حول إمكانية دراسة النظم الاستعمارية:فلسطين نموذجاً/ إسماعيل ناشف

مقدمة كتاب “النفي في كتابة إسرائيل: أبحاث فلسطينية حول المجتمع والنظام والدولة في إسرائيل”

حول إمكانية دراسة النظم الاستعمارية:فلسطين نموذجاً/ إسماعيل ناشف

>

|إسماعيل ناشف|

إسماعيل ناشف

من المسائل الأساسية التي يواجهها الفلسطيني اليوم هي قضية تأطير فهمه للنظام الاستعماري الذي يخضع له. إذ لم يعد هنالك جسد سياسي معرفي أخلاقي يُمكِّنه من بناء مشاريع تحررية من هذا النظام.[1] إن التحرر من النظام الاستعماري ليس بخيار وإنما ضرورة نابعة من شكل هذا الصراع والتناقضات التي يحملها في بنائه العام. وذوبان الجسد الوطني السابق أدى إلى حالة من سوء القراءة، وذلك إلى جانب ممارسة أكثر سوءاً بالمجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. ولكن هذا السوء هو شكل اجتماعي تاريخي وليس أخلاقيّاً، أي أن ما يحدث الآن فلسطينياً هو إلى حد بعيد سيناريو مشتق من طبيعة النظام ذاته وليس تطويراً أو خروجاً على العلاقات التي تضبطه.[2] فمثلاً، أن الحديث الشاكي عن القمع والاستغلال اللذين يمارسهما المُستعمِر هو جزء داخلي من آليات القمع والاستغلال ذاتها وهي ضرورية لعمل هذه الآليات، أي أنه ممارسة فلسطينية مشتقة من بنية النظام.

من الممكن القول إن أغلب أشكال الفهم والتأطير الفلسطينيين للنظام الاستعماري في فلسطين نابعة من آليات إنتاج خطابيّة نظاميّة.[3] وهي بهذا جزء بانٍ للأجهزة الاستعمارية التي مجتمعة تُشَكِّل بنية النظام ككل. ولعل أبرز هذه الأشكال هي الفهم الأساسي حول جوهرانيّة المجموعات السكانية القائمة بفلسطين وضرورة التعبير عنها بدولة القومية، والتي أُسْدِلَت كستار إيديولوجي كثيف على واقع إعادة موضعة فلسطين كمحطة في النظام الرأسمالي يجب توطينها بمجموعات سكانية ذات مميزات محددة لتقوم بوظائفها النظاميّة بالأساس. إن هذه الظاهرة التاريخية الاجتماعية والتي يتم بها إحلال مجموعات سكانية بدلاً من مجموعات قائمة ليست بجديدة في التاريخ البشري كما نعرفه اليوم. قد يكون الجديد، أو اللافت للنظر، في السياق الفلسطيني هو مميزات هذه الحالة الخاصة من حيث كثافة وشمولية قصة الإحلال، وهذه ميزة رأسماليّة بامتياز.[4] لقد قبل أغلب المفكرين الفلسطينيين هذا الستار الكثيف، وتم التماهي معه بحيث تمت إعادة إنتاجه فلسطينياً، وأحياناً عربياً و/أو إسلامياً أيضاً، أي أن الهدف الأساس والأسمى للجماعة الفلسطينية دولة قومية فقط لا غير.[5] قد تكون هنالك أبعاد موضوعية في هذه الأشكال من علاقات التماهي مع وفي داخل النظام الاستعماري والمجموعات المختلفة القائمة به، إلا أن هذه الموضوعيّة في هذه العلاقات متحوِلَة وليست ثابتة.

يتبادر هنا السؤال حول المساحات الممكنة للتفكير ولتأطير النظام الاستعماري في فلسطين كما التحرر منه خارج آليات النظام ذاته. هنا، من الممكن البدء بنقد المنظومة السائدة في هذا السياق والتي تعرّف على أنها حالة متقدمة من التفكير في سياق التناقضات بين الجماعات المختلفة من البشر، وهي التوجه النظري حول الأنا والآخر.[6] ففي السياق الذي نحن بصدده، الاستعمار في فلسطين تحديداً، كل محاولة لفحص الأنا عبر الآخر تصبح، بالضرورة، تحويرًا على بنية التبعية للآخر الرأسمالي الأوروبي بطبعته الاستعمارية الاستيطانية. فهذا الشكل من فحص الأنا يموضعها والآخر على ذات المسرح وكأنهما حالة من التساوي في التضاد أو العكس أو الأخروية، أو ما شئت من مسميات ترد الاختلاف في النشأة والعمق التاريخي العربي الإسلامي إلى لحظة صعود النظام الرأسمالي السائد واكتمال سيطرته في أواسط القرن التاسع عشر. بعبارة أخرى، فإن البنية الاستعمارية الراهنة تحتم على الفلسطيني أن يرفض علاقة السيد/العبد الهيجيليّة كأرضية معرفية، وليس رفضها كأرضية سياسية فقط، إن أمكن هذا الفصل بين السياسي والمعرفي أصلاً، وذلك بالعودة إلى، ضمن أشياء ومحددات أخرى، الطبقات العمودية للذات العربية الإسلامية زمناً مكاناً وفضاءً مرجعياً يحوي الذات ويشكلها من جديد في حركاتها المتشعبة في مقاومة النظام وتقويضه. والسؤال كيف نعود لننتشل، لننشال، ونتشكل في الحرية من النظام القائم من دون إرباكات قد تحتمها العلاقة الأفقية مع هذا “السيد”؟

مما لا شك فيه اليوم أن العلم الحديث هو المشروع المعرفي الذي تشكّل على أساس كونه جزءاً من النظام الإنتاجي العام. هنالك العديد من الدراسات التوثيقية، كما النقدية، التي تعيد موضعة العلم الحديث، و/أو مميزاته الأساسية، في سياق التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الراهنة. السؤال الأساس هو في محاولة البعض استخلاص شكل معرفيّ ما لا يخضع للنظام السائد، هو نتيجة تراكم تاريخي، أي نوع من العمل الذهني المُتشييء في شكل وعي ما عبر تاريخي.[7] الحداثة العلمية هي الطبقة الآنية في معمار المعرفة البشرية، إلا أن شكل هذه الطبقة وطريقة عملها هي تاريخية وليست ضرورية. لا توجد معرفة خارج العملية التاريخية الاجتماعية، وهذا الجانب هو الموضوعيّ فيها، ولكن هذا التموضع لا يحتم معرفة من نوع و/أو شكل ما وإنما يفتحها على احتمالات عديدة يتحقق جزء منها وآخر يبقى في حالة المحتمل. هذا النقد لا يخرج من الحاضنة الأوروبية البيضاء، في لحظة خروجه الاستعمارية، نرى أن مسالك العلم الحديث بما هو معرفة تورده مقامات أخرى.

في السياق الاستعماري، فإن أغلب الممارسات العلمية كانت جزءاً تأسيسياً من بناء الإدارة الاستعمارية للمجتمعات المختلفة وصيانة هذه الإدارة بحيث تحافظ على قدرة عالية من إنتاج الفائض الربحي وجنيه بأقل تكلفة ممكنة.[8] لذلك إن المقولة بأن على المستعمَر أن يتقن الحداثة العلمية وأن يسخرها لمشروع تحرره أو انعتاقه من المستعمِر هي، على الأقل، إشكالية من الدرجة الأولى. فهذا التوجه يؤدي إلى تحويل المحتمل الانعتاقي لدى المستعمَر إلى شكل محدد من صورة المستعمِر، مما يكرِّس التبعية بمستويات قد تحمل لحظة الانعتاق اللا-حداثية. في نموذج دولة-القومية الذي نتج عن حركات التحرر الوطنية من الاستعمار الغربي، نلاحظ مرة تلو الأخرى تكرار هذه التبعية النافية، ضرورة، لاحتمال الانعتاق الكامن في لا-حداثية الثقافات المستعمَرة وتاريخها.[9] والحالة الفلسطينية ملفتة للنظر من حيث أنها لم تنجح، لغاية الآن، حتى في ممارسة إتقان الحداثة العلمية وتسخيرها في مشروع الانعتاق الوطني. وإذ لسنا بصدد الخوض في تفاصيل الفشل هنا، نكتفي بالإشارة إلى أنه بنيويّ ولا يتعلق بمبادرات فردية وجماعية هنا أو هنالك.[10] في سياق هذا المقال أريد التركيز على مشروع معرفيّ بديل تحرري من المشروع العلمي الحديث، كتناظر معرفي للحامل السياسي الباحث في الانعتاق، ولكن المتجاوز له في الأفق التاريخي الاجتماعي، وهذه فضيلة المعرفة، إن جازت هذه الملاحظة العبر-تاريخية.

