناية. أدرك كم هو محظوظ عندما تذكّر عنايتها بأدقّ التفاصيل في اختيار زجاجة نبيذ، أو الحديث عن آخر كتاب قرأته، أو في عملها. أدرك كم هو محظوظ عندما أخذت تمشط شعرها الأسود الطويل بعفوية ومرح. أدرك كم هو محظوظ عندما تذكّر كيف جعلت من سريره ساحة لألعاب لم تخطر بباله. ثم أدرك أنّ هناك مشكلة؛

أدركت أنه أدرك أنّ هناك مشكلة.

في تلك اللحظة كانت الموسيقى مثالية وكانت هي في غاية الجمال وكانت القهوة مثالية وكان هناك الإدراك يصرخ من موقع بعيد في مؤخرة رأسه: إنها، حبيبته، ومن تقرّر بالأمس أنها ستصبح زوجته، ليست عذراء.

هذه طبعاً ليست مفاجأة. وهو كان على معرفة بالأمر منذ البداية. المفاجأة هي الاكتشاف أنه في أعماقه يمانع. فقد قررا الزواج وكان هو متأكداً من حياة سعيدة معها. بل كان متأكداً من أنّ فتاة لا تملك إطلاعها وفضولها وخبرتها في الحياة لا تستطيع إسعاده. ولكن ماذا لو عرف والده أنها ليست عذراء. “مفتوحة” سيسمّيها. “مفتوحة” أي أنّ أحداً ما سبقه ودخل إلى المكان المقدس. أي أنّ الطريق فُتح وداسته أقدام غيره. مفتوحة: كأنّ بابًا فُتح على مصراعيْه ومن الصّعب ردّ الزوار عنه. مفتوحة، كأنها مدينة تم غزوها، أو ثلاجة تم العبث بمحتوياتها، أو شنطة سفر بحث فيها مسؤولو أمن.

فكر: “لا، لا. لا يهمني أنها ليست عذراء”. هذا لا يجعل منها شرموطة. ثم تساءل: من هي الشرموطة أصلاً؟ أهي من تنام مع حبيبها؟ أم هي من نامت مع شاب أحبته وأحبها ولكنه لسبب أو لآخر لم يتزوجها؟ أم هي من نامت مع شاب خدعها؟ أم هي من نامت مع أكثر من شاب؟ حسناً. إذا كان هذا هو الجواب فكم هو عدد الشباب الذي يجعل منها شرموطة: إثنان، ثلاثة أم تسعة عشر؟ أم هي الشرموطة من تنام مع الأخضر واليابس؟ أم هي من تتقاضى أجرًا؟

شعر بالخزي من أفكاره.

بدأ التوتر ينساب إلى الغرفة، ولكن ألحان الموسيقى التي اختارتها كانت ما زالت تحارب لتحفظ السلام. وما زالت آخر رشفات القهوة تناجي الأفكار المنطقية في رأسه. ولكنّ الأسئلة تعود بقوة وإصرار. يتخيل نفسه صبياً مع أولاد عمه في الحارة، يتكلمون عن الفتيات ويزدرون من قيل إنها فتحت، ثم يتبادلون النكات عمّن سيتزوّجها. تنتصر تلك الأفكار وتأخذ منحى أبعد. “من فتحها يا ترى؟ لقد قالت لي إنها أحبت شاباً كان زميلها في الجامعة، وإنّ الموضوع انتهى. هل لا تحبه أبداً، هذا ما أعرفه بكل تأكيد.”

تذهب الأفكار أبعد. يبدأ برسم السيناريوهات. ماذا لو كانا في حفلة عرس ما ورآها من نامت معه. هل سيأتي ليسلم عليها؟ هل سترد السلام بحماسة أم ستتجنبه؟ أي التصرفين أسوأ؟ هل سينظر الوغد إليه بابتسامة ماكرة تقول “أنا نمت معها قبلك؟” وهل سيعرف هو هذه النظرة أم أنه سيصافحه كالأبله؟ وهل سيشكّ في ابتسامات ومصافحات ليس فيها مكر؟

تقرأ الجريدة وتراه بطرف عينها يقف قلقاً. تتساءل ما الذي يجول في رأسه. تتذكر قولاً قرأته في مكان ما: “لا أحد أبداًِ يعلم ما يجول في رأس شخص آخر”. تتأمل في العبارة للحظات وتتساءل عن مدى صحتها، ثم تميل للموافقة. تعود للجريدة. هناك مقال عن توسع المستوطنات. تطالع المقال وتنسى قلقه للحظات.

