عرض “حصار”: عن تجلّيات الجسد وحصاراته / فادي عاصلة

عرض “حصار”: عن تجلّيات الجسد وحصاراته / فادي عاصلة

يمكن أن نسجل من خلال حالة حصار ولادة حالة جديدة، حالة فهم جديد للجسد، لا شك أنها تشير لتوجهات ورؤى اجتماعية جديدة، فهي تقول شيئًا ما هناك مضمرًا في الحركات والرقصات، كأنها تقول: لقد ضاق الجسد بكم ذرعًا، فإن لم تقولوا سيقول، وسيحلق مرة أخرى لتفهموا كل ما قيل دون لفظ، هكذا كان الجسد في عرض “حصار”، يقول ما لم يستطع الحصار قمعه.

IMG_3615

من عرض “حصار” (عدسة علي مواسي).

| فادي عاصلة |

فادي عاصلة

فادي عاصلة

لا شك أن الجسد لم يعد يشتغل وظيفته الرمزية السابقة، حيث ظل مهمشًا لقرون عدة عمقت خلالها الأديان أزمته، وحولته العديد من الفلسفات إلى قشرة سطحية للروح يجب تقشيرها من أجل الوصول إلى حقيقة الروح وجوهر الإنسان انطلاقًاً من توجهات ثيولوجية موغلة في الزمن يمكن تلخيصها بديمومة الروح وقدسيتها، فيما الجسد مساحة مدنسة وفانية. هكذا صار الموت مريحًا للعديد من الحركات والتيارات، وظلت الروح هائمة في الخلود الأبدي تبحث لها عن مستقر.

التوجهات الكولونيالية انتبهت لهذه الثنائية في فلسفة الروح والجسد، واستثمرتها دومًا لتعميق هذه الفجوة ولتهميش الجسد وتدميره أكثر فأكثر، إن كان بالاستعمار والاستنزاف المباشر للجسد، أو في توجهاته الما بعد كولونيالية التي أعادت دراسة مشروعها التدميري للجسد، متجاوزة أدواتها السابقة ومعيدة النظر في آليات تطويعه وضبطه، مستثمرة في ذلك الإرث الاستشراقي كله، فالجسد بصفته هوية ثقافية يحمل في إيماءاته وتفاصيله أبعادًا دلالية هائلة، فجسد الرجل الأبيض، وعيونه الزرقاء، وطوله الفارع، تعد خزانًا دلاليًّا كثيفًا، جميعها تشير إلى رقي صاحبه وتفوقه على غيره، في مقابل الرجل الأسود ذي العيون الداكنة والطلة الحزينة، حيث والدلالات السلبية وحدها ترافقه.

الجسد الجمعيّ/ الجسد الجبهة

هكذا صار الجسد الأبيض في العرف الكولونيالي هو الجسد المثالي الذي يُفَضّلُ امتلاكه، والذي لا يمكن فصله عن الأنماط الثقافية الأخرى التي خلقها الاستعمار، فالجسد المثالي لا شك أنه حاضنة العقل المثالي والراعي المنتمي للأنظمة الثقافية المتميزة، ومجموعة تقاليد وأنماط اجتماعية أكثر تفوقًا. هذه الرؤية الاستعمارية للجسد حدت بالثقافة الإنسانية إلى إعادة قراءتها بحيث صار الجسد مركزًا للاستكشاف، سواءً للمقموع والمقهور أو للسلطة التي تعيد ملاءمة نفسها لمتغيرات الظروف، وبالتالي الحاجة لتطويع الجسد وقمعه قمعًا ناعمًا يتلاءم وعصورنا الحديثة.