1.

من الممكن تأطير البحث المعرفي النقدي كرافعة في مشروع التحرر والانعتاق الإنساني من الظلم والاستغلال أياً كان منبعهما وشكلهما. أبداً لا يحمل البحث النقدي جسراً يوصلنا إلى حقيقة غائبة مفادها أن الواقع القائم لا بأس به كحالة اجتماعية تاريخية، و/أو سياسية بحتة. إن البحث النقدي يؤسس لموقف عن/اتجاه واقع التاريخ الاجتماعي، وفي تأسيسه له يساهم في صياغة الواقع وتوليده. قد تختلف وتتنوع الأشكال الممكنة لهذه الصياغة والتوليد للواقع، وذلك بناءً على السياق التاريخي للبحث النقدي كما على إبداعيّة الباحث/ة الذي صمّمه ونفذه.[11] إن هذا التنوع في الصياغة العاملة في الواقع لا ينفي عنها حمولتها المعرفية، أي خاصية البحث النقدي، بل يزيل الستارة الإيديولوجية عن تنافذ المعرفة وانشباكها بمستويات الواقع المختلفة.[12] لا توجد معرفة ككيان عائم في وحول المجتمع وتاريخه، المعرفة هي المجتمع من حيث أن الأخير شكل من العمل الجماعيّ. في هذا الجانب منها، المعرفة هي السائل الذي يُشغِّل مفاصل التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وامتداداتها. في سياق العمل الاجتماعي يتم التشغيل الإنتاجي لأن المعرفة هي تركيم نوعي لأشكال متعددة من العمل تصبح كجزء من وسائل الإنتاج وعلاقاته.[13] العمل في السياق الرأسمالي هو أوسع وأشمل اجتماعياً من العمل داخل السوق، ومن هنا وبالرغم من حصر المعرفة الممكنة بتلك المتداولة في السوق إلا أن أنواع المعرفة المتراكمة والمنبثقة عن العمل الاجتماعي عامة هي متعددة وغير قابلة للحصر مسبقاً بسبب من الطبيعة التوليدية لكليهما، العمل والمعرفة. المعرفة، إذاً، هي شكل من أشكال العمل. يتطلب هذا الشكل من التحليل التطرق للنظام العلمي الحديث في شكله القائم، ذلك الذي هو جزء من عملية تشغيل النظام الرأسمالي السائد كما إعادة إنتاجه، والسعي إلى توضيح أوليّ لملامح البحث النقدي الذي يحل تناقضات الشكل الأول على أرضية تاريخية استعمارية، ليرى إلى أفق تجاوز النظام الرأسمالي السائد.

دعونا نتأمل بنية النظام العلمي الحديث من حيث هي مفصل في البناء الرأسمالي العام. من الممكن متابعة هذا المفصل على مدى الحقب والأطوار المتتالية التي مرّ فيها داخل النظام العام، ولقد تمت في هذا الاتجاه العديد من الأبحاث. وهي غالباً ما تتسم بنوع من النعومة الإصلاحية في التعامل مع النظام العلمي السائد، وذلك كونها تسعى لتحسين أدائه داخل النظام الرأسمالي عبر مقارنة المراحل المختلفة التي مرّ بها. ولكن من الممكن محاولة تخليص موقع المفصل العلمي في النظام الرأسمالي وذلك بما هو انبثاق عن ولحظة تشكيل لمنطق العمل الرأسمالي. في هذا لن يتم البحث في مضمون مجال ما في العلم، و/أو في تطوير هذا الجانب أو ذاك منه، وإنما تخليص راسم لمنطق العمل العلمي. التخليص يهدف إلى تحديد آليات التي من خلالها يتم تفعيل منطق العمل العلمي، بينما الرسم سيسعى إلى وضع هذه الآليات في صياغة محددة خطابية وأدائية كنوع من التركيم المعرفي. إن هاتين الخطوتين من التخليص والرسم هما بمثابة شرط ضروريّ لإنشاء مشروع بحثي نقديّ يفتح أفقاً في التجاوز المعرفي والتقويض للنظامي في السياسيّ.

يتسم العمل العلمي الحديث بكونه منظومة علاقات شكلانية هدفها الأسمى توليد معرفة تبادلية كونية لا تخضع لأي عامل سياقيّ زماني مكاني و/أو أي عامل من نوع آخر. فمثلاً، أن أ يؤدي إلى ب في حال توفر ج يجب في الحالة الأمثل أن ينطبق على كل الحالات التي تسعى لتحصيل ب. من هنا، فإن منطق عمل العلم الحديث يبحث في درجة من التعميم تجعل تداول المنتج المعرفي ضرورة بالمستوى الكوني. هذا للقول، وبعكس المُعلن العلمي، أن هدف العلم الحديث ليس فحص عمل الواقع والتنبؤ به للسيطرة عليه وتوجيهه لمصلحة المجتمع البشري، وإنما تحويل مستويات الواقع المختلفة إلى هيئة محددة من بنية المعرفة هذا بحيث أن يتبع الواقع المعرفة ليتشكل بحسبها في نهاية المطاف.[14] ويبدأ هذا المسار للعلم الحديث من خلال إحلال نظام معرفي واحد سائد، يعمل من خلال أجهزة ضبط ورقابة وعقاب.[15] القراءة العلمية هي واحدة، لها بنية تمكّن تحويرات ولا تتيح صعود بنى أخرى. أما بالنسبة للكتابة العلمية فدرجة الصرامة والجمود التي تتميز بها تحيل إلى أنظمة مطلقة التحكم وشمولية المنحى. وتناظراً مع المنطق التوسعي للمنظومة الرأسمالية فإن هذه الأشكال من القراءة والكتابة العلمية تتوسع باستمرار، أي أنها تقوم بتفكيك، وأحياناً حتى تدمير، أي نوع آخر من الممارسة المُنتجة للمعرفة خارج المؤسسة العلمية. هذا الحصر هو آلية عمل هدفها هو إحلاليّ بمعنى تبديل تناقضات الواقع المعاش التاريخي الاجتماعي بواقع ذي منطق عمل واحد هذا بحيث يبدو الواقع كنتاج للعمل الخاضع للمؤسسة العلمية، من جانب، والمرتبط بواقع السوق ومحكوم به، من جانب آخر. هذه الهيئة من الظهور، المعرفة ممكنة فقط عبر المؤسسة العلمية والسوق، لها على الأقل وظيفة مزدوجة، فهي من جانب تحدد أنواع المعرفة الممكنة ولكنها بذات اللحظة تحدد أيضاً من يمتلكها كقوة/وسيلة إنتاج تعمل ضمن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية العامة، من جانب آخر.

