نظم كأنه نثر؛ التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النثر/ سليمان جبران

قراءة نقدية متأنية وخاصة في كتابات درويش الأخيرة ■ “هذا المنجز الشعريّ المدهش، إيقاعًا ولغة، لا يمكن أن يتحقّق إلا بموهبة كبيرة، و”صناعة” حاذقة، وعمل شاقّ طويل، وهذه جميعها تضافرت في مشروع درويش الشعري في المرحلة الأخيرة”

نظم كأنه نثر؛ التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النثر/ سليمان جبران

درويش. تحايل على النثر بالنظم...


|سليمان جبران|

لا أظنّني مغاليا إذا قلت إنّ محمود درويش (1941 – 2008) هو أكثر الشعراء العرب، بعد الحرب العالمية الثانية، شهرة وانتشارًا. عوامل كثيرة ومتنوّعة تضافرت في تشكيل هذه المكانة المتميزة للشاعر وشعره، في حياته وبعد وفاته أيضا. هناك أوّلا موهبة شعرية فذّة تجلّتْ بوضوح حتى في “أشعار الصبا” التي بدأ درويش كتابتها ونشرها، وهو ما يزال على مقاعد المدرسة الثانوية، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. هذه الموهبة، أو “السليقة”، كما يسمّيها هو، كفلت للقصيدة الدرويشية، في مراحلها كلّها، انسيابها في طواعية ويسر، مهما كانت القصيدة راقية ومركّبة: [1] “في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع، وتسلس له اللغة، ويربّي السليقة لديْه، فالسليقة إذا صُقلت تساعد الشاعر على التخلّص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود إلى فعل السليقة المهذّبة”.

 العامل الثاني أن درويش، بشعره وحياته، غدا “شاعر فلسطين”،  أو “شاعر القضية”،  أو “شاعر المقاومة”؛ يذكّر بفلسطين وتذكّر به دائمًا، سواء رغب الشاعر في هذه “الألقاب” أو رفضها.  درويش نفسه شكا غير مرة من تناول شعره “فلسطينيا”، دونما التفات إلى الجانب الجمالي فيه؛ كأنما القضيه الوطنية هي رافعة هذا الشعر ومدعاة رقيّه وانتشاره[2]. بل إن الشاعر، في أحيان كثيرة، كان “يشاكس” جمهوره رافضا إلقاء قصائده السياسية المباشرة، تلبية لإلحاح هذا الجمهور، عادة، في الأمسيات الشعرية الحاشدة التي شارك فيها [3]. إلا أن ذلك كلّه لا ينفي طبعا قيام الإيديولوجيا عاملا آخر من عوامل تقييم هذا الشعر و انتشاره.

 العامل الأخير، والأهمّ في رأينا، في انتشار هذا الشعر، وفي بلوغه مستوى فنّيًا راقيًا، في الأساس، أنّ درويش

واصل خلال نصف قرن وأكثر كتابة الشعر دون انقطاع، وفي خطّ صاعد في مجمله. بل يمكن القول إنه كرّس حياته، فعلا لا مجازا، للقراءة المتواصلة المتنوّعة، ولكتابة الشعر، والانطلاق به إلى مناطق جديدة على الدوام. كأنما ظلّ، على امتداد هذه المسيرة الشعرية الحافلة، يطرح على نفسه السؤال/ الطلب ذاته: ماذا بعد؟ فهو لم يقنع يومًا بالجماهيرية الواسعة التي حقّقها شعره الخطابي المباشر، حتى في المرحلة الأولى من نتاجه، قبل مغادرته إسرائيل سنة 1970، ولا بالمديح يُغدق عليه من قرّائه وناقديه في البلاد وفي العالم العربي، بل واصل دائمًا البحث عن الجديد غير قانع بما أنجز: [4] “هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلّب وملول من المنجز. وأشعر، صادقًا، بأني لم أصلْ إلى حدود ما يسمّى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذّي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرّر من تاريخيّته ومن ضغط الراهن، أي أنّه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معيّن. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظنّ، عبئًا على صفاء الشعرالذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفلّ. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس، هل نقرأه في حرب طروادة وفي زمن محدّد؟ “.

في أواسط الثمانينات، بعد  احتلال  إسرائيل بيروت، وخروج  منظّمة  التحريرالفلسطينية من لبنان، “استقرّ”

الشاعر أخيرا في باريس، حيث توفّرت له ظروف الهدوء، بعيدًا عن مسرح الأحداث، والقراءة المكثّفة، وطرح الأسئلة الكبرى، ومساءلة الذات، شاعرًا وإنسانًا. في باريس أيضًا بدأت متاعب القلب ومخاوف التقدّم في السنّ ، والمرض، والموت. هذه العوامل، مجتمعة، أرهصت لمرحلة جديدة في رؤية العالم وفي القصيدة الدرويشية تبعًا لذلك: [5] “لم يعد البطل شبقًا لأن يبقى بطلا، ولا يريد أن يتمتّع بمكانة الضحيّة، يريد أن يتحوّل إلى إنسان عاديّ [... ] ولأنّ الشاعر أصبح يعي أنّه ليس منقذًا وليس مخلّصًا وليس مسيحًا وليس نبيّا، فهذه كانت صفات الشاعر الرومانسي، فإن الشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتّع بعزلته وبكونه معزولا لكي تتاح له فرصة أن يعيد النظر في فرديّته وفي ذاته، دون أن يكون على حساب قطيعة مع المجتمع. ولكنّ طريقة التعبير عن علاقة الشعر بالواقع، تمرّ عبر التأمّل، بالتالي، فإن البحث عن تحوّلات البطل في نتاجنا كلّه، تقتضي تحوّلات في اللغة، والتخفيف من النطق باسم الجماعة إلى التكلّم باسم الذات الحاملة للجماعة، وهذا يقتضي طبعًا قصيدة متواضعة أو متقشّفة، تمجّد إنسانيّة الإنسان التي لا تُختزل بقدرته على التضحية، وتمجّد حبّه للحياة وليس حبّه للموت، تمجّد الإنسانية فيه، وهذا جزء من مشروع بحث الفلسطينيّ عن إنسانيّته”.

التجديد في هذه المرحلة الأخيرة من حياة درويش وشعره، شأن كلّ تجديد حقيقي، لم يقتصر طبعًا على رؤية العالم، بل طال القصيدة بكلّ مقوّماتها الفنية: مبناها، قاموسها، صورها، وإيقاعها أيضًا؛ موضوعة هذه المقالة. بدأ درويش كتابة الشعر في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وقد أخذ الشكل التفعيلي، أو ما تسمّيه نازك الملائكة  الشعر الحرّ[6]،  يهيمن على القصيدة الحديثة، وسرعان ما انحاز درويش إلى هذا الشكل الإيقاعي الجديد حتّى طغى على نتاجه تمامًا. ننظر في مجموعته الأولى، أوراق الزيتون[7]، متجاهلين كما أراد درويش نفسه مجموعة “عصافير بلا أجنحة”[8] المبكّرة،  فنجد أن الشكل الإيقاعي التقليدي يقتصر على أربع قصائد هامشية قصيرة، لا تتعدّى عشرة بالمئة من هذه المجموعة. وفي مجموعاته اللاحقة واصل درويش انحيازه الواضح إلى المبنى التفعيلي، بينما انزوى الشكل التقليدي في قصائد هامشية  معدودة هنا وهناك، بحيث يمكن اعتبار درويش أبرز وأكثر من تبنّى الإيقاع التفعيلي في مسيرته الشعرية الطويلة. إلا أنّ مرحلة التجديد الشاملة التي أطلقها في أواخر الثمانينات تطلّبت التجديد في الإيقاع أيضا، بعد سنوات طويلة ونتاج متواصل من القصيدة التفعيلية أدّت بهذا الشكل إلى النمطية والرتابة، بعد أن كان في بداية الطريق ثورة على الشكلين العمودي والمقطوعي وكسرًا لكليهما. لم يكن أمام درويش من شكل إيقاعي جديد يوافق مشروعه التجديدي في المرحلة المذكورة سوى قصيدة النثر. إلا أنه تجنّب الأخذ بهذا الشكل الإيقاعي الجديد، عامدًا، رغم إدراكه العميق لميزاته وطاقاته: [9] “بين ما يعطي شرعيّة لقصيدة النثر أنها تقترح كسر نمطية إيقاعية وتسعى إلى إنشاء إيقاع آخر، ليس بديلا لكنّه فعّال، فضلا عن أنه يؤسّس لحسّاسية جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهمّ العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطيا. هناك بيني وبين قصيدة النثر بالتالي حوار ضمني أو مبطّن. لكنّي أجد حلولي داخل الوزن. والوزن ليس واحدا، ولو كانت له العروض نفسها”.