هذه الحاجة من المقهورين لإعادة الاعتبار لأجسادهم في مقابلة السلطات التي مضت في إيجاد أساليب قمعية أخرى، حولت الجسد إلى جبهة ضارية من التجاذبات عبر الصراع والصراع المضاد، ومن خلال تقنيات متعددة المستويات، تبدأ باللغة وتنتهي بالتكنولوجيا الأمنية؛ هكذا مثلاً يعتبر الحصار خنقًا جغرافيًّا للجسد كما السجن تمامًاً، لكن الحصار هو نقل السجن وإخراجه من رتابته البيروقراطية إلى الحيز الاجتماعي، وإدخاله إلى الاجتماعي يجري من خلال إخفاء أدوات الحصار عبر إزاحتها للساحة الخلفية، حيث لا يكون جزءًا من الحضور اليومي، فلا يمكن لمس الحصار بصفته حصارًا جماعيًّا (مثل السجن مثلاً)، لكن يمكن رؤية تجلياته في الهندسة الاجتماعية وفي صياغة كل الواقع الجمعي للحيز الاجتماعي. الحصار أكثر إيغالاً وقسوة وأقل حضورًا مباشرًا، وهو متعدد الأشكال التي يختبئ خلفها، بحيث يستطيع أن يحول كل دلالاته القهرية إلى نقائض تعزز إنسانية المحتل المستعمر وتعيد هندسة الواقع كاملًا.

“حالة حصار”

أحد الأمثلة الجيدة لحقيقة الحصار، هو العرض الذي قدمه المسرح الفلسطيني مؤخرًا للمشاهد، “حصار”، وهو عرض موسيقى حركي، إخراج وإعداد وسيم خير، وأداء مجموعة من الفنانين المحليين، والذي  يستوحي “حالة حصار” للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ويعيد صياغة الحالة الشعرية التي كتبها درويش حالةً حركيةً من خلال رقصات وحركات جسدية.

حالة حصار، القصيدة المطولة التي كتبها محمود درويش من وحي الحصار في الانتفاضة عام 2002، كانت وليدة حصار مطبق مباشر عايشه الفلسطينيون في فترة الاجتياح، وقد تحدث يومها درويش عن حالة حصار قائلاً: “كنت أرى من بيتي الدبابات والجنود، لم تكن لدي طريقة مقاومة إلا أن أكتب، وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد، وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية.”

لم تنتهِ الانتفاضة إلا وجدار الفصل العنصري قد صار قائمًا، وتبعها حصار غزة، في كل حصار المستهدف دومًاً هو الفلسطيني، ولم تفتأ المؤسسة الإسرائيلية في إبداع أشكال قمعية للجسد الفلسطيني المستهدف دومًاً، فالجسد الفلسطيني الذي كانت تجري تصفيته سابقًا أعيد بناء سياسة للتعامل معه، سياسة قائمة على إعطاء الشرعية للمشروع الصهيوني وليس لحماية الجسد الفلسطيني، أو كما يوضح ميشال فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، فإن السجن سابق للقانون، وما القانون سوى أدوات تنظيم للسجن، وكذلك هو الحصار، فهو سابق لأسباب وجوده، وما هو إلا لتشريع أو لتنظيم الاحتلال.

الجسد الفلسطينيّ مساحةَ تجلٍّ

هكذا يمكن قراءة واقع الفلسطينيين في الداخل، فلم يختلف واقعهم في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي بين السنوات 1948 – 1968 عن واقعهم اليوم، فالحصار الذي عاشوه يومها يستمر اليوم، لكنه حصار مقنن، فالحكم العسكري استبدل بقوانين أخرى “كمنع زيارة دول العدو” لتحديد تحركاتهم وحصارهم، وجرى تحديد مواقع عملهم من خلال تحديد أماكن العمل، فهذا العمل لمن خدم في الجيش وذاك التخصص الجامعي لمن هو فوق سن الـ21، وتلك الوظيفة مهيأة لخريجي الأقسام الأمنية؛ وهكذا فإنه من خلال أدوات إقصائية ومضامين عنصرية قمعية، جرى تحديد مواقع وجود الفلسطيني وآليات تحركه، وظل فلسطينيوا الداخل منزوعين ومفصولين عن امتدادهم العربي. الحصار هو الحصار، لا ينتهي في عقلية الاستعمار لكنه يُبَدّلُ أشكاله فقط.

استحضار وسيم خير لحالة حصار في هذه المرحلة هو إبراز لجغرافيا الجسد الفلسطيني الذي يحاول الاحتلال تغييبه عن المسرح أو عن المشهد البصري، كالقاتل الذي يخشى النظر في وجه ضحيته، أو كجدار الفصل العنصري الذي يرتفع لأكثر من خمسة عشر مترًا في الهواء ليحجب الحصار عن المُحاصِر فلا تخدشه مشاهد القمع، ولئلا يرى المحُاصَرُ سوى حصاره في الجهة الأخرى، فلا يرى محتله ولا يناوشه، فضخامة الجدار تتحول إلى ضخامة رمزية للاستعمار تكسر البصر وتوجهه نحو الجهة الأخرى، وتغلق منافذ الرؤية للحد من الصور التي قد تثير الشجن وتتحول إلى رغبات في التحرر.

