هكذا جعلت مني أمي جار-ثومة/ سحر مندور

بدت ملامح الغرام تطفو على وجهي، لكنه كان موجّهاً لناصر، أولاً: مهتمّ بالفن، يقبرني!

هكذا جعلت مني أمي جار-ثومة/ سحر مندور

(خط: نايف شقور)

.

|سحر مندور|

وعدت نفسي بأن يمرّ اسمها في كل رواية أكتبها، تماماً كما يزرع المؤمن اسم إلهه في أنحاء البيت والممتلكات.

عندما وقعتُ في غرامها، لم يكن صوتها الذي خطفني مني إليها أولاً، وإنما قصصٌ تُروى عنها، عن شخصيتها. بها، سخّرتني، وبتّ من أتباعها.

أنا أؤمن بمذهب أم كلثوم.

فهي، إن بصوتها أو بشخصيتها، مرعبة الذكاء. ذكاءٌ صقلته بالتتلمذ، ودعّمته بحس “اللذاعة”. والنكات المنقولة عنها خير دليل على ذلك.. وهي كانت مدخلي إليها.

قالت يوماً لفريد الأطرش عندما غنى أمامها، في بيتها، للمرة الأولى: هو اسمك الكامل كان إيه يا فريد؟ فأجابها: الأطرش، يا هانم. فبادرته سريعاً، وهي تضحك: يا بختك!

لسانها سليط.

وعندما صدفها نجيب حنكش في بهو فندق شهير في بعلبك، انهار سعيداً، وقال لها: أنا كمان نازل في الأوتيل هنا يا ست، أنا نازل جنبك! فأجابته، سريعاً، وهي تضحك أيضاً: الله! تبقى أنت جار-ثومة!

قصص كتلك، رواها أبطالها، ونشرت في صحف الأمس. فنقلتها من الأمس أمي إلي، وكنت قبلها أرفض سماع أم كلثوم.

لماذا؟

لأني كنت أدمن عبد الحليم، وأتحزّب معه ضد فريد الأطرش (طبعاً!)، وأعشق أحبابه وحبيباته، كشادية في الغناء وبليغ في الموسيقى. فقد كنت أترعرع حينها في جوّ حرب أهلية، وأعتبر أنّ العلاقات الفنية تُبنى على الأساس الحربيّ ذاته: أن أكون من حزب عبد الحليم، يعني أن أتفرّغ لمعرفته والدفاع عنه حتى الموت، وبناء الأحلاف والعداوات انطلاقاً من انتمائي الحزبي هذا.

وفي رحلة البحث عن المعلومات، اكتشفت أن لي على أم كلثوم ثأرًا.

كنت في الثانية عشرة من عمري، وكانت أمي تحبّها. أسمعها، تتسرّب إليّ من محيطها. لا تصدر عن محيطي، فأنا من حزب عبد الحليم. ماما تحبّ عبد الحليم، تحبه كثيراً، وتركت لي حرية التحزّب، من دون أن تهمل إلقاء كلمة في أذني، مرة في الشهر تقريباً، وبلا اكتراث، وكأنها صدفةٌ مرّت بها: أم كلثوم بدها نضج.. بكرا لما تكبري، بتتعلمي تقدّريها.

كلمتها تلك كانت تستفزّني! أنا كبيرة، وحبي لعبد الحليم لا يأتي من نقصٍ في الوعي، وعلاقتي بأم كلثوم مبنية على مبدأ! ألم “تقمع” عبد الحليم وهو “غضٌّ غرير”؟ وما أن فاز بإعجاب الناس، كل الناس، حتى اشترطت أن تغني قبله في حفلة عيد الثورة، التي يحضرها عبد الناصر، فغنت لأربع ساعات، حتى اختنق هو بغضبه، وخرج يقول للناس وللريّس: شرف إن الواحد يغني بعد أم كلثوم، بس مش عارف النهارده، ده كان شرف ولّا مقلب! وترك خشبة المسرح، فأرسل له عبد الناصر من يطلب منه الغناء، واعداً إياه بالبقاء حتى نهاية وصلته.

لماذا تضعه في هذا الموقف؟

فهو عصاميّ!

ماما: وهيّ عصامية أيضاً.. تلك قصص معروفة عن أم كلثوم.. ألم تذهب بزكريا أحمد إلى قاعة المحكمة؟

زكريا أحمد في المحكمة؟ نعم، والخلاف حول المال!

مرّت سنة من الممانعة الشرسة، انتهت إلى لحظة تخلّي، سمعتها خلالها، كرمى لعبد الناصر، فقط.

فلقد حصل أن اكتشفت أنّ لعبد الحليم أغنيات وطنية، ولقد حصل أن اكتشفت أنه كان مطرب الثورة، وكان اشتراكياً، ومن أغنية إلى أخرى، وصلت إلى نشيد جمهورية مصر العربية “والله زمان يا سلاحي”، ومن نزار قباني إلى “أصبح عندي الآن بندقية”، وبجهد بحثي الشخصي، استسلمت تماماً تحت وطأة “مصر التي في خاطري وفي فمي”.

من الوطني، إلى الحبّ.

كانت هناك صديقة لأمي، مُرّة في مقاربتها للحياة، تقول دائماً (وأنا صغيرة ألهو بينهن)، إنها تحبّ أم كلثوم فقط في غنائها الصدّ، والكرامة للمرأة، و”عزّة نفسي مانعاني”. وكانت تحكي عنها كلاماً قاسياً، وبقرفٍ، عندما تصف أغنيات “الإنبطاح العاطفي قدّام الرجّال”، وما الذي يحصل يعني لو “مرّ يوم من غير رؤياك”؟!