إذا كانت قصيدة النثر حقّقت مشروعيّتها، بكسر النمطيّة الإيقاعية السائدة،  والتأسيس لحساسية جديدة، كما صرّح في المقتبَس أعلاه، فلماذا لم يأخذ بهذا الشكل الإيقاعي الحديث، مؤْثرا البحث عن الحلول في نطاق الوزن بالذات؟ لماذا لم يكتب قصيدة النثر وهو مَن صرّح، في مرحلة مبكّرة سنة 1973، أن الحداثة تتطلّب التنازل عن الشكل التفعيلي: [10] “كنتُ شديد الحماس إلى عدم التنازل عن التفعيلة، ولكنّ إيماننا بالحداثة وقبولنا التنازل عن القافية ووحدة السطر قد يجرّنا إلى التنازل عن التفعيلة أيضًا”. هذا هو التباس الحوار بين درويش وقصيدة النثر، أو الازدواجية في موقف الشاعر من قصيدة النثر.

في الحوارات الكثيرة مع درويش، وبعض المحاورين كانوا من شعراء قصيدة النثر البارزين، أقرّ الشاعر أن قصيدة النثر هي “الظاهرة الأبرز في الشعر العربي، وخلال العقدين الأخيرين بصورة خاصّة”، إلا أنه لم يكتبها “لأنه لم يشعر بأن الوزن يقيّده ويحجب عنه حرّيته في المغامرة”[11]. من ناحية أخرى، يوافق درويش محاورَه صراحة، في أسبوعيّة “أخبار الأدب” القاهرية، أن قصيدة النثر ليست شعرا، لكنّه لا يصرّح بذلك خوفًا من “ميليشيات وأحزاب تدافع عن هذه الكتابة”، ويضيف أن شروط تطوّر الشعر العربي  يجب أن تنبع من تاريخيّته حفاظًا على ثروته الإيقاعيّة: [12] “لا أقول هذا [بأنّ قصيدة النثر ليست شعرًا] لأنني في الحقيقة أخافهم، ولكنني أعبّر عن رفضي لقصيدة النثر بشيء واحد، أنّها ليست خياري، وإن كنت أقبلها كخيار لآخر، فإذا ادّعينا أن الشعر يُقرأ فكيف نتذوّق الموسيقى؟ إن الأذن موجودة كإحدى الحواسّ الأساسيّة لاستقبال الجمال. وإذا كان الصمّ لا يستمتعون بالموسيقى فإن استبعاد الأذن يعني شيئا كهذا ويعني استبعاد الطقس الإنشادي[... ] بالتأكيد هناك الكثير ممّا يجب الثورة عليه، لكنّني لا أرى كلّ التراث عيبًا، وشروط تطوّر الشعر العربي يجب أن تنبع من تاريخيّته وعلاقة هذه التاريجيّة بالشعر العالمي. ليس بالضرورة أن يكون نظام الإيقاع صارمًا كما في السابق، ولكن لا أفهم لماذا نفرّط بثروتنا الإيقاعيّة تمامًا”.

حيال هذه المراوغة في الردّ على أسئلة المحاورين، بصدد امتناعه عن كتابة قصيدة النثر، وموقفه الازدواجي في

 في تقييم هذا الشكل الإيقاعي الجديد، نرانا مضطرّين إلى البحث عن الأسباب الحقيقيّة في نهجه هذا. لا أحد ينكر موهبة درويش الإيقاعيّة ومهارته المدهشة في تطويع الشكل التفعيلي، وذلك ما سنعرض له بالتفصيل لاحقا، بحيث “وجد حلوله ” في الوزن، كما صرّح غير مرّة. لا نستغرب أيضا أن الشاعر مولع بالإيقاع بحيث غدا هذا الإيقاع / الوزن، وقد اعتاده زمنا طويلا وفي قصائد كثيرة جدّا، عاملا منظِّما في بناء شعره[13]. مع ذلك كلّه، لا بدّ من السؤال: إذا كان الشاعر وجد الحلول في الشكل التفعيلي المحكوم بوزن دقيق صارم، ألم يكنْ في وسعه  إيجاد هذه الحلول في قصيدة النثر أيضا وهي أكثر طواعية ويسرًا، ما في ذلك شكّ ؟ ما السرّ في تمسّكه بالشكل التفعيلي رغم اعترافه بأنّ قصيدة النثر “تؤسّس لحسّاسية جديدة” وقد أثبتت “شرعيّتها الإبداعيّة والثقافيّة”؟ باختصار: لماذا عمل الشاعر جاهدا على تبنّي السمات الأسلوبيّة لقصيدة النثر، أو معظمها، في قصيدته التفعيليّة، ولم يكتب قصيدة النثر ذاتها مباشرة ؟

يبدو لنا، من المراجعة الدقيقة لإجابات درويش في الحوارات الكثيرة معه وما تتضمّنه من تحفّظات واستدراكات غير قليلة، أن الشاعر امتنع عن كتابة قصيدة النثر لأسباب غير موضوعيّة؛ أسباب لا تكمن في قصيدة النثر ذاتها بكلّ مقوّماتها الفنيّة. صحيح أن كثيرين من الموهوبين اتّخذوا هذا الشكل الإيقاعيّ الجديد أداة وحيدة في إبداعهم الشعري، مثبتين شرعيّتهم وشرعيّتها في ساحة الإبداع الشعري. إلا أن قصيدة النثر منذ منشئها، في مجلة “شعر” في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، يوم كان “الالتزام” مهيمنا على الساحة الأدبية، اتّسمتْ في نظر غالبية القرّاء والنقّاد، بحقّ أو بغير حقّ، بتأثرها المباشر بالشعر الغربي، وانكفائها على الذات، وانشغالها الاستحواذي بهموم الأنا المضخّمة، وإيغالها في الأسلوب السوريالي المبهم، بعيدا عن قضايا الشعب القوميّة واليومية على حدّ سواء[14]. هذا في رأينا هو ما يلمّح إليه درويش  في كلمته التي ألقاها في حفل التوقيع على مجموعته الشعرية “كزهر اللوز أو أبعد” في رام الله: [15] ” أعلم أنّني سأُتهم، مرّة أخرى، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يعرّفها العُصابيّون بمعيارين: الأوّل: انغلاق الأنا على محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح على الخارج. والثاني: إقصاء الشعر الموزون عن جنّة الحداثة… فلا حداثة خارج قصيدة النثر. وتلك مقولة تحوّلت عقيدة يكفَّر كل من يقترب من حدودها متسائلا. وكلّ من يسائل الحداثة الشعرية عمّا وصلتْ إليه يُتهم، تلقائيا، بمعاداة قصيدة النثر!” . إذا كانت هذه هي صورة الحداثة وقصيدة النثر؛ “انغلاق الأنا على محتوياتها الداخلية”، فما الداعي إلى مجازفة الشاعر برصيده الوطني والشعري بكتابة قصيدة نثر؟ كيف يسمح “شاعر فلسطين” لنفسه بالتخلّي عن أعرض جماهيرية عرفها شاعر عربي معاصر في سبيل انغلاق الأنا على محتوياتها الذاتية؟  يخطئ من يظنّ أن درويش لم يكنْ حريصا أشدّ الحرص على صلته بجماهيره، حتى إذا لم يرضخ دائما لرغبة هذه الجماهير في تكرار الصورة النمطية التي رسمها شعره الأول: [16] “يشرّفني أن يُنظر إلى صوتي الشخصي كأنّه أكثر من صوت،  أو أن ” أناي” الشعرية لا تمثّل ذاتي فقط وإنّما الذات الجماعية أيضا. كلّ شاعر يتمنّى أن يصل شعره إلى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحدّدون القيمة الشعرية من منظور عزلتهم عن القرّاء. أنا لا أقيس الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله” .