الهيئة الأساسية للظهور العلمي في الحداثة هي لتلك المعرفة التي تعطي، و/أو تكرّس، حلولاً تكنولوجيّة لتناقضات اجتماعية تاريخية ذات أساس مادي تاريخي بامتياز. مثلاً، علاقات تناقض بين الفرد وزمنه الاجتماعيّ، أي العمل المُنتِج، تُرَد إلى تطوير آلات تكنولوجيّة تقوم بوظائف الفرد بزمن أقل ونجاعة أعلى، هذا بحيث “يتغلب” الفرد على زمنه الاجتماعيّ. فتطوير الآلات التكنولوجيّة الساعية للعمل كامتداد للإنسان في الطبيعة المادية، يُلزم نوعا محدداً من المعرفة ذات طابع أداتي نظامي، أي منطقها محكوم بالوظيفة التي ستقوم بها، وهي جزء من النظام الكلي الذي يحتم نوعا من الاتصال بين هذه الأدوات.[16] بهذا فالمعرفة العلمية في السوق هي إما تعنى بكيفية بناء الأداة، أو تعنى بتطوير لغة أداتية تسهل عمل الأدوات كمجموعة شبكيّة. أنواع المعرفة الممكنة و/أو المحتملة الأخرى تصبح غير ذات صلة بالآن والهنا، وتبدو كأنها من عهد جغرافي آخر، غير مرغوب فيه في هنا الآن. وقد يفسر هذا جوانب من التحول الرئيس الذي شهدته المنظومة الرأسمالية الرئيسية من التكنولوجيا إلى تكنولوجيا المعلومات وتداولها شبكياً. الملفت للنظر في هذا السياق هو تعميم هذا النوع من الحلول للتناقضات الاجتماعية إلى مجالات أخرى، قد يكون أهمها في السياق الرأسمالي المتأخر مجاليّ المهنة والقانون.[17]

 يقوم العلم الحديث بوظيفة أساسية اليوم من حيث أنه ينتج مختصين/ات يلبون احتياجات السوق المختلفة. البنية المعرفية الأداتية للاختصاص تتميز بأنها، من جانب، ضيقة الأفق أي أنها لا ترى إلا مجالها المحدد مسبقاً، وأسلوب مواجهتها لتناقضات المجال العيني هو إجرائي تقني يشتق تناظرياً من هيئة الحل التكنولوجي لتناقضات اجتماعية تاريخية ومادية، من جانب آخر.[18] هذا الشكل المعرفي ليس وليد تطورات وعلاقات تناقضية ذات طابع تحرريّ، بالمعنى الذي أفرزته الحداثة الأوروبية في القرن التاسع عشر. فالعلم هنا لا يحرر الإنسان من قيود الطبيعة والمجتمع، إنه يصنع قيوداً من نوع جديد. تتشكل المعرفة بقالب الاختصاص لتقف على خط التماس الموازي للسوق لتتحول من ثم، بدرجة عالية من الانسيابية والأناقة، إلى بضاعة تتمفصل في موضع محدد من شريط الإنتاج العام. إن المعادِل الاستعماري الراهن لهذا التوجه في المركز الرأسمالي، يتم في مجالين أساسيين هما المهنة والقانون.

من حيث المبدأ المُشكِّل للنظام الرأسمالي ولتقسيم الوظائف داخله، لا توجد عملية إنتاجية مادية-معرفية في المجتمعات المستعمَرة. فالنظام الاستعماري يعمل على تفكيك البنى الاجتماعية الاقتصادية الإنتاجية خالقاً علاقات تبعية مربحة، التابع هو المستعمَر والرابح هو المستعمِر. اليوم، التبعية تقوم على جهاز يعمل كوسيط ينمّط العلاقات بين جهتي الصراع الاستعماريّ؛ هذا الجهاز يعمل بالمستويين الجماعي والفرديّ. فمن الجانب الجماعي يتم تحويل الخطاب الثوري إلى خطاب قانوني. أما بالنسبة للأفراد فيتم تحويلهم من مناضلين إلى مهنيين. هذان الجانبان تتم عملية إنتاجهما وتسويغهما في الأكاديمية معبد الإنتاج المعرفي العلمي الحديث. القانون والمهنة، إذاً، في هذا السياق هما شكلان تقنيان لقولبة وحل التناقضات الأساسية في النظام الاستعماريّ المتأخر.

لنبدأ من المهنة. كيف يتحوّل الثوريّ إلى مهنيّ؟ يتم استخدام المفهوم المهنيّ الحديث، بعكس الصانع أو صاحب الصنعة، كميزة من ميزات الحداثة الأساسية. فالمهنة هي هوية مكتسبة تعتمد بالأساس على مسار مؤسساتي من التعليم والتدريب بحيث يمتلك المهنيّ معرفة عملية بأساسها تنطبق وتُطَبق على كل مكان وزمان. في أفضل حالاتها، المهنة تكون مبنية على اشتقاق سياقات تخص بالمكان والزمان العينيين، ولكنها تفعل ذلك لكل زمان ومكان مُمكنَيْن وبهذا فهي كونية. في مقابل ذلك، بدأ ذلك الثوريّ من سياق أفرزه وحدده، ليشمِّر عن ساعديه عائداً منه إليه. عانت، ولا تزال، المعرفة الثورية الكونية على أطيافها المختلفة من الحدث المتجدد أبداً. الحدث الثوريّ يحمل نفي إمكانية حصره في لوائح وتنظيمات عامة؛ هذا النفي هو ما يحدد هوية الثوريّ، بالضرورة. من هنا فالمهنة نفي قاطع للثوريّ ومعرفته، وذلك من حيث كونها حل إجرائي لتناقض مادي تاريخي. الممارسات الاستعمارية في طورها المعاصر تعمل جاهدة على تفكيك سياق الحدث الثوريّ وإحلال لغة المهنة كبديل وحيد ممكن للأفراد المستعمَرين لكي يستطيعوا العيش.[19]

ينطلق القانون في صيغته الحداثية من أرضية معرفية تقول إن كل البشر الذين يقعون تحته هم ذات الشخصية الفردية العاقلة السيادية.[20] من هذا المنطلق، كل التناقضات الممكنة اجتماعياً اقتصادياً سياسياً جنسياً، و/أو أي مجال آخر، بين هؤلاء الأفراد من الممكن حلها بحسب خطوات اشتقاقية تفسيرية من صيغة القانون وروحه. قد يكون هذا المُرَكَب الحداثي لحل الصراعات الفردية منبثق من النظام الرأسمالي، ولكن الإشكال عندما نقوم بعملية إزاحة هذا المُركَب إلى تناقضات بين جماعات قومية، و/أو أخرى. في العادة، يتم استخدام القانون في السياق الاستعماري للمساواة بين الضحية والجاني على أمل ترسيخ علاقات القوى القائمة وتحديث صيانتها. عنصر أساسي من عملية الترسيخ هذه هي المعرفة القانونيّة من حيث إعادة موضعتها كأرضية مؤسساتية يقف عليها “المتنازعون”، من جانب، وكسقف لما يمكن أن يطمح إليه المُستعمَر، من جانب آخر. أما المستعمِر، في امتلاكه لوسائل الانتاج المادية والمعرفية، فهو بالضرورة لا يخضع لهذه الإجراءات وإنما يُفعِّلها عند لقائه الرمزي العنيف بالمستعمَر. من هنا، فالقانون في السياق الاستعماري، على الأقل، أبداً لا يشكل معرفة انعتاق، القانون هو نفي لحالة الانعتاق في حَوْمِها كمعرفة ممكنة.

إن أي فحص إحصائيٍّ بسيط للمجتمعات المُستعمَرة الآن، على اختلاف أطوار الاستعمار في الوقت الراهن، يبرز مدى شيوع المهن القانونيّة ونفاذها في أواسط من قد يُعوّل عليهم/ن في عملية التحرر والانعتاق من الاستعمار. المهن القانونيّة ليست محصورة بمجال و/أو مضمون اجتماعي ما، وإنما هي توجه عبر-مجاليّ يُقَوْلِب المجالات المختلفة بهيئة معياريّة شاملة للفعل الاجتماعي كله. فمثلاً، قد تعمل في علم النفس أو في الفن أو في مجال الفندقة، هذا يتطلب منك ليس إلماماً بالموضوع بقدر ما هو مهارات معياريّة نافذة للتعميم. فالعمل مع الأطفال يصبح سعياً في التصريح عن حقوقهم/ن، من جانب، وهندستهم/ن بما يتلاءم ومقاسات هذه الحقوق، من جانب آخر. في المجالات الفنية والأخرى التي تتسم بنفي المعيارية كميزة محددة لها، تصبح هذه المهن القانونية أقرب إلى نوع من التشويه المباشر للمجال المضامينيّ ذاته، وذلك من حيث إضافة نوع إلى نوع آخر ليس منه. مثل، حقوق المرأة في عمل فني ما. إن المعيارية تمكِّن تحويل الأفراد الفاعلين المنتجين للمعرفة، في شكلها كعمل واع للواقع الذي يفرزه وينبثق عنه، إلى سلسلة من النسخ، عن أصل لم يكن، يتم تداولها بغية السيطرة عليها من بعيد. هذه النسخ تشبه، إلى حد كبير، بريقاً يلمع دون مصدر للضوء. فالنسخة لا تحمل الرغبة الأولى في الحياة، أساس العمل والمعرفة العاملة، وإنما تعيش حالة من اللهاث وراء بريق الرغبة التي تحققت فانتهت في أمكنة وأزمنة أخرى.