تتذكر عشيقها السابق. هو أيضاً كانت تنتابه هذه الحلقات الغريبة. أخيراً قال لها إنها “خيبت ظنه” عندما قبلت النوم معه. قال هذا طبعاً بعد أن نام معها. هي تدرك أنّ ما فعلته ليس خطأً، أو أنه حتماً خطأ، ولكنه خطأ في التقدير وليس خطأً أخلاقيًا.

هي لم تعد تلك الفتاة التي تعتقد أمها وعائلتها أنها هي. هي لم تعد منهم وصارت عليهم. هي لم تعد “بنت”. تخيلت فيما لو عرفت هذه الحقيقة مدرستها في المدرسة. هل ستتشفى وتقول: “كنت عارفة إنو البنت مش مزبوطة”؟ هل هي، بخسارة عذريتها، أثبتت أنّ كل أعدائها على حق؟ فليكن. تدرك أنّ حياتها غنية أكثر وكان فيها لحظات أجمل من حياة مدرستها البائسة بأكملها. تتذكر تلك المدرسة الناقمة. تفكر أنه ربما لو قبلت مدرستها أنوثتها واستكشفت جنسويتها لما كانت تعيسة إلى هذا الحد.

تقلب صفحات المجلة. المحافظون يربحون في بريطانيا. تفكّر أنّ المحافظين يربحون في كل أنحاء العالم مؤخراً. تصحح الفكرة وتفكر أنّ المحافظين يربحون دومًا. يعود إليها الإحساس بالضيق. ماذا يعني فعلاً أنها ليست عذراء؟ هل يعني أنها شهيدة الحرية؟ هل ضحّت من أجل فتيات الجيل القادم؟ هل عليها هي أن تدفع الثمن لمن سيتحرّرنَ ويعشنَ حياتهنَ؟

تساءلتْ إذا كان يحق لها فعلاً أن تمنح عذريتها. فهي كانت تودّ لو حفظتها لحبيبها. ولكن ماذا لو تركها هو أيضاً، هل كانت سترغب بالاحتفاظ بها من أجل من يأتي بعده؟ وإن تركها هذا الآخر؟

جمل قصيرة وفارغة تم تبادلها لكسر الصمت، لم تفعل شيئاً سوى تأكيد التوتر الذي خلق من عدم. تتساءل: “هل هو قلق لأمر يتعلق بعمله؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟” تجد نفسها دومًا في مشاكل لرأي صرحت به أو عبارة قالتها أسيء فهمها. تبدأ بمراجعة نفسها. حاولت جاهدة أن تجد أي سبب لقلقه. أي سبب، إلا إياه.

تذكرت كيف انقلب وجهه وقطب جبينه عندما روت له مغامرة بريئة حصلت لها في المدرسة. كانت فقط تريد أن يضحكا ولكن الأمر كاد يتحول إلى نقاش قبل أن يحسّ بتفاهة موقفه وينقذ نفسه بابتسامة عريضة وقبلة حميمة.

ولكن ما الأمر الآن؟ وإن عادت له الحماقة فأية حماقة هي؟ تقلب صفحات الجريدة بسرعة تطارد اليقين.