ثمّ إن قصيدة النثر، باستبعادها الوزن الخليلي، جعلت “الشعر” مطيّة ذلولا للمبدعين وغير المبدعين. يكفي من لا يقوى على كتابة  موضوعة إنشائية جيّدة أن يرتّب “نتاجه” في أسطر متفاوتة الطول، زاعما أنه يكتب شعرًا، ثمّ يبعث به إلى الصحيفة ليُنشر في “الملحق الأدبي” دونما مراقبة أو مراجعة!  وأنى للقارئ العادي أن يميّز السمين بين هذا الكم الهائل من الغثّ؟ هذه الفوضى أضرّت، دونما شكّ، بالقيمة الريادية في قصيدة النثر، فلماذا يزجّ بنفسه في هذا الحشد الهائل من متسلّقي قصيدة النثر شاعر بنى رصيده وجماهيريته بالموهبة الفذّة والعمل الدؤوب سنين طويلة؟ هذا في رأينا هو سبب آخر، غير موضوعي أيضا، في امتناع درويش عن كتابة قصيدة النثر: [17] “إذا أردنا أن نحاكم حالتنا الشعرية نجد أنّ في شعر الشباب، وخاصّة لأنّ قصيدة النثر هوّنت عليهم الإحساس بالمسؤولية، نقصا في المعرفة  اللغوية، هناك الكثير من  القصائد أضعف من مقال متين. المفروض أن يكون  النصّ الشعري أرقى الأشكال اللغوية. المفروض أن يكون هو ما يحمي اللغة ويجدّدها”.

يبدو أن إصرار درويش المذكور على تبرئة نفسه من “وزر” قصيدة النثر، جعله أيضا ينفي كتابته هذا الشكل مرّة، ويُقرّ به أخرى، في الحوارات الكثيرة التي أُجريت معه. ففي الحوار الطويل معه في مجلّة “مشارف” سأله مُحاوره إذا كان جرّب مرّة كتابة قصيدة النثر، فكان ردّه: [18] “كتبت مزامير، والكثير من نثري أقرب إلى قصيدة نثر”. وفي حوار آخر مع عبّاس بيضون صرّح أنّه لم يكتب قصيدة النثر، لأنّه لم يتدرّب على مثل هذه الكتابة: [19] “فأنا لم أعرف أن أكتب قصيدة نثريّة لأنّي لا أعرف أن أجد إيقاعا نثريا، لستُ متدرّبا عليه، قد يكون في نثري الذي أعتبره نثرا لا قصيدة شعر شعريّة أكثر وإيقاع  أعلى، لكنّي لا أعرف أن أكتب قصيدة خارج الإيقاع والوزن”. ثمّ يُسأل مرّة ثالثة عن كتابته قصيدة النثر في قصيدة “مزامير”[20]، أولى قصائد مجموعته “أحبّك أو لا أحبّك”، فيبرّر ذلك بالتحاور مع الأسلوب في المزامير التوراتية: [21] “هذه التجربة التي تتكلّم عنها جزء من مجموعة  “مزامير”، حاولت أن أستحضر فيها أبعاد التراث المزموري، وأّقدّم حنينًا فلسطينياً في حواره  مع حنين توراتي، وهذا يقتضي أن تتحاور مع نصوص موجودة هي المزامير [ ... ] وبعد أن مرّت سنوات على هذه التجربة، لم أجد أنها نجحت ، فكانت عبارة عن خواطر سُجّلت نثرًا “.

هنا أيضا “يتهرّب” الشاعر من كتابته قصيدة النثر في “مزامير”، كأنّما هي تهمة ظالمة، فيسمّي ما كتبه هناك من قصيدة النثر “خواطر سُجّلت نثرًا”. القصيدة المذكورة هي قصيدة طويلة، تتألف من 17 مقطعًا، وتتضمّن تشكيلة كبيرة من الأوزان: المتقارب- 3 صفحات، المتدارك- 5، الكامل- 2، الرمل- 3، وقصيدة النثر- 22. وإذا كانت المقاطع من قصيدة النثر تتحاور مع الأسلوب المزموري، كما رأى درويش، فإن الأوزان الأربعة الأخرى في القصيدة ذاتها لا تتّصل بالأسلوب التوراتي من قريب أو بعيد. ولا ندري لماذا حكم الشاعر على التجربة بالفشل، وما  الفرق بين مقاطع قصيدة النثر ومقاطع الأوزان الأخرى في هذه القصيدة.

بعد قرابة عشرين سنة على تجربة “مزامير”  التي سمّاها الشاعر “خواطر سُجّلت نثرا”، أصدر درويش  كتابين/ مجموعتين يحار القارئ، والناقد أيضا، في تصنيفهما الجانري. الكتاب الأوّل أسماه  ”في حضرة الغياب”[22]  وأضاف تحت اسمه “نصّ “، تاركا للقارئ الحكم في جنسه الأدبي. يتصدّر الكتاب أيضا بيت من قصيدة مالك بن الريب الشهيرة في رثاء نفسه، “يقولون لا تبعدْ وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا”، ليشكّل هذا الشعار/ الموتو ، عنوانا موازيا، بشكل أو بآخر، لاسم الكتاب – في حضرة الغياب. الكتاب 181 صفحة، في عشرين “فصلا”، ويقوم كما يشي عنوانه على حوار، بضمير المتكلّم، بين اثنين في واحد هو الشاعر ذاته: [23] “ولنذهبنّ معًا أنا وأنت في مسارين: أنتَ، إلى حياة ثانية، وعدتكَ بها اللغة [ ... ] وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر  من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد”. باختصار، يمكن القول إنّ الكتاب هو مرثية ذاتية، كما هي قصيدة مالك بن الريب، تقوم على حوار داخلي بأسلوب درويشي مبتكر، يحفل بالمجاز والتناصّ مع شعر درويش نفسه ومع مصادر أخرى كثيرة، ويتناول مسألة الحياة والموت، شغل درويش الشاغل في الفترة الأخيرة من حياته، متّكئا إلى حدّ بعيد على شذرات من السيرة الذاتية، يمتزج فيها الواقع بالمتخيّل، ويغلب عليها السرد القصصي.

ما يهمّنا هنا، في هذه المجموعة، أن درويش يمزج فيها، عامدا، بين الشعر والنثر أيضا. وإذا كان أسماه “نصّا” فهو في رأينا نصّ  شعري، يراوح بين شعر بالوزن التفعيلي وشعر في النثر، أو لنقل من قصيدة النثر. اللغة هي نفس اللغة، في المقاطع الموزونة والمقاطع من النثر، والمراوحة بين الواقعي والتجريدي تجدها هنا وتجدها هناك، فلا يعرف القارئ، إلا إذا كان يتعرّف الإيقاع التفعيلي سماعا، أين ينتهي النصّ النثري وأين يبدأ النصّ الموزون. بل إنّ النصّ، إمعانا في التعمية، ينتقل من النثر إلى الوزن، في خواتم بعض الفصول غالبا وفي ثناياها أحيانا، من أسطر ممتلئة إلى أسطر متفاوتة الطول حينا[24]، للدلالة ربّما على بداية الوزن التفعيلي، أو إلى أسطر ممتلئة تتخلّلها الخطوط المائلة كما يُكتب الشعر التفعيلي أحيانا[25]. في خاتمة الفصل الأوّل، مثلا، يتحوّل النصّ من شعر في النثر إلى شعر تفعيلي، من المتقارب، دونما إشعار بذلك، رغبة في محو الحدود الفاصلة بين الموزون والنثري[26]:

وأخرجوك من الحقل. أما ظلّك، فلم  يتبعك ولم

يخدعك، فقد تسمّر هناك وتحجَّر، ثمّ اخضرّ كنَبتة

سُمسم خضراء في النهار، زرقاء في الليل. ثمّ نما وسما

كصفصافة في النهار خضراء، وفي الليل زرقاءُ/

 

مهما نأيتَ ستدنو/ ومهما قُتلتَ ستحيا / فلا تظننَّ أنك

ميْتٌ هناك / وأنّك حيّ هنا / فلا شيء يثبت هذا وذلك

إلا المجاز /  المجاز الذي درَّب الكائنات على لعبة الكلمات/

المجاز الذي يجعل الظلّ جغرافيا / والمجاز الذي سيلمّك

واسمَكَ / [ ... ].