إن المعرفة الأصيلة التي تغرف من مادة الحياة لا يمكن لها أن تكون نسخة فهي حدث الحياة بامتياز. في السياق الاستعماري، كما نوهنا، أعلاه فإن الانعتاق ضرورة بنيوية من الطبيعة التاريخية لهذه الأنظمة. فهذا النوع من الأنظمة، وبتحوير على مقولة ماركس اتجاه النظام الرأسمالي، يحمل مقومات تناقضية هي كموناً إحداثيات تقويضه. إن إخراج هذا الكمون من حيزه إلى تحققه هو حدث الحياة في السياق الاستعماري. والملفت للنظر، أن حدث الحياة الاستعماري ينهي حالة الاستعمار التي هو، كحدث، منها. والمعرفة الأصيلة هنا هي تلك التي تستخلص المقومات علاقاتها وأشكال كمونها كإحداثيات تقويضيّة، لترسمها من ثم في صياغة خطابية وأدائية محددة كنوع من تركيم العمل المعرفي. من الممكن أن يتشكل تركيم العمل المعرفي كأطر ذهنية شعورية، قد ترتقي إلى شكل من أشكال الوعي، التي تحدد، وإن بشكل عام، سلوكيات التقويض الجماعية المُمنهجة. ولعل فلسطين من أشد حالات الاستعمار حاجة لهذا الشكل من العمل المعرفي، والمعرفة العاملة، بعد انسداد مسالك العمل الثوري الانعتاقي فيها منذ عقدين ونيّف.

إن انسداد مسالك العمل الثوري الانعتاقي في فلسطين هو في واقع الأمر هيئة ظهور تُعَبِّر عن تموضع النظام الاستعماري في فلسطين في النظام الرأسمالي العام. فلقد أخذ هذا النظام الاستعماري دوراً أساسياً في البناء الرأسمالي العالمي، مما جعل الحفاظ عليه مهمة عليا في أولويات، على الأقل، نخب هذا النظام العالمي. وقد تكون هذه لعنة فلسطين، وقد تكون نعمتها، وعلى الأغلب تركبت اللعنة والنعمة معاً لتشكلا تاريخ المأساة الفلسطينية في تكرارها الذي لا يمل. من هنا، فإن سير العرض التحليلي أعلاه، حول السياق العام للمعرفة في الرأسمالية، سيساعدنا في طرح السؤال المعرفي الأساسيّ بخصوص فلسطين حول كيفية إنتاج جسد معرفي عامل كمرجعية هي بمثابة السائل الذي يحرّك عجلة الانعتاق من النظام الاستعماري السائد فيها. هذا الجسد المعرفي العامل عليه أن يستخلص المقومات علاقاتها وأشكال كمونها كإحداثيات تقويضيّة في النظام الاستعماري الصهيوني في فلسطين، ليرسمها من ثم في صياغة خطابية وأدائية محددة كنوع من تركيم العمل المعرفي. هذه المقومات وعلاقاتها تتسم بالأساس بارتباطها مع الرأسمالي العام بمتانة ملفتة للنظر قل أن نراها في أنظمة استعمارية أخرى سواء أكانت معاصرة، أم من فترات سابقة.

.

2.  

قد ينطلق البحث الفلسطيني في النظام الاستعماري في فلسطين من عدة توجهات، منها النافي لهذا الواقع ومنها من يقبله، وإن بشروط. ككل فعل في البحث يتخذ الباحث/ة موقفاً ما من ظاهرة البحث. وأريد هنا أن أبدأ من مقولة إشكالية من الدرجة الأولى، وهي أن الباحث في النظام الاستعماري في فلسطين لا يستطيع إلا أن يتخذ واحداً من موقفين، ذلك النافي أو المكرّس، وذلك لطبيعة مبنى ظاهرة البحث وليس لموقف أخلاقي سياسي اتجاه الظاهرة فقط. الإشكال هنا هو في تنحية السياسي الأخلاقي جانباً في عملية اتخاذ موقف معرفي اتجاه واقع الظاهرة. سأحاول أن أبين أن الموقف النافي للنظام الاستعماري، وبعكس ما يبدو للوهلة الأولى، هو ناتج عن قراءة دقيقة أكثر للبنية النظامية له من الموقف الذي يكرّسه كنظام قوى سائد.[21] ولكن بدايةً دعونا نحدد ما نشمله في النظام الاستعماري في فلسطين لنسهل من ثم تبيان الموقف النافي بما هو اشتقاق من ذات البنية الاستعمارية النظامية.

  يشمل النظام الاستعماري في فلسطين مختلف التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية والثقافية التي تُشتَق، بكليتها و/أو جزء منها، من علاقاتها به. بهذا، مثلاً، فالحركة الصهيونية هي جزء من النظام كما الفكر الفلسطيني الذي يُحاصر الحدث الفلسطيني في مستوى رد فعل ناف ومباشر للصهيونية لأن كليهما يتم تشكيله بعلاقاته بالنظام الاستعماري ككل. إن شمولية هذا النوع من الأنظمة الاستعمارية، وهذا امتداد للمنطق التوسعي الرأسمالي، يجعلنا نتحدث عن منطق ناظم تتم عبره محاولات متتالية وكثيفة لترتيب كل الأحداث العمليات المجموعات والأفراد في الحاضر كما الماضي والمستقبل. لقد نجح هذا النظام في إنشاء قاعدته النظامية المُشتقة من منطقه، هذا بحيث إنه لم يشكل ذاته أو علاقات التحكم بوسائل إنتاجه فقط، بل أيضاً شكَّل عاملوه المستعمَرين في تكريسهم له كما إلى حد ما في نفيهم له أيضاً. فهل، إذاً، إذا شمل النظام اشتقاق المستعمِر والمُستعمَر يعني أن فلسطين والفلسطينيين هم اشتقاق للنظام الاستعماري الصهيوني؟ مما لا شك فيه أن حدث الحياة الفلسطيني أوسع وأشمل مما هي عملية التشكيل الاستعمارية التي تعمل عليه وأحياناً فيه.[22] الإشكال في ارتداد جزء كبير منه إلى العمق الصامت وبروز ما تشكّل استعمارياً على سطح الأحداث المباشرة. ومن نافل القول أن العمق الصامت هو عربي إسلامي إنساني من حيث تموضعه التاريخي، وحضاريّ ماديّ من حيث هو شكل من أشكال الوعي القابعة في الخلف/العمق. في هذا المفصل التحليليّ، يتبادر سؤال المعرفة بشكل أكثر حدة وطلباً، كيف من الممكن تشكيل موقع ارتكاز معرفيّ متحرك في نقديته نستطيع، من خلال الوقوف عليه أو الحركة معه، استخلاص مقومات التناقض الأساسية كما علاقاتها التقويضيّة للنظام الاستعماري في فلسطين؟