كان كلامها يغريني، لأنّ به ثورة. لكن ماما كانت تربكني، إذ كانت تقول لها بهدوء شديد، وكأنّ كلام الصديقة لا يستفزها (لو سمعته أنا عن عبد الحليم، لكانت وقعت قنبلة نووية في البيت): لا يا سعاد، ما معك حق.. في أحلى منها وهي عم تقول “رقّ الحبيب وواعدني”.. شو الحب كله حروب؟ الحب في حلا، وأم كلثوم واصفة إحساس المرا بكتير لحظات حب.. المرا بتحب، مش بس بتحارب..

أمي إمرأة طلقت زوجها، وتجري تلك الأحاديث بعد الطلاق. همممم… ليس الحب حرباً فحسب، إذاً؟

استرقت السمع.

لاحظت أمي استراقي السماع لأغانيها. لم أعد أفتي بالآراء، وإنما بتّ أنصت، بحاجبين مرفوعين. قالت لي: ابدأي من “إنت عمري”.. يوم نزلت إلى الأسواق، أفقدتنا عقلنا.. بتعرفي يا سحر، قبلها، لم أكن أحب أم كلثوم، كنت، كما بنات وأبناء جيلي، أشعر بأنها للكبار، مطربة قديمة.. لكن “إنت عمري”، جننتنا! تسلم إيدك يا عبد الناصر عليها..

عبد الناصر؟ ماذا عبد الناصر؟

فتخبرني ماما بأن بطل مراهقتي، ناصر، تدخّل بين عبد الوهاب وأم كلثوم، منهياً قطيعة الغيرة الفنية بينهما، طالباً منهما التعاون، وكانت أولى نتاج هذا التعاون “إنت عمري”.

بدت ملامح الغرام تطفو على وجهي، لكنه كان موجّهاً لناصر، أولاً: مهتمّ بالفن، يقبرني!

وتكمل قصتها: وفي قصة مشهورة عن عبد الناصر، إنو كان يسمعها على راديو ترانزستور صغير لما كان محاصر بالفلوجة بحرب فلسطين بالتمانة وأربعين، لما صارت صفقة السلاح المغشوش. وبعدين، لما عمل الثورة، انمنعت أم كلثوم من الإذاعة، بأمر من رئيس الإذاعة. استفهمت أم كلثوم، فقالها إنو الأمر جاي من قيادة الثورة. اشتكت أم كلثوم لعبد الناصر، فنفى تماماً علاقته بالقرار، واتصل برئيس الإذاعة، الذي شرح له: “أم كلثوم من العصر البائد يا افندم!”، فأجابه: “والأهرامات كمان.. نروح نهدّها؟”.

الـ غرام.

استسلمت لقصصها قبل الاستسلام لصوتها!

قصة تلو الأخرى، وكانت أمي تمهّد الطريق لإرساء سطوة الست عليّ.

وتوالت القصص، ومعها السماع: من بكاء بليغ حمدي لما أخطأت في غناء أولى أغنياته لها، وكيفية تعويضها عليه بأجمل الطرق، إلى بكائها هي على عبد الناصر خلال أداء “دارت الأيام”، ومن جولات التبرّع للمجهود الحربي بعد النكسة، إلى عصر السّادات والاحتكاك الأول مع السيدة الأولى “الجديدة”..

ولكن، لا مفرّ من التوقف عند ما اكتشفته أنا لاحقاً، عندما أبحرت فيها.

القصبجي أغرم بها، وعذّبته في موسيقاه.

رامي أغرم بها، وعذّبته، ثم غنّت له كلمات عذابه، وكأنه عذابها هي من حبيب مجهول.

كتبت مرةً أن “أم كلثوم تغني الشيء ونقيضه”.. تسبّب الوجع لقلب رامي، ثم تغني هيامه بها وبوجعها، كأنهما ملكها، كأنها تشعر هي بهما، وهي بالتأكيد تفعل، بطريقة أو بأخرى، فهي سببهما. كأن أغنيتها جريمة حب!

ثم قرأت كتاباً اسمه “كان صرحاً من خيال” لسليم تركية، من ترجمة بسّام حجّار، وعرفت أكثر. عرفت ما لن أقوله لكم، وأحببتها أكثر.

وبعد الحب، كان طول السماع.

وبعد طول السماع، كان الخضوع برأس مرفوع.

وبعد الخضوع، استمر الانبهار..

مرّت الأعوام، واستمر الانبهار.. كأنها دائماً المرة الأولى، لكنها، في كل مرة، أغنى، فهي تشبع المعاني بالمستويات.

كلما صدفتها على شاشة تغني، أوقظ كافة أدوات الإدراك فيّ. أبحث في صوتها عن شمولية المعنى، ولا أطال كافة مستوياته. أبحث في حركتها ووجهها عن مصدر ذاك الهوى كله، فأهيم أكثر ولا يكتمل فهمي. أبحث في جمهورها عن إمكانيات هضم اللحظة، فأتشارك الداء لا الدواء.

فيها الكثير، وهو مستمر رغم وفاتها.

فيها الكثير.

أعرف قصصاً كثيرة عنها، قصصاً رائعة، ولئيمة، وذكية، وبخيلة، وماجنة، وسلطوية، وحلوة، وباكية… وأريد أن أعرف المزيد.

فأنا لن أكتب في حياتي قصةً، لا يرد اسمها فيها. لا لأنّ ذلك وعدٌ قطعته على نفسي، وإنما لأنّ قصتي، لو أتت يوماً رديئة جداً، لا مفرّ من أن تحضر فيها كلمتان جميلتان، هما اسمها.

*كاتبة وصحافية لبنانية مصرية

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>