 

المقطع الأوّل من هذا المقتبس لا يكاد يختلف عن المقطع الثاني، الذي يستمرّ في الواقع حتى آخر الفصل؛ لا في الخطاب ولا في اللغة ولا في الثيمة. إلا أنّ المقطع الأول من النثر،  والثاني إلى آخر الفصل من الوزن التفعيلي. بل إن تفعيلة  المتقارب يمكن أن تبدأ  مع الكلمة الأولى من المقطع الثاني، مخرومة (ﮟ – - > – -)، ويمكن أن تبدأ تامة مع الكلمات الثلاث “وفي الليل زرقاءُ” [بالضمّ !]، على سبيل التدوير بين مقطعين، وهي تقنية غير نادرة في شعر درويش. تجدر الإشارة  أيضًا إلى أن المتقارب يتخلّله هنا الضرب  المحذوف أيضًا، فعو / ﮟ – ، مرّة في غير الوقف وأخرى في الوقف، ثمّ يُختتم المقطع أخيرّا بخمسة “أسطر” من الوافر التفعيلي. إلى هذا الحدّ من التعمية وتمويه الموزون بالنثري!

الكتاب الثاني هو “أثر الفراشة”[27]. تحت اسم الكتاب أضاف الشاعر “يوميّات”، كأنما في هذه الإضافة تعريف بجانر هذه المجموعة،  ثمّ أورد قبل النصّ الأول ملاحظة أخرى ذكر فيها أنّ الكتاب هو “صفحات مختارة من يوميّات، كُتبت بين صيف 2006 وصيف 2007″، رغبة في إيهام القارئ، مرّة أخرى،  أنها يوميّات فعلا كتبها الشاعر في الفترة المذكورة.

إلا أنّ القارئ، إذ يبدأ في مطالعة الكتاب، يكتشف أن المجموعة ليست يوميّات بالمعنى المحدّد لهذا الجانر. إنّها، في الأكثر، “يوميات شعريّة” مبتكرة، أسبغ عليها الشاعر هذه التسمية “الخادعة” لكتابتها في فترة طويلة، ولقصر نصوصها التي لا يتعدّى الواحد منها الصفحتين، إذا استثنينا النصّين الأخيرين. ثمّ إن هذه التسمية “المراوغة” جنّبت الشاعر تحديد الجانر الأدبي لهذه النصوص التي تضمّ الموزون إلى جانب النثري، دونما نظام واضح في هذا التقسيم.

في الكتاب 126 نصّا، 47 منها هي نصوص موزونة، ومكتوبة في أسطر متفاوتة الطول وفقًا

للمألوف في كتابة الشعر التفعيلي، والنصوص الباقية هي نصوص نثرية واضحة، يمكن اعتبارها، بالمعايير المتعارفة، من قصيدة النثر فعلا. بل إنّ الشاعر نفسه يسمّي النصّ الثالث من المجموعة  “كقصيدة نثر”[28]، مضيفا الكاف لاستبعاد اعتبارها قصيدة نثر فعلا. ولا ندري لماذا خصّ الشاعر هذا النصّ بالذات بهذه التسمية، وهو لا يكاد يختلف عن سابقه، “ذباب أخضر”[29]، مثلا، وعن  معظم النصوص النثرية الأخرى.

الكتاب، كما أسلفنا، هو نصوص قصيرة من التأمّلات، أو الخواطر السريعة، في الحياة والموت وفي العالم المحيط بالشاعر، لا رابط شكليا أو معنويا بينها، وذلك ما سوّغ، ربّما، في نظر الشاعر، تسميتها باليوميات. من بين هذه النصوص، نقف وقفة قصيرة عند نصّين متجاورين[30] ومتشابهين لغة ومضمونا، لا فرق يذكر بينهما سوى أن الأوّل من الشعر التفعيلي والثاني من النثر، أو قصيدة النثر. النصّ الأوّل هو قصيدة بعنوان “الطريق إلى “أين” ، مهداة إلى الشاعر العراقي المغترب سركون بولس، ويصعب الحكم من النصّ إذا كانت في رثائه فعلا، فما كتبه درويش من “رثاء”، وقد “رثى” كثيرين من أصدقائه، لا يتّصل بالرثاء التقليدي من بعيد أو قريب. والنصّ الثاني، النثري، بعنوان “فاكهة الخلود”، وهو في “رثاء” الشاعر السوري ممدوح عدوان. نجتزئ “المطلع” من النصّين، رغبة في الاختصار، لنرى أن لا فرق في الواقع من حيث اللغة والصور، سوى أن الأوّل موزون، من المتدارك التفعيلي، والثاني من النثر، أو قصيدة النثر، دونما تسميتها بهذا الاسم:

1) الطريقُ طويلٌ إلى أين؟ مرتفعاتٌ

ومنخفضاتٌ. نهارٌ وليلٌ على الجانبين.

شتاء قصير وصيف طويل. نخيلٌ

وسروٌ، وعبّاد شمسٍ على الجانبين.

محطّاتُ كازٍ، مقاهٍ، وممستوصفاتٌ،

وشرطةُ سير على الجانبين. وسجنٌ

صغيرٌ ودكّانُ تبغ وشاي[ ...].

 

2) للمقابر هَيبةُ الهواء وسطْوةُ الهباء.تشيّع

صديقك ممدوح، وتنتظر دورك…

تنقلك روائحُ الزهور الذابلة وحفيف الأشجار

إلى البعيد… إلى ما وراء الشيء … إلى عنوانك

الأخير في ناحية من نواحي العدم. لكنك

تفكّر في ما هو أبسط: أَلقبور مراتب.

فمنها ما يبدو لك أنه راحة النائم. ومنها

ما يحرم النائم من التطلّع إلى سمائه

المدفونة [ ... ].

صحيح أنّ الشاعر لم يضمّ في هذه المجموعة الموزون والمنثور في النصّ الواحد، كما فعل في الكتاب الأول، إلا أنه جمع في هذا الكتاب أيضا عددا كبيرا من النصوص بعضها موزون وبعضها دونما وزن، وإن كانت لا تكاد تختلف لغة وصورا، وسمّى النصوص جميعها “يوميّات”، لئلا يقع في “المحظور” فيُتّهم بكتابة قصيدة النثر!

إذا استثنينا المجموعتين المذكورتين، يمكن القول إن درويش ظلّ مخلصا في شعره للإيقاع التفعيلي حتى آخر أيامه، مسخّرا موهبته الفذّة وتجاربه الطويلة، في كتابة قصيدة تفعيلية تكاد تستوعب كلّ سمات قصيدة النثر، وتلك مهمّة شاقة و”صناعة شديدة الحساسية والإتقان”[31]، لا يقوى عليها إلا مبدع حقيقي متمرّس: [32] “.. على أن محمود درويش ما زال يصرّ على كتابة قصيدة التفعيلة ولكن محرّرًا إيّاها من إرثها الثقيل ورتابتها المضنية، بل مازجًا بينها وبين “فضاء” قصيدة النثر من غير أن ينحاز إلى الأخيرة انحيازًا شكليّا أو تقنيّا. ولعلّ الخصال التي تتميّز بها قصيدة درويش الجديدة هي إيقاعيّة في  ناحية منها، فالإيقاع لديه تخطّى النظام التفعيلي المغلق مازجًا بين الإيقاع الداخلي الذي يصنعه تجانس المفردات والحروف والتقفية الداخليّة والإيقاع الخارجي الذي تصنعه التفاعيل والقوافي”. كأنما أراد درويش واعيا الجمع بين الوزن والسمات الأسلوبية للنثر، أو قصيدة النثر، ما جعل كثيرين يتوهّمون أنّهم بصدد قصيدة نثر، وما هي بقصيدة نثر: [33] “أودّ أن أقول إنّ كثيرين من الشعراء والقراء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضمّ قصائد نثر[...] فهم يحسّون أن أطروحات قصيدة النثر تمّ استيعابها في شعري” . باختصار، يمكن القول إن درويش وجد “حلوله” فعلا ، كما ذكر غير مرة، في نطاق الوزن، بل حقّق إلى حدّ بعيد مقولة أبي حيان التوحيدي التي اتّخذها في مجموعته “كزهر اللوز أو أبعد”  ”موتو” يلخّص نهجه لا في هذه المجموعة فحسب، بل في معظم شعره من المرحلة الأخيرة: “أحسن الكلام ما … قامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثر كأنّه نظم…”.