هنا يكمن الإبداع في عرض “حصار”، إذ يرد الاعتبار للجسد الفلسطيني ليرى المشاهد فعل الاحتلال في مساحات الجسد، الذي كان يعلن عن نفسه في كل إيماءة وحركة، في تحرك الأجساد فوق المسرح، في تفاعلها مع الموسيقى والشعر والضوء والعتمة، في توق الجسد كإله أبولوني بالمفهوم النيتشوي للمعنى.

صوت الموت سابقٌ لكلّ شيء

يبدأ عرض “حصار” في الظلمة وقبل أن نرى النور تمامًاً أو تضاء مصابيح المسرح تُسمع حشرجات موت الأجساد الملقاة على الخشبة، صوت الموت سابق لكل شيء، يسبق قصيدة درويش وتتقدمه، يسبق الإضاءة، يسبق الأجساد في حضورها البصري، ويسبق تصوراتنا، صوت الموت وحده كان أقوى من كل شيء، والأقوى بعدها كان النهوض منه.

لم يكن الحصار هذه المرة بلسان شخص واحد، فـ “حالة الحصار” المستلهمة أداها نخبة من الممثلين، كون الحصار لا ينتمي لشخص واحد بل يعيشه الجميع، إنه خلل بنيوي يتفشى في الجسد الاجتماعي كله، فيتشارك الممثلون الأداء؛ الحصار جمعي لا يعرف فردًا بعينه، وعليه فالجسد ليس جسد الفرد بل هو الجسد الاجتماعي.

ليس من الغريب أصلاً أن نسمع النصوص التي سمعناها وأن يجري اختيارها واجتزاؤها بالذات من قصيدة درويش، فجميعها تدور حول الحب والحرب مباشرة، والحب والحرب هما بطبيعة الحال – شئنا أم أبينا – ذروتا الحياة وخلاصتها، فلا يمكن لعمل ما أن يقوم دون أحدهما، ولا غرابة في كون الحب ينتمي لداخلنا، لما هو حسيَّ قائم فينا بفعل رغبة وشعور (ولا يمكن رؤيته إلا من خلال الجسد)؛ والحرب التي قوامها الجسد هي حرب على السواعد والجسوم، كما الحصار تمامًا. لكن المميز هذه المرة أن الجسد هو الحاضر في المستوى الأول على المسرح، فيما الشعر هو خلفية الحضور الجسدي، هو إعادة الاعتبار للجسد وإيماءاته، فلا يمكن رؤية ما فعله الاستعمار والاحتلال بالإنسان دون جسد، الحب يتجلى عبر الجسد، والكره والموت والقهر والظلم كل شيء يمر عبر الجسد، الحيز الأكثر تعبًا وتأثرًا من مضامين الحياة ودواخل النفس، لكنه في الوقت نفسه الأكثر تغييبًاً عن وعينا.

حصار الإنسان للإنسان

قام الاستعمار دومًا، بما فيه الاحتلال الإسرائيلي، بصياغة رؤية جديدة للجسد الفلسطيني، بل صياغة رؤية الفلسطيني لجسده، فأماكن العمل الشاغرة التي مُنِحَتْ للفلسطيني جميعها أشغالٌ سوداء تعتمد على القدرة الجسدية، فيما خلت الأعمال التي تحتاج طاقات ذهنية من وجود الفلسطيني، فالاستعمار لا يرى بالمُسْتَعْمَرِ سوى طاقات بشرية وجسدية لا أكثر. هكذا امتلأت المصانع وورشات البناء بالفلسطينيين، وهكذا تحول المشهد الأكثر بشاعة وقرفًا في التاريخ، كوقوف الفلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية في الثالثة فجرًا بطوابير تفوق الآلاف، من مشهد قمعي مأساوي في واقعه، إلى منظر إنساني وفق المؤسسة الإسرائيلية التي أنسنته من خلال فتح “الحواجز” أمام الفلسطينيين، دون أن يطرح السؤال عن آلية الإدخال وآلية الإخراج، أي عن سيرورة هذه الدخول، وعن التحولات اللاحقة وآثارها في الجسد الفلسطيني.