موقع الارتكاز المعرفي هو منطق فاحص للظاهرة تحت الاستكشاف، بهذا فمنطقها يجب على الأقل أن يختلف نوعاً عن منطق الظاهرة لكي يستطيع أن ينظر إليه من خارجه دون أن يكونا سواء. لا نستطيع دراسة النظام الاستعماري في فلسطين دون نحت لغة/مجاز غير تلك التي يعطينا إياها، وذلك بغية أن لا نعيد إنتاج النظام معرفياً. فمثلاً، المقولة حول العلاقة العضوية بين الصهيونية واليهودية هي جزء من لغة النظام الاستعماري التي يحكي بها عن ذاته. في مقابل ذلك، من الممكن الاستناد على موقع ارتكاز معرفيّ خارجيّ والقول إن الصهيونية هي تشكيل اقتصادي سياسي من نوع محدد تم اشتقاقه من النظام الرأسمالي في لحظة حسم صراعه مع الأنظمة القديمة في أوروبا. ومن هنا حاجته إلى بنية مخيالية من النوع المقدس، واليهودية هنا هي علاقة سيميائية في حاكميّة النظام الرأسمالي عينه. أو، بالنسبة لفلسطين كموقع جيو-سياسي وديني، حيث أن مقولة النظام الاستعماري هي بأنها الأرض المقدسة وما يتم تبعاً لذلك من ممارسات. بينما موقع الارتكاز المعرفيّ الخارجيّ قد يرى بوضوح أن “إسرائيل” هي في الحقيقة نتيجة عملية تحولات داخل المجتمعات والكيانات السياسية الأوروبية أدت إلى عدم إمكانية تواجد أقليات النظام القديم على ذات الشكل في نظام دولة-القومية الصاعدة. من هنا، تم تجميع الجيتوات التي كانت على هوامش المدن الأوروبية لتشكل هامش جيتوي واحداً على هامش الجسد الأوروبي المتشكل من جديد في بداية القرن التاسع عشر.[23] هذه الحركة لا يمكن تخيلها دون شكل من أشكال المعرفة البصرية والمتخيلة. ذلك أن إحكام الستار الإيديولوجي للنظام الاستعماري في فلسطين ملفت للنظر من حيث متانة الإحكام بالذات. وهذه الدرجة العالية من المتانة تعود، ككل علاقات إيديولوجية أخرى، من حدة فعل إعادة التشكيل العنيفة للواقع التاريخي المادي المُعاش. هذا مما يتطلب بشكل مواز حدة في القطع مع لغة النظام الاستعماري في لحظة تشكيل المعرفة عنها بغية عدم الوقوع في شبكة المبدأ الناظم للنظام ذاته. هذه الأمثلة تشير إلى الإمكانية المبدئية لخلق مواقع الارتكاز المعرفية خارج النظام، ولكنها في ذات الوقت تشير أيضاً إلى آليات الخروج الممكنة.

سيساعدنا الجانب المعرفي في هذا النظام على استخلاص خارطة لهيكل عمله، وهي ستبرز مفاصل حقول التناقضات الأساسية التي ينبني من خلالها، وتتم صيانته عبرها كذلك. يتميز المبدأ الناظم للنظام الاستعماري في فلسطين بكونه نوعاً من العلاقات اتجاه وسائل إنتاج محددة منخرطة بالنظام الرأسمالي العام ومشتقة منه، هذا مما يحتم على النظام تسخير المحلي وإعادة تشكيله لإدخاله في الماكينة الرأسمالية العامة. لذلك من الممكن التفكير بهذا المبدأ من حيث هو حركة بين ثلاث محطات أساسية تتشكل في لحظة ممارسة النظام لذاته. فهو يختزل باستمرار الرأسمالي العام على شكله الصهيونيّ، ليقوم من ثم بالتوسع المتتالي في تفكيك المحلي وإعادة بنائه صهيونياً. والحركة الموازية تكون باختزال المحلي إلى الشكل الصهيوني والذي بدوره سيقوم بتوسيع مطّرِد للرأسمالي العالمي. هذه الطبيعة الوسيطية للنظام الاستعماري في فلسطين تحتم علينا قراءتها من خلال تحديد موقعها المزدوج/المُرَكَب في العمليات الإنتاجية العالم-محلية، حيث أنها كحقل تناقضات تعمل بشكل نموذجيّ للوسيط. فالوسيط ليس قائماً بذاته، وإنما يأخذ قيمته من ممارسة الحركة بين أطراف متعددة ومختلفة. هكذا بدأ النظام الاستعماري في فلسطين كوسيط، وما زال يعمل بهذه الصفة البنيوية، إلا أن التناقضات الأساسية لا تفتأ تعمل على تشكيله وتقويضه في آن. فهو وإن كان بنيوياً وسيط، إلا أن الشكل الوسيطي الذي أخذه منذ بدايات تشكّله ولغاية يومنا هذا متعدد ومتراكم معاً. سأعرض فيما يلي الطور الأخير لهذا النظام الاستعماري في عمله كوسيط عالم-محلي.

إن النظام الاستعماري في فلسطين تحقق إمبريقياً في شكل الحركة الصهيونية، ولكن لا يمكننا اختزال النظام بالحركة الصهيونية فهو أوسع وأعمق منها كما بيّنا أعلاه. على الرغم من ذلك، فإننا نستطيع من فحص الصهيونية التعرّف على النظام ككل بمستوى مبدأه الناظم، وإن ليس بمستوى تفاصيله الإمبريقية على امتداداتها المختلفة. تحمل الحركة الصهيونية، كما امتداداتها من دولة ومجتمع إسرائيليين وغيرها، مقومين أساسيين يمكنانها من العمل كوسيط هما المنطق الشكلاني للعلاقات التبادلية الرأسمالية والمنطق الحدثيّ العيني ذو العمق التاريخي المكانيّ.[24] هذه الحمولة ليست أصيلة من طبيعة الفكر و/أو المؤسسة الصهيونية وإنما هي جراء الشرط الضروري لوجودها على مسرح التاريخ الحداثيّ. إن المنطق الشكلاني للعلاقات التبادلية هو السائد في الوسيط الصهيوني على مؤسساته ومجموعاته المختلفة من كيان دولة ومجتمع. والمنطق الحدثيّ العينيّ، بعكس المتوقع، لا يعمل باستمرار لنفي العلاقات التبادلية وإنما يتركب بحسب المنطق الشكلاني في العلاقات التبادلية ليصبح قابلاً للتداول بقيمة عالية. يذكِّر هذا النمط من العلاقات بمنطق بضاعة “الطبعة المحدودة” limited edition،  ولكن لدينا هنا حدث واحد أصيل قابل للتداول هو الحدث الصهيوني. ويعود هذا الشكل إلى تاريخ انبناء الصهيونية، والنظام الاستعماري العام في فلسطين، حيث أن الاشتقاق المباشر لهذا الوسيط من النظام الرأسمالي حتم اشتقاقا صوريّاً ينبني بحسب المنطق الرأسمالي الأساسي وهو المنطق الشكلاني للعلاقات التبادلية. ولكن الوسيط لا يستطيع أن يظهر بهذا الشكل ليقوم بأدواره التي هي بالأساس تحويل الأحداث الأفكار والناس وعلاقاتهم إلى بضائع تعمل بحسب المنطق الشكلاني للعلاقات التبادلية. إذ على الوسيط، لكي تتسنى له الوسيطية مخيالاً وواقعاً، أن يتكلم لغات مختلف الأقطاب التي يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها على شكل سلع رأسمالية. والمهم في هذا السياق، أن الوسيط يتكلم عدة لغات ولكنه يمنع عن الأقطاب إمكانية التحدث لئلا يفقد وظيفته ومن ثم شرط وجوده كوسيط. ومن هنا نرى أن العنف التدميري هو أحد أهم وسائل هذا الوسيط الاستعماري في فلسطين.