العامل الأوّل في تشكيل “الحلول”، التي يذكرها درويش غير مرّة في حواراته، هو الوزن بالذات، ونعني بذلك انحياز الشاعر بوضوح إلى البحر المتقارب. كان درويش، قبل المرحلة الأخيرة مولعًا بالغنائية والإيقاع العالي، الكامل والوافر والرمل بوجه خاصّ، بل إن مجموعته “مديح الظلّ العالي”[34] التي كتبها في حرب لبنان، وسمّاها “قصيدة تسجيلية”، لما تتسم به من خطابية عالية، تقوم كلّها عل إيقاع الكامل. إلا أن الشاعر ينحاز في المرحلة الأخيرة، كما ذكرنا، إلى المتقارب لما أنس فيه من خفّة وبساطة بعيدا عن الخطابية والغنائية و”النفَس الملحمي”. هذا ما يتجلّى بوضوح في مجموعة “ورد أقلّ”[35] ، التي تعتبر البداية الحقيقية للمرحلة التجديدية الأخيرة، وتقوم كلّها على إيقاع المتقارب لا غير. الأمر ذاته نلحظه في مجموعتين لاحقتين، “سرير الغريبة” و “حالة حصار”[36] اللتين تقومان على المتقارب الخالص أيضا. لعلّه من الطريف هنا المقارنة إيقاعيا بين “مديح الظلّ العالي” التي كتبها ردا على الاحتلال الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، و”حالة حصار” في الردّ على الحصار الإسرائيلي على رام الله سنة 2002، بعد انتقال الشاعر إلى الإقامة في المدينة. المجموعة الأولى كتبها درويش “المقاتل” الغاضب محرّضا فكان لها البحر الكامل الخطابي، أمّا الثانية  فكتبها درويش المتأمل الإيروني فكان لها المتقارب الخافت، “النثري”:[37] “أنا حاولت في هذه القصيدة [حالة حصار] أن أبلغ أقصى درجات التقشّف الجمالي، بالتخفيف من الاستعارات والبلاغات، في محاولة لكتابة يوميّات بسيطة جدا، ولكن قد تكون بساطتها أقوى من البلاغة العالية”.  لا نقول طبعا إن الشاعر هجر الأوزان الأخرى كلّها واقتصر على المتقارب، إلا أن هذا البحر بالذات هو ما يمثّل المرحلة الجديدة، أو بكلمة أخرى هو الوزن الذي وجد فيه درويش بديلا لإيقاع قصيدة النثر: [38] “ومن يقرأني يلاحظ أنني من “ورد أقلّ” وأنا أستخدم الإيقاع نفسه، أي السطر الذي يبدو يتحرّك بالنثر وليس مفرطا بالصور اللامعة التي تقصد الإبهار”. باختصار، حين يرغب الشاعر في “الإبهار” فهو يعمد إلى الكامل غالبا، أو الوافر والرمل أحيانا، أما إذا أراد

“الحديث”، أو ما يسميه هو “السردي”[39]، فإيقاعه الأثير هو المتقارب، التفعيلي طبعا.

في مجموعته “جدارية محمود درويش”[40]، يرشدنا الشاعر بوضوح إلى دلالة المتقارب في شعر المرحلة الأخيرة. المجموعة/ القصيدة كلّها هي حوار “ملحمي” بين درويش والموت؛ كأنما يقف الشاعر أمام الموت وجها لوجه يناقشه ويناضله، متناولا مأساة الموت، متأملا في الوجود، متوسّلا بالإبداع والأساطير الشرقية القديمة لتحقيق الغلبة في هذا الصراع الرهيب. لذا، فالقصيدة مكتوبة كلّها في الكامل التفعيلي أيضا، كأنما ليضاهي بهذا  الإيقاع الباذخ النفَس الملحمي والأسلوب التجريدي “الفلسفي” الذي يبسط ظلّه على القصيدة. إلا أن الشاعر إذ ينزل من عالمه التجريدي “الأبيض” في مقاطع معدودة يلتفت فيها إلى الواقع حوله، إلى “البياض” الواقعي على الممرّضات والأسرّة، عندئذ  “ينزل” الإيقاع أيضا فيتحوّل إلى المتقارب، أو المتدارك:[41]

“الوقتُ صفرٌ، لم أفكِّر بالولادة

حين طار الموتُ بي نحو السديم،

فلم أكُن حيّاً ولا ميْتًا،

ولا عَدَمٌ هناك، ولا وجودُ

 

تقولُ مُمرِّضتي: أنتَ أحسَنُ حالا.

وتحقُنُني بالمخدِّر: كنْ هادئاً

وجديرًا بما سوف تحلمُ

عمّا قليل…”.

عالم الرؤيا والتجريد، عالم محاورة الموت ومناهضته، في إيقاع الكامل الفخم، وأما عالم الواقع حوله، وهو ملقى على سريره، ففي المتقارب/ المتدارك، اليومي أو “النثري”، وتلك دلالة ما بعدها دلالة على موقع المتقارب في نفس الشاعر وفي قصيدته.

علينا أن نبيّن هنا أن المتقارب المذكور ليس متقاربا خالصا، إذ غالبا ما يمتزج بالمتدارك في شعر درويش من المرحلة الأخيرة، كأن تبدأ القصيدة أو المقطع منها بالمتقارب، ثم تتحوّل إلى المتدارك أو بالعكس، ما يجيز لنا ببساطة اعتبار هذا المزيج وزنا “حديثا” فعلا نسمّيه المتدارب، أي المتدارك + المتقارب. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن المتدارك الذي نعنيه هو المتدارك المتشكّل من تكرار تفعيلة  فاعلن – ﮞ – ، أو تنويعتها المخبونة، عندما يسقط منها ساكنها الأول؛ ﮞ ﮞ – .  وهو وزن  لم يعرفه  الشعر  الكلاسيكي سوى  في أبيات  معدودة  في كتب العروض والنحو أوردوها هناك للتمثيل. في المتدارك هذا لا ترد بتاتا فاعلن المشعثة – - التي تتردّد في الخبب، ويعتبرها العروضيون تنويعة من فاعلن، كما في قصيدة الحصري المعروفة ومعارضاتها الكثيرة:

 يا   ليلُ  الصبُّ  متى  غدُهُ              أقيامُ      الساعةِ      موعدُهُ

- - / – -/ ﮞ ﮞ -/ ﮞ ﮞ-     //      ﮞ ﮞ -/ – -/ ﮞ ﮞ -/ ﮞ ﮞ - 

علينا التمييز إذن بين وزنين مختلفين: الخبب، ويتشكّل من ﮞ ﮞ-  أو  – - ، وهو الذي عرفه الشعر الكلاسيكي، وإيقاعه سريع راقص، والمتدارك ويتشكّل من -ﮞ-  أو  ﮞ ﮞ – ، وهو وزن قائم في التراث نظريا، بُعث حيّا وازدهر في الشعر الحديث، وفي شكله التفعيلي بالذات. لعلّ أوّل من “اكتشف” هذا الوزن ودعا إلى انتشاله من خموله هو الدكتور لويس عوض في كتابه التجريبي الرائد بلوتولاند[42]، الصادر في طبعته الأولى سنة 1947، ثم ظهر في شعر المجدّدين بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيّما عند بدر شاكر السيّاب. الإيقاع في هذا الوزن، المتدارك، خفيّ لا يكاد يتبيّنه إلا من كانت له دراية بأوزان الشعر سماعًا، بحيث يبدو أقرب ما يكون إلى النثر، وذلك هو سبب شيوعه في الشعر التفعيلي المتأخر، وعند محمود درويش بالذات.