لا فارق أو تفضيل في تعنيف الجسد، فكلهم سيان، تعذيب الجسد على الحواجز كتعذيبه في السجون كتعذيبه في المؤسسات وفي المدرسة وفي البيت والشارع، كلها مراكز ومساحات تقصي الجسد وتشكله وتترك آثارها الموجعة فيه، لتصير أجسادنا مثل كتب التاريخ، تؤرخ هي أيضًاً للتاريخ الاستعماري في أرضنا.

حضور الجسد الفلسطيني هذه المرة على المسرح من خلال الرقصات والحركات المؤداة بعناية، وبمقاربة سيميائية فيها توافقٌ بين الملفوظ من قول، والمؤدى من حركة، وتوافقهما في ما يمكن تسميته السيكوحركية، هو انتصار حقيقي للجسد الفلسطيني، وهو مصالحة إنسانية بين الذات والجسد، واستكشاف جديد للجسم الذي مرارًا جرى إقصاؤه من مساحات الدراسة والبحث والعمل.

الحصار في عرض “حصار” ليس حصار رام الله واجتياحها الذي انتهى منذ سنين، بل هو حصار لقمة العيش في مخيمات اللاجئين في الضفة، هو حصار غزة الخانق، هو حصار الأجساد في المكعبات الإسمنتية أمام مداخل المدن، هو حصار العمال في أقفاص الحديد على الحواجز وهم متوجهون صباحًاً نحو عملهم، هو حصار الطالب في الجامعة، حصار الطفل في المدرسة، حصار الأم في البيت، حصار العاشق وحبيبته، حصار الزوج وزوجته، حصار الجوعى للقمتهم، حصار المصلي لمسجده وكنيسته وخلوته، حصار الدارس لكتبه، حصار الجسد لجسده ورغبته، وحصار الإنسان للإنسان.

الجسد رؤيةً تحرّريّة

لا شك أن عرض “حصار” هو انطلاقة جديدة في رؤية الجسد، فالموت الذي كان وحده الحاضر في بدء المسرحية، وحده كان الخاسر، كان خير يحمل جثة يتنقل بها طيلة العرض، لكنها قامت قيامتها لاحقًا وبعثت من موتها واقفة، فالجسد أيضًا يقوم ويبعث حيًّا انتصارًا للحياة، إنه إعلان مدوٍّ عن ولادة الجسد الاجتماعي منتصرًاً فوق كل أشكال الموت، فالكفن الكبير الذي لف المؤدين في العرض لم يفلح في قتلهم، إذ هبت وجوههم من بين طيات الكفن الكبير ليمزقوه معلنين انتشاء الجسد مرة أخرى ووقوفه في وجه الموت.

ثم إن رقصات وحركات المؤدين المتميزين: رلى عازر، وإلياس غرزوزي، وأسيل أبو وردة، وحسين الحرفاني، وملاك عمار، وضياء مغربي، وسيرت فاخوري، وماريا حلو، ونور زعبي، كانت جميعها متناسقة ومميزة، كانت واضحةً فيها سجلات الرغبة بالتحرر وفتح الجسد على مضامينه، وصراخ الإيماءات على المساحة والمسافة، وتجلي الإنسان من ركام الموت والرغبات المقموعة.

يمكن أن نسجل من خلال حالة حصار ولادة حالة جديدة، حالة فهم جديد للجسد، لا شك أنها تشير لتوجهات ورؤى اجتماعية جديدة، فهي تقول شيئًا ما هناك مضمرًا في الحركات والرقصات، كأنها تقول: لقد ضاق الجسد بكم ذرعًا، فإن لم تقولوا سيقول، وسيحلق مرة أخرى لتفهموا كل ما قيل دون لفظ، هكذا كان الجسد في عرض “حصار”، يقول ما لم يستطع الحصار قمعه.

(طالب دراسات عليا في الأدب المقارن، الجامعة العبريّة)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>