إن مقومات الصهيونية، المنطق الشكلاني والمنطق الحدثيّ العيني، كما العلاقات بينهما يشكلون الأساس الذي بنى النظام الاستعماري في فلسطين وقام بعملية صيانته على مر العقود الأخيرة. هذان المقومان يشكلان حقل التناقض والذي في سياق زمني مكاني محدد من الممكن أن يصبح أساس حقل تقويض النظام. إن حالة الوسيط تتميز كما ذكرنا أعلاه بأنها فارغة من أية هوية مسبقة، فالوسيط لكي يعمل يجب عليه أن ينفي ما هو ويطوِّر قابليته لحمل هويات مختلفة ومتعددة في آن. منذ أن تشكلّت، حملت الحركة الصهيونية نزوعاً باتجاه التعويض عن حالة الوسيط بسبب من البيئة الاجتماعية والفكرية الأوروبية التي انبنت من خلالها. هذا النزوع للتعويض هو في جانب منه بنيوي، حيث أن الصهيونية اشتقت من المنطق الشكلانيّ بشكل نموذجيٍّ بسبب مباشر من طبيعة الطور الرأسمالي، الذي حسم لتوه صراعاته مع الأنظمة القديمة، آنذاك. هذا الشكل النموذجي للعلاقات التبادلية خال من أي حدث بعينه، سوى الحدث الشكلاني التبادلي. هذا مما يخلق فراغاً بنيوياً لا يستقيم معه عمل النموذج التبادلي، بل يحتم خلق حدث مواز وتابع للنموذج. والحدث هنا هو الجماعة اليهودية وتاريخها كفئة متمايزة عن باقي الفئات التوحيدية المتخيلة، أي المسيحية والإسلام، وإعادة صياغتها على شكل قومية لها وطن. وهذه الأبعاد المختلفة للحدث هي الحالة الأولية التي ينفيها النموذج الشكلاني التبادلي الذي يسعى إلى السيطرة على جل العمل البشري على وجه البسيطة الآن وفي الماضي والمستقبل، كما وفي ما وراء البسيطة ذاتها إن أمكن. هذه الكونية مقابل الحدث العيني الأصيل، المُتخيل والتابع في بداياته، والحركة الضابطة للعلاقات الهرمية بينهم، أي أولوية الكوني البنيوية، ميزت الوسيط الصهيونيّ في أغلب أطواره. هذه الميزة البنيوية، أولوية الكونيّ، كانت المولِّد للأزمات الحادة والتوترات المختلفة المنبثقة عنها في هذا النظام. فبينما كانت النخب المالكة لوسائل الإنتاج تتكلم الكونيّ اتجاه العالم، كانت تتحدث بلغة العيني اتجاه الفئات الاجتماعية المختلفة التي تُرَكِب مجتمعة النظام. العامة لا تتقن الكونيّ، وإنما شغلها الشاغل هو اليومي بما هو انبثاق من حدثها العيني. إن شكل الجهاز الضابط، أي دولة إسرائيل ومؤسساتها الحكومية، للعلاقة بين المنطقين كان من أهم ما ساعد هذا النظام في صراعه للبقاء على مسرح التاريخ المعاصر. من هنا فإننا نلاحظ تراجعاً حاداً للدولة بحد ذاتها من حيث المكانة والفاعلية، إلى جانب صعود أشكال كونية وأشكال عينية تحافظ بشدة وشراسة على كونيتها وعينيتها في مقابل وسطية النظام المُعبَر عنها في أجهزة الدولة. لعل هذه الديناميكية هي الأزمة الأشد عمقاً منذ تأسيس إسرائيل، حيث هي تعبير مباشر عن مقومَيْ النظام الاستعماريّ والعلاقات بينهما. وككل جهاز فلقد بدأ بفقدان فاعليته جراء هذه التطورات في كل مقوّم بذاته وللعلاقات الشبكية بينهما. لقد تراكم، علائقياً، في كل مقوّم من مقومَيْ النظام شكل متشنج من العمل المُتشييء في بنية شعور عامة وعمليات إدراك ذهنية منمطة، بحيث أننا نرى أن هذه الهوة بينهما لم تعد قابلة للردم على الأقل بأدوات الدولة التقليدية.

هذه الملامح الأولية التي من الممكن ملاحظتها واستخلاصها في حال نظرنا من موقع الارتكاز المعرفيّ خارج النظام الاستعماريّ، أي ذلك الذي لا يتكلم باللغة النظاميّة. على البحث النقدي الفلسطيني الساعي إلى إنشاء جسد معرفي ماديّ، أي ماديته فاعلة في أساس عملية تقويض النظام الاستعماري، أن يبدأ من هذا الموقع. البداية هنا تعني بالضرورة أن هذا الموقع هو لحظة انطلاق وحركة باتجاهات مختلفة، وكما تبين من العرض أعلاه فإن هذه المواقع المختلفة غير موجودة مسبقاً. إن أشد ما يميز موقع الارتكاز المعرفي غير النظاميّ هو تشكله التزامني مع لحظة الخروج من النظام بشكل ما. وقد تكون هذه هي المساهمة الأساسية للمعرفة الإنسانية التي توفرها التجربة الفلسطينية تحت الاستعمار.

3.

هذا الكتاب هو ثمرة ورشة عمل تدريبية تمت في “مدار” بعنوان “قراءات نقدية في المجتمع والدولة في إسرائيل“. لقد بدأت الورشة عملها في كانون الثاني 2010، واستمرت لمدة ستة أشهر بواقع لقاء كل أسبوع. شارك في هذه الورشة حوالي 25 طالباً وطالبة فلسطينيين/ات في مرحلة الماجستير من مسار تشكلهم كباحثين وباحثات. والأبحاث المنشورة هنا هي عبارة عن خلاصة جزئية للتدريب على المنهج العلمي النقدي في بحث النظام الاستعماري في فلسطين. سأعرض أولاً سياق الورشة، ومن ثم سأصف الأبحاث المختلفة المشاركة في هذا الكتاب من حيث مساهمتها في تشكيل جسد معرفي فلسطيني عن النظام الاستعماري في فلسطين قد يشكل مساهمة متواضعة في تقويضه.

سعت هذه الدورة إلى فحص الإمكانيات المختلفة للبحث في المجتمع والدولة في النظام الإسرائيلي، كما في القراءة/الكتابة عنهما، من قبل الفلسطينيين/ات. من هذا الهدف اشتقت الدورة ثلاثة محاورها الرئيسية: التاريخ الاجتماعي للنظام الإسرائيلي، الكتابة النقدية وقواعدها، المواقف الفلسطينية الممكن بلورتها اتجاه النظام الإسرائيلي عبر استخدام القراءة/الكتابة النقدية. تم فحص هذه المحاور، كما تفاعلاتها المختلفة، عبر عدة تيارات فكرية والتي قد مكنت من فتح آفاق الفهم النقدي، وكتابته، لما هو الورطة الاستعمارية في فلسطين.

اعتمدت هذه الدورة على الممارسة البحثية في مستوياتها المتعددة. فمن جانب، هنالك القراءة المكثفة للنصوص المقررة، كما نقاشها والتعامل النقدي معها. ولكن هذه العملية لم تكتمل إلا من خلال تفاعلها مع الشق الآخر لها، أي الكتابة، ولذلك قام المشاركون والمشاركات بممارسة الكتابة الموازية للنصوص المقررة، كما لنصوصهم الخاصة، في كل لقاء. من جانب آخر، اعتمدت الدورة، إلى جانب القراءة والكتابة، على تجارب مختلفة، أغلبها سمعية-بصرية، مثل الأفلام الموسيقى والوثائق ومنتجات ثقافية اجتماعية إسرائيلية أخرى، وذلك بهدف توسيع وتفعيل الانشباك النقدي مع مواد عينية ذات أبعاد تاريخية اجتماعية للمجتمع والدولة في النظام الإسرائيلي.

 تتميز الأبحاث المختلفة في هذا الكتاب بالتركيز على محاور عينية ذات بعد إمبريقي واضح من السهل الوصول إليه والانشباك البحثي معه هو النص المطبوع. فمن جانبه قام أمين دراوشة بمحاولة جادة لفحص نص روائي هو “العاشق” للروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشواع. أما هاني عواد فلقد قام هو الآخر باختيار مدونة نصية واضحة المعالم الإمبريقية هي كتابات المؤرخ محمد عزة دروزة. من جانبها قامت آيات حمدان بفحص وثائق وروايات كتبها فلسطينيون لتتحقق من شكل قبولهم/رفضهم للنظام الاستعماري. أما سعيد يقين فقام بتجميع نصوص من أنواع مختلفة ليستخلص عبرها مدى وكيفية تجذّر الوعي الجمعي الجيتوي الذي يقف بأساس بناء جدار الفصل. أما الباحثان محمود فطافطة ونظام السايس، فعلى الرغم من أن ظاهرتي بحثيهما لا تتطلبان ضرورة الاعتماد على مادة نصية مطبوعة، فلقد استندا بالأساس مواد نصية مطبوعة لإثبات ما ذهبا إليه في مداخلاتهما حول طبيعة تمظهر الدين في الحركة الصهيونية لدى فطافطة، وحول أنماط العنصرية اتجاه فلسطيني 48 لدى السايس.