في قصيدة “أنا يوسف يا أبي”، مثلا، وهي قصيدة مكتوبة في أسطر ممتلئة أيضا، بأسلوب النثر، نقرأ في مطلعها:[43]

 

” أنا يوسفٌ يا أبي. يا أبي، إخْوتي  لا يُحبّونَني،  لا يُريدونَني  بيْنَهم يا

أبي. يعْتَدونَ عَليَّ ويَرْمونَني بالحَصى والكَلامِ. يُريدونَني أنْ أموتَ لِكَيْ

يَمْدَحوني”.

المقطع أعلاه، والقصيدة كلّها، من المتقارب، بشرط قراءتها في “نفَس” واحد، وبالتشكيل الذي يحرص عليه الشاعر أشدّ الحرص، مثلما يحرص عادة على علامات الترقيم التي يبدو نصّه مشبعا بها. إلا أن القراءة المتواصلة غير ممكنة طبعا، والقارئ مضطرّ إلى الوقف بعد الجملة الأولى، مثلا، عند النقطة التي حرص الشاعر على إثباتها، وسرعان ما يتحوّل الوزن في الجملة الثانية إلى المتدارك. وإذا زعم زاعم أن الشاعر لم يقصد هذه “الحيلة” الإيقاعية، أتيناه بمثال ثانٍ[44] يفرض على القارئ الوقف، تبعا للتشكيل والوزن، فيتحوّل الوزن فورا من المتدارك في السطر الأوّل إلى المتقارب في تاليه:[45]“إن رجعتَ إلى البيت، حيّاً، كما ترجع القافيةْ / بلا خَلَلٍ، قُلْ لنفسك: شكرًا!”. على هذا النحو يدأب الشاعر على المراوحة بين المتدارك والمتقارب، أو على الأخذ بما أسميناه بحقّ المتدارب، فيُخيَّل إلى “كثيرين من الشعراء والقراء”، كما صرّح بنفسه، أنّهم حيال نصّ نثري، وما هو بنصّ نثري. إنّه نصّ موزون على نحو دقيق، لكنّ الشاعر “قتل” الوزن فيه بهذه الحيلة الإيقاعية البارعة!

الوسيلة الثانية في “إخفاء” الوزن هي التدوير. والتدوير في الشعر الكلاسيكي يتمثّل في اتّصال شطري البيت إيقاعيّا، بحيث ينتمي جزء من الكلمة الواحدة إلى الصدر والجزء الثاني إلى العجز.

في الشعر القديم لا يعتبر التدوير ظاهرة شائعة، وأكثر ما يرد هناك في البحر الخفيف والمجزوءات، أمّا في الشكل التفعيلي الحديث فقد غدا التدوير ظاهرة إيقاعية طاغية تمتدّ في أحيان كثيرة عدّة أسطر، فتَحول بذلك دون قراءتها في “نفَس” واحد، كما يتطلّب الوزن، وتخفّف على هذا النحو من بروز الإيقاع، بل توهم القارئ غير المتمرّس بخلل في الوزن حين يقرأ السطر الواحد مستقلا.  على هذا النحو أصبح التدوير مقوّما أساسيا في بناء القصيدة الجديدة، رغم اعتراض نازك الملائكة الشديد عليه لاحتكامها لذائقتها المحافظة[46]، يتيح للصورة الشعرية أن تتدفّق في حرية تامّة حتّى تُستكمل تماما، لا يعترضها الوقف متمثّلا في القافية أو اكتمال التفعيلة في آخر السطر.

يشير درويش إلى التدوير في شعره، دونما الأخذ بالمصطلح العروضي نفسه، مبيّنا ما ذكرناه آنفا بأسلوبه هو، فيؤكّد إدراكه العميق لهذا العنصر البنائي الهامّ في تشكيل القصيدة التجديدية:[47] ” في كتابي الأخير [لا تعتذر عمّا فعلت] وربّما الذي قبله، القصيدة قد تُقرأ من أوّل كلمة إلى آخر كلمة على أساس أنّها سطر واحد. أنا أرى أنّ هذا يعطي حيويّة حركة وتصويرًا لارتباك وفوضى ما منظّمة في داخل بناء يبدو أنّه فوضوي. أنا أردّ على الفوضى الخارجية بفوضى بصرية لكن منظّمة إيقاعيّا [...] فإذا كتبت سطرا وسكّنت ثمّ كتبت بعده سطرًا شعريّا فسيبدو هذا شعرا عموديّا. أحبّ أن أوحي بتداخل الأشكال والمناخات وأحبّ أن أسترسل، ومع أنّ القصائد مقتضبة إلا أنّ السطر نفسه مسترسل وفيه جيشان داخلي”.

يشيع التدوير في قصائد درويش التفعيلية بشكل طاغٍ، كما أشار هو في المقتبس السابق، بل كثيرا ما “يدوّر” الشاعر، لا في الأسطر المتتالية فحسب، بل بين مقطع وتاليه أيضا، وفي أسطر تنتهي بالقافية في أحيان كثيرة، متجاوزا بذلك التقليد المعروف في قيام القافية خاتمة للجملة الإيقاعية. بل إنّه في قصائد كثيرة من مجموعة “ورد أقلّ”، التي اعتبرناها بداية المرحلة الأخيرة، يعمد إلى القصيدة المدوّرة في أسطر ممتلئة على عرض الصفحة، حافلة بعلامات الترقيم، كما في قصيدة “أنا يوسف يا أبي” التي ذكرناها آنفًا[48]، إمعانًا في الإيهام بالنثر.  وهو لا يكتفي بالتدوير في الكامل والمتدارب والرمل، الأوزان البسيطة التي تتشكّل من تكرار التفعيلة ذاتها، بل يدوّر أيضا البسيط والسريع، وفي أسطر عدّة. من تدويراته الأكروباتية هذه، نورد المقطع الأوّل من قصيدة “مصرع العنقاء”[49]، كما ظهر هناك، لإبراز التدوير المركّب واختلاف الوزن باختلاف طريقة قراءته:

“في الأناشيد التي نُنشدها

نايُ،

وفي الناي الذي يسكنُنا

نارُ،          

وفي النار التي نوقدُها

عنقاء خضراءُ،

وفي مرثية العنقاء لم أعرفْ

رمادي من غبارِكْ”.

المقطع أعلاه، ومقاطع القصيدة كلّها طبعًا، من الرمل التفعيلي (- ﮞ – - / ﮞ ﮞ – - ) ، ويمكن قراءته من أوّل كلمة فيه حتى آخره من الرمل المذكور، بحيث يتشكّل من تفعيلة فاعلاتن مكرّرة 15 مرّة، والأسطر كلّها مدوّرة لا ينتهي أيّ منها بالتفعيلة كاملة. إلا أنّ القارئ لا يقرأ المقطع كلّه في نفَس واحد، كما ذكرنا، فإذا توقّف في نهاية السطر الأوّل تحوّل الوزن في بقيّة المقطع إلى الرجز؛ 13 مستفعلن، وإذا توقّف في السطر الثاني في نهاية الجملة النحويّة عند الفاصلة التي أثبتها الشاعر، انقلب الوزن هزجًا؛ 12 مفاعيلن. لعلّ الشاعر لم يقصد هذه “التشكيلية” الإيقاعية فعلا، فالمقاطع الأخرى من القصيدة لا تتطابق مع هذا المقطع تمامًا. مع ذلك، يظلّ هذا الغنى الإيقاعي، وفي أسطر توهم بالنثر بتدويرها وشكل كتابتها، ظاهرة مدهشة حقّا.

