اللّذة البَصرية وسينما السرد (1)/ لاورا مالفي

اللّذة البَصرية وسينما السرد (1)/ لاورا مالفي

لم تَعد السينما ذلك النِظام الأحادي والمُتأسس على توظيف رأسمال كبير كما في نسخته الأفضل؛ هوليود سنوات الثلاثين حتى سنوات الخمسين. لقد غَيرت التقنيات المتطورة (أفلام 16 مم وغيرها) الشُروطَ الاقتصادية الضُرورية للإنتاج السينمائي والذي أصبحَ أكثرَ حِرفيةً وأكثرَ رأسمالية. مما فَتح المَجال لنشوء سينما بديلة

لاورا مالفي

لاورا مالفي

>

|لاورا مالفي|

|ترجمة وإعداد هشام روحانا| 

1- مقدّمة

هشام روحانا

هشام روحانا

أ- الاستخدام السياسي للتحليل النفسي. تسعى هذه الدِراسة مستخدمةً نظريةَ التحليل النفسي نحو استكشافِ أين وكيف يَتم تعزيزُ الافتتانِ بالفيلم، من قِبَل ما هو قائم وفاعل أصلا من أنماط الافتتان داخل الذات الفردية، ونحو دراسة التشكيلات الاجتماعية التي جَبلت هذه الذات. ونقطة انطلاق هذه الدِراسة هي الطريقة التي يَعكس فيها الفيلمُ ويُوحي بالتمايز الجنسي، أو حتى كيف يتلاعبُ على التأويلات الصريحة والمُتأسسةُ اجتماعيا لهذا التمايز الجنسي، والتي تتحكم بالصور وبالوسائل الشهوانية للنظرة وبالمشهد. وإنه لمن المفيد أن نفهم كيف كانت السينما في الماضي في الوقت الذي نحاول فيه بِناءَ نظرية وممارسة تحاولان تحدي هذه السينما. ولهذا فإن نظرية التحليل النفسي تُشكل سِلاحا سياسيا مُلائما لتَظهير الطريقة التي يَبني فيها لاوعيُ النظامِ البطريركي الشكلَ السينمائي.

إنَّ مُفارقة التمركز الفالوسي[1] (Phallocentrism) على جميع مظاهره، تكمن في اعتماده صورةً للمرأة المخصية، كأساس للمعنى في عَالمِه هو. وهكذا يرتفع هذا الإدراك للمرأة، كعمود الأساس الذي يرتكز عليها النظام كُله؛ إذ انَّ هذا النَقص الذي لديها هو ما يُنتج الفالوسَ كحضورٍ رمزيّ، وإنَّ رَغبتها بما هو خَيرٌ، هو هذا النَقص الذي يدُّل عليه الفالوس. إنَّ النصوص الأخيرة المنشورة في مجلة “الشاشة”[2] (Screen) حولَ نظرية التحليل النفسيّ والسينما لم تعطِ كثيرَ اهتمامٍ لموضوع الكيفية التي يتم تَمثُّل – عرض الشَكل الأنثوي في النظام الرمزيّ والذي في نهاية المطاف لا يتحدث الا عن الخِصاء.

وفي تلخيص سريع للأمر فإنَّ وظيفةَ المَرأة في صِياغة اللاوعيّ البطريركيّ مُضاعفةٌ: إنَّها ترمز أولا الى تهديد الخِصاء بما أنها تفتقر للقضيب فعلًا، وثانيا وظيفةُ تنشئةِ طِفلها بما يتلاءم مع دخولِه النظامَ الرمزيّ. وبإنجازها هذا فإنَّ ما تقدمه من معنى لهذا المَسار يَصلُ الى نهايته، فلا يَستمر دخولا لها الى عالم القانون واللّغة الا كذِكرى؛ إما كذِكرى لتَمامِ الكِفاية الامُومية، أو كذِكرى لنَقصٍ، وكِلتَاهما مَطروحتان من قِبل الطَبيعةِ (أو بصياغة فرويد الشهيرة “تشريحيًا”).