مما لا شك فيه أن هذا التوجه البحثي المنهجي يعود إلى الشروط الموضوعية إلى حد بعيد للباحثين/ات أنفسهم، وذلك بمعزل عن نوع ظاهرة البحث التي قد يعملون عليها. فهؤلاء الباحثون/ات كبروا ويعيشون في الضفة الغربية أغلب وقتهم، وهذه التجربة تصيغ بشكل جذري إحداثيات الحركة والتنقل ليس فقط في الفضاء الاستعماري، وإنما بالأساس كيفية الانشباك مع النظام ذاته. يمكّن النظام الاستعماري تداول نصوصه كجزء من ترسيخ وجوده في أذهان من يحتلهم/ن، وذلك بتشكله على نموذج رأسمالية الطباعة أمه الأولى في البيولوجيا والاجتماع. والسؤال كيف يتناول الفلسطيني هذه المسالك النصية؟ وهل من الممكن إعادة موضعتها في نقطة ارتكاز معرفية خارج الجسد النظاميّ الاستعماريّ بشقيه الصهيوني والفلسطيني على السواء؟

 في هذا الجانب من قضية البحث الفلسطيني في النظام الاستعماري، أريد أن أركز على بحثين حاولا أن يبحثا عن نقاط ارتكاز خارج نظامية، هما بحث سعيد يقين وبحث هاني عواد. يحاول سعيد يقين في بحثه استخلاص بنية الوعي العميقة للجماعة الصهيونية اليهودية؛ ومن أجل ذلك يحفر سعيد يقين بئره ليصل بنا إلى النص التوراتي ليعاود الصعود زمناً إلى نقطة التأسيس الحديثة مع هيرتسل وجابوتنسكي في أوروبا الحديثة كنوع من التحوير والتكريس للبنية الأعمق. يصل سعيد يقين إلى نتيجة مفادها أن الجدار المبني على الأرض الفلسطينية هو تمظهر لهذه البنية الضاربة جذورها في التاريخ. أما هاني عواد فلقد أزاح بؤرة مشروعه البحثي ليتفحص الذات الفلسطينية الفاحصة؛ لقد اختار هاني عواد أن يفحص الآليات التي من خلالها بنى محمد عزة دروزة تصوراته عما هو قومية عربية وعما هو دين إسلامي. الفهم الأساسي الذي وصل إليه هاني أن هنالك عملية أساسية من التماهي تضبط العلاقة بين المثقف المُستعمَر والمشروع الاستعماري القامع، هذا بحيث أن مفاهيم وتصورات دروزة هي في الحقيقة ما تخيله هذا على أنه الشكل الصهيوني الأمثل، وهو صورة عن تصوير الصهيونية لذاتها. إلى حد بعيد، هذان البحثان يعكسان بطرق متعددة ومركبة ما يجري الآن في المشهد الفكري الضامر في المجتمع الفلسطيني على اختلاف فئاته وأنواع شتاته. فمن جانب، من الممكن ترتيب البحثين على محور زمني، فنرى أن الأبحاث التي تتخذ من فحص البنية العميقة للمستعمِر من حيث هي مزيج ما بين الأسطورة والدين والتاريخ كانت انبثقت من عدة نصوص فلسطينية مؤسِسة قد يكون أبرز ممثل لهذا التيار بعد 1967 هو الباحث حسين البرغوثي. ويتميز هذا التيار بكونه يبحث عن نقطة الارتكاز المعرفية الموازية للنظام عبر الغوص في أسطورته ودينه وتاريخه للخروج فيما وراءه على الضفة الثالثة للنهر على حد تعبير البرغوثي. ومن هذا التيار، وبعلاقة جدلية نافية له، انبثق تيار لاحق يفحص الذات المتشكّلة في عملية البحث في ذات الآخر الاستعماري. ينشئ هذا التيار النقدَ الأساسيَ الذي مفاده أن البحث في ذات الآخر يوّرِط الباحث الفلسطيني في إرباكات بنيوية أبسطها موضعة الجاني والضحية على ذات الحيز الزماني الفضائي. ومما لاشك فيه أن براعم هذا التيار موجودة في ثنايا التيار الأول، على سبيل المثال أبحاث فيصل دراج، إلا أننا نجد أن من يحمل هذا التيار هو “الجيل” الرافض في كل مرحلة للنظامية الفلسطينية المتشكلة عبر قبولها للسقف الاستعماري، ولو كان ذلك القبول من النوع النافي. وقد يكون بحث أميرة سلمي نموذجيّ من هذه الناحية، فهي تبحث في النظام بما هو كذلك لتتجاوز تقسيماته المضللة للهويات لتعرض من ثم منطق عمله ومن يحمل ويعمل وفق منطق النظام الاستعماري بفلسطين، بغض النظر عن الإدعاءات الجوهرانية لحاملي فعل النظام ومنفذيه.[25]

من هذا التموضع تبرز أهمية المداخلة الأساسية لهذه المقدمة في أجزاءها الأولى. لقد كانت المرحلة/اللحظة الأولى من الأبحاث الفلسطينية النقدية تحاول أن تحتوي النظام عن طريق تحديد معالمه التاريخية الدينية والأسطورية، لتقول فيما أوسع وأشمل منه لتتجاوزه إلى ما هو خارجه. أما المرحلة/اللحظة الثانية فعادت لتستكشف الذات الفلسطينية الباحثة وآليات تشكيلها، ولقد غلب على هذه اللحظة قضية محاكاة المُستعمِر والتماهي معه وتقليد مشروعه السياسي والمعرفي على السواء. أما المرحلة/اللحظة الثالثة المقترحة هنا فهي تنبني من نحت موقع ارتكازيّ معرفيّ ماديّ خارج النظام الاستعماري، كما خارج النظاميّة الفلسطينية التابعة له. يتميز هذا الموقع بكونه لا يلغي ما سبقه من مراحل ولحظات في المشروع المعرفي النقدي الفلسطيني، بل يهضمها في داخل بنية الموقع ذاته. من هذا الموقع يتم فحص العمليات التشكيلية للأبنية التاريخية والدينية والأسطورية للمشروع الاستعماري بفلسطين، دون الانزلاق المعرفي في البحث عن جذور فيما بعدها. فهذه الأبنية على أنواعها الثلاث انبثاق من الآن والهنا الاستعماريين، على الرغم من أنها صورة عن أشكال أزمان وأمكنة أخرى. وموضعتها من جديد في الآن والهنا هو في حقيقة الأمر كشف آليات عملها الذي قد يشكل سعياً في تقويضها. أما بالنسبة للذات الفلسطينية الباحثة في عمليات تشكيلها، فالسعي هنا في تشكيل تقويض النظام عبر استخلاص مقوماته والعلاقات التقويضية بينها، أي الكوني والعيني والبنية الهرمية بينهما ولحظة/امكانية تفتيتها. بهذا فعلى الذات الفلسطينية الفاعلة أن ترى بعين عقلها لحظة انعتاقها كأفق تعمل من خلاله. وسيتم لها هذا من خلال المسارات التي تُمكِّنها من أن تغرف المادة المعرفية بآليات حدثية عينية، أي أن على الذات الغوص في ذاتها العمودية وعدم الاتكاء على الآخر كمرجعية في التعريف. من هنا تبرز أهمية الخروج الفعلي والرمزي من النظام الرأسمالي بموازاة إعادة الفتح لما هو العربي الإسلامي الراكن في قاع الذات الفلسطينية.

.

• صدور “النفي في كتابة إسرائيل: أبحاث فلسطينية حول المجتمع والنظام والدولة في إسرائيل” بتحرير إسماعيل ناشف

 


[1] مما لا شك فيه أن أطيافاً من التيار الإسلامي حاولت أن تبني هذا النوع من الجسد المعرفي البديل. بغض النظر عن الموقف اتجاه هذا التيار، فإننا نلاحظ أنه فشل في إنشاء مشروعه. وقد يكون أحد أسباب هذا الفشل الرئيسية هي التركة الوطنية التي لم يستطع التيار الإسلامي إلا أن يرثها بمستوى الثقافة السياسية على الأقل.