عادت الأفكار تتلاحق في رأسه باضطراب. ماذا لو كانت حبيبته عذراء؟ ماذا لو كانت هي نفسها بشخصيتها وجمالها وخبرتها، ولكنها عذراء. هذا ليس ممكناً. ولكن لا بأس من التمني. يتخيل ليلة الدخلة. ستكون كما تخيّل طوال عمره. وكما رأى في الأفلام وسمع من الحجّات. يضطرب أكثر عندما يدرك أن الزواج منها يعني أنه لن يتسنى له النوم مع عذراء أبداً. فهو إن تجوزها فسلسة مغامراته الجنسية ستنتهي. ولن يصبح عضوًا في نادي الرجال التاريخي الذين ناموا مع عذارى. لن يكون عضواً في نادي الفحول الذي يضم هارون الرشيد ووالده وإلڤيس بريسلي وسفاحي صبرا وشتيلا ونابليون وصدام حسين وغيرهم من الرجال الذي عرفوا طعم العذارى.

لقد سمع كثيراً أن النوم مع العذارى مقرف. كله بدايات خاطئة وسذاجة وفوضى. وأنه من شبه المستحيل الاستمتاع به. ولكنها مرة واحدة. لا بأس بمرة واحدة. هي تجربة مثل باقي تجارب الحياة. مربع يضع فيه علامة إكس، أو صح. إنه شيء يفعله الرجال.

أخذ يفكر أنه لو كان وحده لصفع نفسه في هذه اللحظة على هذه الأفكار. لن يجد في العالم كله فتاة بهذه الروعة. هَم باحتساء آخر ما بقي من القهوة ليدعم أفكاره فوجدها باردة.

قلبت صفحات الجريدة. إعلانات لصالات أعراس وفساتين بيضاء جميلة. الصيف على الأبواب والتحضيرات لموسم التزاوج بدأت. فكرت: “عندما أتزوج أود أن أكون عذراء لا لشيء. فقط ليكون الموضوع أكثر مثالية ورومانسية. سأمنحه نفسي عطرة نقية. ستكون البراءة والسذاجة لنا، وسيكون هذا رمزاً لبدايتنا معًا. كأننا لم نكن معاً من قبل. بل سيكون فعلاً، وبشكل ما، أول مرة.

سيكون حباً تاماً وخالصاً وساذجاً كما في قصص الحب. قصص الحب لا تذكر بقعة الدم على الشرشف الأبيض، إنها فقط تفترض وجودها.

ولكن التجربة. التجربة! لا يريد أن يموت من دون أن يعرف معنى أن يقطف زهرة العذرية. وما هي العذرية؟ غشاء رقيق من اللحم بين الساقين. من المؤكد أن هناك طريقة للتحايل على العذرية. نحن في القرن الواحد والعشرين. لا بد من حل، أو حل وسط. ألسنا نعيش في زمن الحلول الوسط؟ قهوة بلا كافيين، كولا بلا سكر، صداقات إلكترونية، معاهدات سلام؟

يتناول جهاز الكمبيوتر.

خطر ببالها أنها تريد الألم أيضاً. طالما قالت إنّ لا شيء له قيمة يتحقق من دون ألم. تريد هذه البداية الرمزية لهذا الزواج الذي يكاد يكون مثالياً. تريد أن تريه أنها تثق به وتحبه، أنها لا تخشى أن تسلمه نفسها. تريد أن تراه يأخذ زمام الأمور في تلك الليلة ويريها ويعلمها وأن يشعر بكل ما يحتاج أن يشعر به قبل أن تبدأ حياتهم معاً فصلها الثاني. تتذكر جارتها المؤدبة وتفكر أنها تريد منحه كل ما يمكنها أن تمنحه تلك الخرقاء. تريد أن تكون أفضل شيء حصل له في العالم. لا تريده أن يتحسر وأن ينقم وأن يغضب. تدرك بسرعة أن جارتها وإن كانت عذراء لا تملك أية مقومات عليها. تتماسك نفسها. تتابع القراءة.

