عن الفحوص الشرجية بالإكراه / روجيه عوطه

يقف البوليس التأديبي والطبيب الشرعي، أو “المحقق في لباس طبيب” بحسب المفكرة القانونية، أمام جسم المرء، ويدخله عنوةً وقوةً وعنفاً، لتحديد هويته الجنسية أو تصويبها نحو ثنائية “المستقيمين” و”المنحرفين” المتصارعة.

عن الفحوص الشرجية بالإكراه / روجيه عوطه

| روجيه عوطه |

عُرف عن النازية موقفها العدائي الواضح ضد مثليي الجنس. وقد ترجمت عداءها في قوانين عقابية فجة إيديولوجياً وممارسةً، فنصت المادة 157 من قانون العقوبات الألماني، التي تمسك النازيون بها يوم وصولهم إلى الحكم عام 1933، على أن المثلية الجنسية جريمة عقابها السجن أو النفي أو الإعدام. قوننت هذه المادة نظرة النازيين إلى المثليات والمثليين، ورأت أنهم يحملون في أحشائهم “أقذر غرائز الروح اليهودية”، ومن الضروري القضاء عليهم محافظةً على النوع العرقي ولوقاية “الجسم السليم” من الأمراض والأوبئة والجراثيم. عمد النازيون إلى حرق مراكز تجمع المثليين وتصفية الحاضرين فيها أو إرسالهم إلى معتقلات التعذيب والإبادة البطيئة.

لا تغاير سياسة النازيين البيولوجية الممارسات “التأديبية الأخلاقية” التي اتبعتها الدولة أخيراً في لبنان. فقد أوقف الأمن 36 شخصاً في “سيني بلازا” ببرج حمود، واقتادهم إلى مخفر حبيش حيث خضعوا لـ”الفحص الشرجي”، للتأكد من عدم حصول “مجامعة على خلاف الطبيعة” بينهم، بحسب ما جاء في المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني. انتهكت الدولة أجساد الموقوفين وتعدّت على خصوصيتهم الجسمية والنفسية كي تطمئن إلى إخضاعها جسم المجتمع، الذي تسهر على مواجهة الخروق في “طبيعته”، ومراقبة فمه وشرجه على السواء. “الطبيعة” التي لا تعيّنها المادة القانونية، هي أسيرة المتعارف عليه في العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة التي تنغلق على محتوى إيطيقي ديني. ترفض “الطبيعة” الإختلاف الجسدي وتقصي أطراف الجنسانية المغايرة، ترسيخاً لدور “الروح” في حشر الأجسام في المكان المقدس، وحشد الأرواح في “جسم” واحد. يتكرس الديني المتجانس في القانون الجنسي، ويُمتحن المرء أو يُفحص للإطمئنان إلى أحاديته الإيروسية، أي إلى التزامه مؤسسة تأديبية واحدة، تمتلك سطوة أخلاقية عليه نتيجة دعمها دينياً ودولتياً.

بحسب “الطبيعة” الجنسية، يصبح كل المثليات والمثليين عرضة للإنتهاك والإقصاء لأنهم يشذّون عن قانون التجانس في الجسد والرغبة. المثلية الجنسية، بالنسبة الى المؤسسة التأديبية، تشعب خاطئ أو نقص فيزيولوجي يصيبان الجسم “الطبيعي” ولا يجري اقتلاعهما بسوى سياسة قاضية. فقد أغلقت الجهة المختصة صالة السينما بالشمع الأحمر، واقتحمت بالفحص الشرجي أجساد الموقوفين، كي تضع حداً للتشعب والنقص. تخاف السلطة التأديبية “المجامعة” بين طبيعتين مختلفتين، وتخاف اجتماع جسدين تجد أنهما يستحقان العقاب بسبب اختراق النمط الجنسي الواحد وإصابة “الجسم الصحي” بالخلل الرغبوي وانتهاء التواطؤ على التجانس الذي عممته السلطات في المجالات المترابطة. ففي السياسة، كما في الجنس، نجد طبيعة أحادية، جسماً يغاير المركّبات داخله. هو “شاذ” و”منبوذ”، يجب أن يخضع لفحص إيديولوجي، طائفي أو حزبي، ولفحص جسدي، شرجي أو غيره. تجهد هذه السلطات المنشطرة حزبياً وطائفياً وطبقياً في المحافظة على الإنتاجية السياسية والجنسية وأنماطها المشتركة في رفض المختلف وانتهاكه بالطب والاغتصاب لتمتين المتجانس واقتلاع نتوءاته.

يساند السياسة التأديبية الجنسية، المعتمدة ضد المثليات والمثليين، خطابٌ اشتد سعاره في الآونة الأخيرة، نتيجة انتشاره إعلامياً، وتقاطعه مع الإيديولوجيات الحزبية والطائفية العاجزة والمذعورة من الإختلاف. يجمع هذا الخطاب بين التبسيط السياسي والعداء العنصري والطائفي والرهاب الأوموفوبي، فضلاً عن المكبوتات المرضية الني يعبّر عنها بانعزالية ساذجة لا مثيل لها. على رغم خرافاته النمطية، إلا أنه سريع الإنتشار في المجتمع، كما لو أنه الخطاب التفسيري الوحيد الذي يعين المرء على التمكن من حاله وواقعه.