مسألة أخرى تتّصل بالتدوير، وكلّ قصائد درويش التفعيلية يغلب عليها التدوير، هي القافية. في القصائد المذكورة غالبًا ما “تُغمط” القافية طبعًا، إمّا بإيرادها فقط في آخر المقطع مهما كان طويلا، أو بإدراجها في ثنايا السطر فلا تبرز للعين ولا للأذن، أو بإخفائها تمامًا من مقاطع طويلة يبلغ الواحد منها الصفحة وأكثر أحيانًا. هنا أيضًا لم يتخلّ الشاعر عن القافية تمامّا، إلا أنّه خفّف من “وطأتها” إلى حدّ بعيد، لإدراكه أنّها من المقوّمات البارزة في الإيقاع التقليدي. لا حاجة، في ظنّنا، إلى إيراد الأمثلة على توظيفاته المختلفة للقافية، فهي تتردّد في كلّ قصائده التفعيلية من المرحلة الأخيرة. يكفي في هذا الصدد أن نتعرّف رأي الشاعر نفسه، إذ يصرّح أنه يحاول واعيا إلغاء القافية، لما تحمله من سمة إيقاعية عالية، إلا أنه لا يستطيع التخلّص منها بحكم “السليقة”، فيعمد إلى إخفائها:[50] “أحيانًا أخفيها[ القافية]، أطردها من آخر السطر وأضعها في وسطه. القافية بالنسبة لي أشبه بزوجة مفروضة على رجلها ولا حيلة له بوجودها. أجد نفسي مقفّى وموزونًا حتّى في مقالاتي، لا يخيفني هذا في المقال، لكنّني أتعمّد في القصيدة إلغاء قوافٍ كثيرة. هذه القوافي تأتيني عفو الخاطر. إنّها السليقة كما قلت. القافية جزء من الإيقاع لكنّ الإيقاع الأجمل هو الذي لا يحتاج إلى قافية”.

سمة أخرى من سمات النثر، والنصّ القصصي بوجه خاصّ، في شعر المرحلة الأخيرة، هي الحوار. حتّى الشعر الكلاسيكي لا يخلو من مقاطع قليلة تتضمّن الحوار بأسلوب “قالت، قلت”، إلا أنّه في هذه المرحلة الأخيرة عند درويش من الشيوع والإطالة والإحكام بحيث يمكن اعتباره ظاهرة واضحة يحاكي فيها النثر فعلا. يظهر الحوار في قصائد هذه المرحلة بالأسلوب الكلاسيكي حينا، “أقول.. تقول..”، أو “قال.. قلت..”[51]، بل يظهر بأسلوب “هو: ، هي:” في قصيدة من الكامل بالذات تحمل عنوان “هو وهي”[52] أيضًا، مُدرجًا هذين الضميرين/ المتحاورين في الوزن أيضًا! كما يرد الحوار بالأسلوب الحديث أيضًا؛ شرطة قبل السؤال ثمّ الجواب بعده[53]، بل إنّ الشاعر يعمد في قصيدة “طباق”[54] المدهشة في “رثاء” إدوارد سعيد، إلى الحوار بأسلوب “قلت.. قال”، ثمّ ينتقل إلى حوار يبدأ فيه السؤال بالشرطة، ثمّ يأتي بالجواب بعد مربّع، كما لو كانت القصيدة مقابلة صحفية في جريدة فعلا:

- هل كتبتَ الرواية

ם حاولتُ… حاولت أن أستعيد بها

   صورتي في مرايا النساء البعيدات [...]

- وماذا فعلتَ؟

 ם  ضحكت على عبثي

   ورميتُ الروايةَ في سلّة المهملات!

- هل تستطيع الرجوعَ إلى أيّ شيء؟

ם أمامي يجرّ ورائي ويُسرع…

   لا وقت في ساعتي لأخطَّ سطورًا

   على الرمل[...]

- إذن قد يصيبك داء الحنين؟

 םحنينٌ إلى الغد.. أبعد أعلى

   وأبعد. حلمي يقود خُطاي [...].

-  والحنين إلى أمس؟

ם  عاطفةٌ لا تخصّ المفكّر إلا

    ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب.

    وأمّا أنا، فحنيني صراعٌ على حاضرٍ

    يُمسك الغد من خصيتيه

_  ألم تتسلّل إلى أمس، حين ذهبتَ

    إلى البيت بيتك، في حارة الطالبيّة؟  

ם  هيّأتُ نفسي لأن أتمدّد في

    تخت أمي، كما يفعل الطفل حين يخاف

    أباه. وحاولت أن أستعيد ولادة

    نفسي، وأن أتتبّع درب الحليب

    على سطح بيتي القديم [ ... ].

   – وهل خفتَ؟ ماذا أخافك؟

ם لا أستطيع لقاء الخسارة وجهًا

   لوجه. وقفتُ على الباب كالمتسوّل

   هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق

   سريري أنا… بزيارة نفسي لخمس دقائق؟

  هل أنحني باحترام لسكّان حلمي الطفوليّ؟

  هل يسألون: مَن الزائر الأجنبيّ

  الفضوليّ؟ [...].

أطلنا، ربّما، في هذا المقتبس رغبة في إبراز هذا النوع الطريف من الحوار في القصيدة، مأخوذين أيضا، لا ننكر، بهذه اللغة الشعرية المراوحة بين الواقعي والمجازي بأسلوب مدهش.

الوسيلة الأخيرة التي يلجأ إليها درويش لإيهام القارئ بالنثر، أو بقصيدة النثر، هي إيراد الألفاظ

والتراكيب “النثرية” أو “اليوميّة”، في ثنايا قصائد المرحلة، بعيدّا عن المجاز والتجريد:[55] “أنا لا أستطيع أن أتكلّم بلغة الجاهليين في القرن العشرين. الشعر الحديث، لذلك، أجرى هذه الهلهلة، بمعنى أنّه قرّب اللغة الفصيحة من اللغة المحكيّة، أو لغة الحياة اليوميّة، ومن وسائل الحياة المتداولة”. هذه المقاطع “اليوميّة” كثيرة في المرحلة الأخيرة، ولم يتورّع فيها الشاعر عن إيراد ألفاظ من القاموس المتداول بين الناس، أو أخرى أجنبية نادرا ما عرفها الشعر من قبل. باختصار، ضمّن الشاعر قصائده الأخيرة ما أسماه “نثر الحياة”[56] الذي بهره في شعر سعدي يوسف أيضًا. من هذه المقاطع “النثرية” الكثيرة في المرحلة الأخيرة، نكتفي بواحد من قصيدته الشهيرة “لاعب النرد” التي كتبها درويش بأسلوب فيه كثير من الرثاء الذاتي، قبل وفاته بأسابيع قليلة:[57]

وُلدتُ بلا زفّةٍ وبلا قابلةْ

وسمّيتُ باسمي مصادفةً

وانتميتُ إلى عائلةْ

مصادفةً،

وورِثتُ ملامحَها والصفاتْ

وأمراضَها:

أولاً – خللاً في شرايينها

         وضغطَ دمٍ مرتفعْ

ثانيًا – خجلاً في مخاطبة الأمّ والأبِ

         والجدّة – الشجرةْ

ثالثًا –  أملاً في الشفاء من الأنفلونزا

         بفنجان بابونجٍ ساخنٍ

رابعًا – كسلاً في الحديث عن الظبي والقبّرةْ

خامسًا – مللاً في ليالي الشتاءْ

سادسًا – فشلاً فادحًا في الغناءْ…

هذا المنجز الشعريّ المدهش، إيقاعًا ولغة، لا يمكن أن يتحقّق إلا بموهبة كبيرة، و”صناعة” حاذقة، وعمل شاقّ طويل، وهذه جميعها تضافرت في مشروع درويش الشعري في المرحلة الأخيرة. في قصيدة طويلة من مجموعة “كزهر اللوز أو أبعد”، يكاد درويش يختزل كلّ ما رمينا إلى تفصيله في هذه المقالة حين يقول متوسّلا لغته:[58]

“أمشي مع الضاد في الليل- / تلك خصوصيتي اللغويةُ- أمشي / مع الليل في الضاد كهلا يحثّ / حصانًا عجوزًا على الطيران إلى برج / إيڤل. يا لغتي ساعديني على الاقتباس / لأحتضن الكون [...] يا لغتي ساعديني / على الاختلاف لكي أبلغ الائتلاف. لِديني / ألِدْك. أنا ابنك حينًا، وحينًا أبوك / وأُمّك. إن كنتِ كنتُ، وإن كنتُ / كنتِ. وسمّي الزمان الجديد بأسمائه / الأجنبيّةِ يا لغتي، واستضيفي الغريب / البعيد ونثرَ الحياة البسيطَ لينضج / شعري [...]“.