نظر إليها تقلب صفحات الجريدة وتستقر على مقال آخر. أسره جمالها. أراد أن يكون سعيداً معها مهما كلف الأمر. قرر أن لا يصمت. سار نحوها. وجد ملحق الإعلانات مفتوحاً بجانبها على فساتين الأعراس. أشار إلى أحدها. قلبت الصفحات وأرته واحداً آخر تفضله. وافقها. تحدثا عن شهر العسل، وماذا سيفعلان. سيسافران حول أمريكا اللاتينية لأربعة أشهر. وسيبقيان في سكنات الطلاب المتواضعة، ويتعلمان الإسبانية. تحدثا عن ليلة العرس وماذا سيقدمان للضيوف وكيف سيتداركان المواقف المحرجة التي سيتسبب فيها والده. ثم حل الصمت ونظرا إلى بعضهما بتأنٍ. تساءل إن كانت تفكر بما يفكر به. وعرف أنها فعلاً تفعل. استجمع قوته. أحضر جهاز الكومبيوتر المفتوح على صفحة لعيادة نسائية. وضع الشاشة أمامها ونقر على صفحة ترقيع غشاء البكارة. كانت هناك نجمة تبرق “سرية تامة” ومن ثم تفاصيل تشجيعية. “لن يعرف خطيبك أبداً – لا رعب من ليلة الدخلة بعد الآن – إبدئي حياة زوجية هانئة وسعيدة- لا تدفعي ثمن خطأ واحد طوال عمرك.”

نظرا إلى بعضهما البعض. هزّت رأسها مبتسمة عندما قال:

“حبيبتي، شو رأيك؟”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. تعبِّر القصة عن موهبة حقيقية. أدهشتني قدرة القاص الشاب على التعبير عما يجول في أعماق الشخصيتين، وخاصة الصراع الداخلي بين القيم التي نشأ الشابان عليها، وبين القيم التي تبنياها، وساهمت في رسم واقع علاقتهما؛ مما يفضح قيم المجتمع البالية.
    العنوان كان مناسباً للقصة؛ مما أعطي تشويقاً للقراءة، وأعجبت بالنهاية، غير المتوقَّعة، التي أضافت قيمة فنية للقصة.

    ننتظر المزيد من إبداع القاص وغيره من القصصيين الشباب.

  2. تفكيره طبيعي جداً وردة فعل طبيعية لأي رجل شرقي عربي!
    رغم أنه نام معها و رغم أنه مدحها و يدرك تماماً أنها رائعة و مثالية حتى في إسعاده لكن شرقيته تأبى إلا إن تحشره في تلك الزاوية أو ذلك النفق الضيق المسمى ” عذرية ”
    طيب ، حتى و إن عملت العملية ، هل ستتغير نظرة الشاب الذي فتحها قبله له إن رآهما معاً ، هذا مثلاً ؟
    إنه حل تزيني شكلي لا أكثر ، يرضي فحولته البهيمية فقط !

    هي مخطئة من البداية أن سلمت نفسها لرجل ، شرقنا الذكوري هذا لا يحتمل تلك الفكرة مهما كان من ستتزوجه حتى إن “فتح” قبلها مئة ، يريد أن يتزوج من عذراء و كأنه سباق ويريد الفوز بالوسام الذهبي لا محالة !
    هي ساذجة إن صدقت أن هناك رجل يتخلى عن شرقيته بسهولة ،
    و ساذجة أنها تريد القيام بما يسعده فقط ، هي تريد أن تريه ،أن تسعده ، أن يريها ؟! كلها ضمير غائب و أين شعورها هي كضمير مستقل ؟
    لو كنت مكانها لتركته و لن أقوم بأي عمليات ، أنا كما أنا إن أحبني فليحبني بعلاتي و سيئاتي مهما كانت ، غير ذلك فعليه أن يبحث عن طلبه بعيداً عني !

    أطلت في الحديث لكن قوة الفكرة التي بنيت النص عليها يا معن هي السبب : $
    جميل جداً أن طرقت الحدبث عنها ، سردك مترابط و متسلسل، أعجبتني لغتك التي استمدت قوتها من قوة الفكرة .

    فيي اقتبسها ؟
    و بعتزر اني طولت مرة تانية( f )

  3. يا الهي كم هو رائع ومشوق هذا الموضوع
    … اشكر الأخ فراس الذي انهزني هذه الفرصة للاستمتاع بقرائة هذه القصة
    رائع … رائع ان هناك سلطة ثانية للبث

  4. جامد جداً.. حبيت..

  5. قصة قوية

  6. محزن.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>