يقف البوليس التأديبي والطبيب الشرعي، أو “المحقق في لباس طبيب” بحسب المفكرة القانونية، أمام جسم المرء، ويدخله عنوةً وقوةً وعنفاً، لتحديد هويته الجنسية أو تصويبها نحو ثنائية “المستقيمين” و”المنحرفين” المتصارعة. الفحص الذي يجريه “الأطباء” لا قيمة له ولا نتيجة ترتجى منه. هو شكل تعذيبي يروّض الجسم ويلجم مداخله ومخارجه، ضابطاً رغباته ولذاته ليصبح كتلة جسمية، منافذها مغلقة ومقبوض عليها. ما يجعل الجسم مازوشي النزعات وسريع التأكل البيولوجي، نتيجة الألم الحاد المتروك داخله. الآلام المنتجة في أجسام المثليات والمثليين عند فحصهم، تخالف مازوشية “اللحاق بالذات” التي حدّدها دولوز كخط انفلات من الذنوب المرافقة للمختلفين جنسياً. تزرع الجهات الأمنية والأحيائية الألم داخل الأجسام المغايرة كي تعيدها إلى الهوية الأحادية التي تناسب السياسات السلطوية في ضبطها حدود المجتمع “الصحية” و”سلامته” الجنسية.

تستأصل الدولةُ بنظرتها الأحادية، المغاير جنسياً في المجتمع الذي يشتد فيه رهاب المثلية والتزمّت العنفي من التحول والثنائية الجنسية. ترفض الأطر الإجتماعية الإتصال والإحتكاك بالمثليات والمثليين، وتقصيهم إلى أطرافها، مستفيدةً من مواقف السلطات الدينية القروسطية الإكراهية، الشبيهة بحرق محاكم التفتيش الكنسية الساحرات والمشوهين وذوي الإحتياجات الخاصة. كلما اشتد المجتمع في تطرفه التعسفي ضد المثلية الجنسية، تفاقم الصراع المكتوم بين المختلفين فيزيولوجياً، وازدادت الحدود الإيديولوجية بين الهويات الجنسية. يقسو النزاع خفيةً، ولا تُسرع الدولة ومجتمعها إلى اعتماد حل يكفل حقوق الإنسان ويجرم التعذيب الطبي الممارس ضد المرء المختلف بهويته الجنسية والمشكوك في علاقاته الجسدية. لا تعتمد السلطات حلاً يوازن بين الهويات المتنازعة لأنها الطرف الأقوى في الحملة الرهابية التي تشنها ضد المثلية الجنسية، أي ضد الطرف الأضعف فتستسهل الإعتداء عليه وانتهاك مسائله الشخصية بالطب الإغتصابي. يجرّم الطرف الأقوى المثليات والمثليين ويجتاح أجسادهم التي يستبيحها في كل مكان بحجة أنها ممروضة، تطبَّب كما تعذَّب وتُغتصب.

وقد أشارت المفكرة القانونية، في تقرير نشرته على موقعها الإلكتروني، إلى إجراء الفحوص الشرجية في المخافر بدل العيادات والمشافي، فالسلطة المختصة لا تجد أن للمختلفين جنسياً خصوصيات جسمية ونفسية، من الفظاعة عدم احترامها وتجاوزها. لكن استضعاف المغايرين، أظهر السياسة البيولوجية المعتمدة دولتياً ومجتمعياً، التي تساوي بين أدوار المخفر والمشفى، وتحوّل المحقق إلى طبيب، أما الموقوف فمجرم وممروض قبل إلقاء القبض عليه وبعد إطلاقه.

يعاني المثليون والمثليات جنسياً من الإجراءات والممارسات التعسفية المتبعة ضدهم على أيدي السلطات والأطر الإجتماعية المتماهية معها. تُنتهك حقوق المغايرين فيزيولوجياً في لبنان بتدابير متواصلة، فيصل عدد الفحوص الشرجية والعذرية إلى عشرين يومياً، بحسب ما أوردته منظمة “ألف” عن احتجاز المختلفين التعسفي، من دون أن نحتسب الإعتداءات الجسدية والنفسية التي يتعرضون لها على طول الساعة. لذا يلجأون إلى ستر هويتهم الجنسية والإنعزال والإنفصال، أو إلى مواجهة السلطات من خلال النشاطات التي تهتم بترتيبها قلة من المنظمات غير الحكومية، كجمعية “حلم” المناهضة لكل أشكال الإنتهاكات العنصرية والتعديات الجسمية والنفسية الرهابية الممارسة ضد المثلية الجنسية.

“النهار”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. عيبٌ عليكم يا قديتا عدم نشر مواد تم ارسالها اليكم, وخاصة بعد المجهود الذي بُذل في كتابته.
    والزاوية تتدهور! اين “مثليون ونص” اين تاج العريس اين ج.ب اين الابداع؟

  2. حتى في اكثر مدن العالم العربي تحرراً وسيابه “بيروت” لا يتحملون اشخاص ضد الطبيعه والفطره السليمه.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>