لم يكتب درويش قصيدة النثر، أو حاول “التبرّؤ” منها على الأقلّ، إلا أنه استطاع أن يجد “حلوله”، يجب أن نعترف، في نطاق الوزن التفعيلي، فأنجز بذلك أحسن الكلام، بأسلوب التوحيديّ، في “نظم كأنه نثر”!


[1]  عبده وازن: محمود درويش، الغريب يقع على نفسه، بيروت، 2006، ص. 89؛ انظر أيضًا مشارف، حيفا،  3/ 1995، ص. 91.

[2]  الأخبار اللبنانية، 28 . 4 .2007 .

[3]  مشارف، ص. 110.

[4]  الأخبار اللبنانية، المصدر السابق؛ انظر أيضا:  محمود درويش:  حيرة العائد،  رياض  الريس  للكتب والنشر، بيروت، 2007،

    ص. 144، 160؛ جريدة السفير اللبنانية،21. 11. 2003.

[5]  ”محمود درويش المختلف الحقيقي” ، مجلّة الشعراء، عدد خاصّ، 4-5 ، 1999، ص. 19.

[6]  نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، بيروت، د.ت.،  ص. 23 – 50.

[7]  محمود درويش: ديوان محمود درويش، المجلّد 1، دار العودة،  بيروت،  1989، ص. 7 – 76. يشار هنا إلى أن  هذه الإحصائية،

   وكلّ إحصائياتنا اللاحقة، تقوم على عدد الصفحات، لما بين قصيدة وأخرى من تفاوت كبير في الطول.

[8] محمود درويش: عصافير بلا أجنحة، عكا، 1960.

[9]  مشارف، ص. 69؛ وانظر أيضا : وازن، ص. 77.

[10]  مجلّة شؤون فلسطينية، عدد 45، أيلول ديسمبر 1973، ص. 96، عن ناصر علي: بنية القصيدة في شعر محمود درويش،

   بيروت، 2001، ص. 222، وانظر أيضا: مشارف، ص. 97.

[11]  الأخبار، 28 . 4 . 2007؛ الدستور، 29 تموز 2001؛ المختلف الحقيقي، ص. 17، وازن، ص. 78؛ حيرة العائد، ص. 148؛

    السفير، 21 . 11 . 2003.

[12]  أخبار الأدب القاهريّة، 9 فبراير، 1997.

[13]  مشارف، ص. 103، وحول مكانة الوزن / الإيقاع في شعره، انظر أيضا:  وازن، ص. 76؛ المختلف الحقيقي، ص. 37.

[14]  انظر النقد العنيف لقصيدة النثر وجماعة “شعر”، في قضايا الشعر المعاصر، ص. 182-196.

[15]  حيرة العائد، ص. 148.

[16]  وازن، ص. 70؛ وانظر أيضا: مشارف، ص. 74، 110؛ المختلف الحقيقي، ص. 23، 29.

[17]  السفير، 21 . 11. 2003 .

[18]  مشارف، ص. 97.

[19]  السفير، العدد السابق.

[20]  ديوان محمود درويش، المجلّد 1، ص. 365- 399.

[21]  المختلف الحقيقي، ص. 17.

[22]  محمود درويش: في حضرة الغياب، رياض الريس للكتب والنشر بيروت، 2006.

[23]  المصدر السابق، ص. 9-10.

[24]  انظر، في المصدر نفسه، مثلا، خواتم الفصول ، ص. 4، 5، 8.

[25]  في حضرة الغياب، خواتم الفصول 1، 2، 3، مثلا.

[26]  المصر نفسه، ص. 14-15.

[27]  محمود درويش: أثر الفراشة، رياض الريس للكتب والنشر بيروت، 2008.

[28]  أثر الفراشة، ص. 21-22.

[29]  المصدر نفسه، ص. 19-20.

[30]  المصدر نفسه، ص. 141-142؛ ص. 143-144.

[31]  انظر رأي درويش مفصّلا في هذه “الصناعة” ، كما سمّاها بنفسه، في جريدة الرأي الأردنية، 22 تموز، 2004.

[32]  وازن، ص12-13.

[33]  المصدر السابق، ص. 80؛ انظر أيضا: المختلف الحقيقي، ص. 22.

[34]  محمود درويش: ديوان محمود درويش، الجلد الثاني، دار العودة بيروت،1994، ص. 7-77.

[35]  ديوان محمود درويش، م 2، ص. 323-372.

[36]  سرير الغريبة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 1999؛ حالة حصار، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2002.

[37]  القدس العربي، 22. 3. 2009.

[38]  المختلف الحقيقي، ص. 22؛ انظر أيضا: المصدر نفسه، ص. 16، 25، 36؛ سرير الغريبة، ص. 4؛في حضرة الغياب، ص.177.

[39]  وازن، ص. 76-77.

[40]  محمود درويش: جداريّة محمود درويش،  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2000.

 [41] جدارية محمود درويش، ص. 28- 29؛ وانظر أيضا ص. 65 – 67، ص. 86- 91.

[42]  انظر لويس عوض: بلوتولاند، الطبعة الثانية، القاهلرة، 1989، ص. 20، 84، 85.

[43]  ديوان محمود درويش، المجلد الثاني، ص. 359.

[44]   محمود درويش: كزهر اللوز أو أبعد،  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2005،  ص. 23.

[45]  كزهر اللوز أو أبعد، ص. 23.

[46]  قضايا الشعر المعاصر، ص. 157-162.

[47]  السفير، 21 . 11. 2003؛ انظر أيضا:  وازن، ص. 77.

[48]  الإحالة 2، ص.14.

[49]  محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن- يروت – قبرص، 1995، ص. 91.

[50] مشارف، ص. 96 – 97.

[51]  كزهر اللوز أو أبعد، ص. 118- 119، 173-175، بالترتيب.

[52]  المصدر السابق، ص. 85- 87.

[53]  لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي،  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت،  ص. 151-152.

[54]  كزهر اللوز أو أبعد، ص. 179 – 197.

[55]  السفير، 21 . 11 . 2003؛ انظر أيضا: المختلف الحقيقي، ص. 16.

[56]  حيرة العائد، ص. 140.

[57]  لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، ص.36؛ انظر أيضا: المصدر نفسه، ص. 70؛ كزهر اللوز أو أبعد، ص. 93، 181-182؛ حالة

   حصار، ص. 38. 42، 44، 63، 73.

[58]  كزهر اللوز أو أبعد، ص. 122-123.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

9 تعقيبات

  1. ;)

  2. الى نقد حر

    واضح !;)

  3. النضج يمنعني من الانجرار وراء عدم النضج عزيزي :)
    تحياتي

  4. الى …( الى وطني)

    بالمرة لا …:)

    الى نقد حر …النضج قادني لكتابة ذلك ماذا عنك ؟؟؟!!

  5. دائما سألت نفسي عن السر الخفي في اشعار محمود درويش الأخيرة والان وجدتها!

  6. أستاذ “وطني”.. يا ريت شوية نضج. مش أكتر!

  7. ألا يؤكّد تعليقك سطحيّتك ؟ إنت قرأت المقال أصلا ؟

  8. من اقوى ما قرأت عن محمود درويش. مقالة هامة تضيء على الاسلوبية الدرويشية وقراءات باطنيه لما يمكن ان نكون قد حسبناه -للحظة- الوضوح الدرويشي…

  9. الا يؤكد هذا ما قلته بالنسبة لمنع الكاتب من النشر في جريدة الاتحاد وموقع الجبهه ؟حتى المواضيع الادبية ؟؟! …يبدو أن الكاتب أخذ على خاطرو فقرر ياخذها من اخرها ..بنشر في قاديتا !!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>