[2] للتوسع حول العلاقات المركبة بين النظام الاستعماري وسلوكيات المستعمَرين من الممكن مراجعة أبحاث فرانز فانون المختلفة كما الأدبيات التي انبثقت عنها وتحاورت معها. على سبيل المثال:

فرانز فانون (2007). معذبو الأرض. الجزائر: وزارة الثقافة الجزائرية.

هومي بابا (2006). موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب، بيروت: المركز الثقافي العربي.

[3] القصد في آليات إنتاج خطابيّة نظاميّة هي أن النخب الفلسطينية المختلفة بنت فهمها للواقع الاستعماري عبر طموحها لأن تكون هي في رأس النظام الحاكم، وليس تأطيراً انعتاقياً من النظام الاستعماري. ومن هنا، لم يكن غريباً قبول جزء من هذه النخب بأي شكل من الكيانية الهزيلة طالما يستطيعون ممارسة طموحهم هذا.

[4] من أهم مميزات النظام الرأسمالي والناتجة عن المبدأ الناظم له بزيادة الربح، هو توسعيته المستمرة أفقياً وعمودياً في المجتمعات البشرية عامة. والنظام الرأسمالي يقوم بهذه التوسعية بوسائل جد عنيفة ومدمرة لما هو قائم. كثافة وشمولية النظام الاستعماري بفلسطين هي نسخ مباشر من المنظومة الرأسمالية الأم لفرعها الاستعماري.

[5] للإطلاع على تاريخ الفكر السياسي الفلسطيني، أنظر:

ماهر الشريف (1995). البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني. بيروت: دار المدى.

[6] للتوسع بالجوانب الإشكالية لهذه التوجهات النظرية، أنظر:

اسماعيل ناشف (2010). العتبة في فتح الإبستيم. رام الله: مواطن، 46-55.

[7] لعرض أولي للتيارات المختلفة حول هذا الموضوع أنظر:

روبرت يانغ (2003). أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب. ترجمة: أحمد محمود، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

لعرض نموذج ينادي باستقلالية تاريخ المجال العلمي العيني، أنظر:

جورج كانغيلام (2007). دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها. ترجمة محمد بن ساسي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

[8] هنالك العديد من الأبحاث حول استخدام الإدارات الاستعمارية المختلفة للعلوم كإستراتيجية للسيطرة ولضبط المجتمعات المُستعمرة، أنظر على سبيل المثال:

Smith, L. T., (1999). Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous Peoples. London & Dunedin: Zed Books, and University of Otago Press.

[9] قد تكون دراسة ليلى أحمد حول الحجاب من أهم ما تم في السياق العربي الإسلامي بهذا الخصوص:

Ahmad, L., (1993). Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate. New Haven: Yale University Press.

[10] للتوسع بموضوعة الفشل الفلسطيني في التحرر، أنظر:

إسماعيل ناشف (2010). العتبة في فتح الإبستيم. رام الله: مواطن.

[11] للتوسع في هذه الجوانب من المنهج العلمي النقدي، أنظر:

اسماعيل ناشف (2010). “صمت الظواهر: مقاربات في سؤال المنهج”، إضافات، 10، 118-144.

[12] لعرض أولي لمفهوم الإيديولوجيا، أنظر:

عبد الله العروي (1990). مفهوم الإيديولوجيا. بيروت: المركز الثقافي العربي.

[13] للإطلاع على منطق عمل الرأسمال الرمزي، والمعرفة جزئياً نوع منه، أنظر كتابات بيير بورديه بهذا الخصوص، مثلاً:

Bourdieu, P., (1991). Language and Symbolic Power. Cambridge, M.A.: Harvard University Press.

[14] مثلما أن الحضور بالسوق ممكن أن يكون فقط في شكل البضاعة، والتداول في الثقافة عامة يكون فقط عن طريق صورة تمثلية، كذلك الواقع لا يشكّل قيمة بذاته وإنما فقط الشكل المعرفي عن الواقع، للتوسع أنظر على سبيل المثال:

Baudrillard, J., (1996). The System of Objects. London: Verso.

[15] أنظر مداخلات ميشيل فوكو المختلفة في هذا الخصوص، منها مثلاً:

Foucault, M., (1994). The Order of Things: The Archaeology of the Human Sciences. N.Y.: Vintage.

[16] للتوسع في هذا الموضوع، أنظر:

Mandel, E., (1998). Late Capitalism. London: Verso.

[17] للبحث في إعادة صياغة العلاقات الممكنة بين لحظات مختلفة من النظام الرأسمالي المتأخر، أنظر:

Hardt, M., and Negri, A., (2001). Empire. Cambridge, M.A.: Harvard University Press.

[18] للتوسع في هذا الجانب من القضية المعرفية، أنظر كتابات برونو لاتور المختلفة: مثلاً:

Latour, B., (1988). Science in Action: How to Follow Scientists and Engineers through Society. Cambridge, M. A.: Harvard University Press.

[19] قد تكون الحالة الفلسطينية أفضل مثال على هذه العمليات، إلا أنها ليس الوحيدة.

[20] قد تكون صياغة هيجل في فلسفة القانون هي الأساس في هذا التشكيل الخطابي للقانون.

[21] للإطلاع على نماذج أخرى أنتج فيها مُستعمَرون معرفة حول سبل الفكاك من النظام الاستعماري، أنظر بخصوص الحالة الإفريقية:

Mbembe, A., (2001). On the Postcolony. Berkeley: University of California Press.

[22] للإطلاع على نموذج تحليلي لهذا الشكل من آليات مفهمة الحدث الفلسطيني، أنظر:

Nashif, E., (2011). “Towards a Materialist Reading of Political Imprisonment in Palestine”, In A. Baker and A. Matar (eds) Threat: Palestinian Political Prisoners in Israel. London: Pluto, 25-36.

[23] هذه الأمثلة تعتمد على البحث التالي:

إسماعيل ناشف (2012). “شاعرية الخط، عمل الحدود: الصهيونية من نظرة أخرى”، غادي إلغازي وآخرون (محررون)، مفهوم الحدود في كتابات باروخ كيمرلينغ. القدس: ماجنس.

[24] للتوسع النظري في علاقة الشكلاني بالحدث في السياق الاستعماري، أنظر:

Chakrabarty, D. (2000). Provincializing Europe: Postcolonial Thought and Historical Difference. Princeton: Princeton University Press.

[25] أميرة سلمي (2009). عن النساء والمقاومة: الرواية الاستعمارية. رام الله: مواطن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ان حالة التماهي التي يعيشها شعبنا الفلسطيني تحت الاحتلال وتعيشها الغالبية من قياداته ومثقفوه والنخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يرون بالاحتلال نموذجا يطابق الكيان السياسي الذي يرغبون باقامته، بل ويرغبون بنسخ تفكيره وادواته، دون اخذ الاعتبار اننا تفكيرنا وادواتنا تختلف عنه وانه من المؤكد سننزلق الى ما هو اسء من الممارسات الاحتلالية اتجاه شعبنا، اذا لم نفلح باستخدام ادواتنا وتفكيرنا الثوري الذي من المفروض ان يكون نافي للاحتلال وتفكيره، لقد تناول فرانس فانون هذا الامر (وانا شاهدت بالمراجع ان الناشف قد استند اليه) حيث يقول (إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن، ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في أثناء انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه، وكفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة وأطرها القديمة، ولا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب، إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمَر/ فرانس فانون معذبو الارض ) لقد شعرت للحظة انني فهمت الموضوع، ولكن بعد القراءة الثانية والتمعن في العديد من المصطلحات والمترادفات الشديدة التقارب في الوصف والتحليل والتفكيك شعرت بانني لم افهم ولم استوعب، ليس لخطا في التحليل الفلسفي للدكتور اسماعيل الناشف وانما يعود لجفاف المادة، شكرا لك دكتور لقد اغنيت مكتبتنا الفلسطينية مجددا ببحث يبرز ما نحن عليه وما يمكننا عمله

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>