تَخضعُ رَغبة المَرأة إذا لصُورتها كحمَّالة لجرحٍ نَازف، فلا تستطيعُ الوجودَ الا من خِلال العَلاقة مع الخِصاء الذي ليس بمقدورها تَجاوزه. إنها تُحوِّل طِفلها الى دال، دال على رَغبتها في امتلاك القضيب (وهو شَرطُ دُخولها- كما تتخيل- الى النظام الرمزيّ). فإما أن تَنصاعَ رَاضية للعالم، لاسم الأب وللقانون، أو أنها تُناضل من أجل الاحتفاظ بطِفلها في سَراب العالم الخياليّ. وتقوم المرأة في الحضارة البطريركية مقام الدّال للآخر الذكر، حَبيسةَ النظام الرمزيّ، هذا النظامُ الرمزيُّ الذي يُمكِّن الرجلَ بَعث أوهامه ومخاوفه الى الحياة بأوامر لّغوية يُلقيها على صُورة صامتةٍ للمَرأة، والتي لا تَزالُ مُقيدةً الى مُوقعها كحاملة للمعنى، دونَ أنّْ تكونَ قَادرةً على صِناعته.

للنسوياتِ هنالك إذا مَصلحةٌ واضحةٌ في مِثل هذا التحليل، وتكمن جَماليته تَحديدا في استدعائه للإحباط المُعاش تحتَ وَطأة هذا النظام التَمركزِ الفالوسيّ. إنه يُقربنا الى جذور هذا الطُغيان ويصيغُ الاشكاليةَ بشكلٍ أكثرَ وُضوحا، ليُوجِهنا نحو التحدي الأوليّ: كيف نُحارب اللاوعيّ المَبنيّ على شكل لّغةٍ (والمُتشكِلُ جذريا في لحظة وصول اللّغة)، بينما نحن ما زلنا في قَبضة لّغةٍ هي لّغةُ البطريركية؟ لا طَريق نستطيعُ سُلوكها لطرح بديلٍ يأتي من العَدم، لكننا نستطيع إحداثَ كَسرٍ يُسائل البطريركية بأدواتها ونظرية التحليل النفسي ليست أداة وحيدة لهذا لكنها أداةٌ هامةٌ. الا اننا ما زلنا بَعيدين بفجوة عميقة عن موضوعاتٍ مُهمة بالنسبة للاوعيّ الانثوي والذي لا يمثل مثار اهتمام يذكر لنظرية التمركز الفالوسيّ: جنوسة (Sexing) الطِفل – الأُنثى وعلاقتها بالرمزيّ، المرأة الناضِجة جِنسيا بوصفها ليست- أما، الأمُومة خارج الدلالة الفالوسية، المهبل… لكن نظرية التحليل النفسي كما هي في موقعها الآن تستطيع على الاقل دفعَ فَهمنا للحالة الراهنة، للنظام البطريركي الذي يصطادُنا.

ب. تفكيك اللذة كسلاح جذري

تَطرح السينما بوصفها نِظام تَمثلات مُتطور، تَساؤلاتٍ عن وَسائل وبُنى اللاوعي (والمُتشكل من قِبل النظام المهيمن) وأصنافَ النَظر واللّذة المُتأتية من مُشاهَدة السينما وتَبدُّلاتها على مدار العقودِ الماضية. لم تَعد السينما ذلك النِظام الأحادي والمُتأسس على توظيف رأسمال كبير كما في نسخته الأفضل؛ هوليود سنوات الثلاثين حتى سنوات الخمسين. لقد غَيرت التقنيات المتطورة (أفلام 16 مم وغيرها) الشُروطَ الاقتصادية الضُرورية للإنتاج السينمائي والذي أصبحَ أكثرَ حِرفيةً وأكثرَ رأسمالية. مما فَتح المَجال لنشوء سينما بديلة. ذلك لأن شكل الوعي الذاتيّ والاستخفاف الذي يتحكم في هوليود يَجعلُها حبيسةَ “تركيب مشهدي” (mise-en-scene) شَكلانيّ الطابِع يَعكسُ المفاهيم الايديولوجية المُهيمنة في السينما. تَخلق السينما البديلة المجالَ لسينما جذرية بالمعنيين السياسيّ والجماليّ وبمقدورها أن تطرح تَحديا أمام الفرضيات الاساسية لصناعة الافلام التقليدية. ليس هذا بهدف رفض الأخيرة أخلاقيا، بل من أجل تَسليط الضوء على الكيفية التي تعكس فيها تعاملاتها الشكالانية، الاستحواذَ النفسيّ للمجتمع الذي يُنتِجها، وبالمقابل من أجل أنْ تَبدأ هذه السينما البديلة بطرح اعتراضاتها إزاءَ هذه الفرضيات والاستحواذات. إن السينما الطلائعية مُمكِنة الآن ولكنها ما تزال ممكنة فقط كطباق.

تَنبع سَاحرية الأُسلوب الهوليودي في أفضل اشكاله (وجميع أصناف السينما الواقعة تحت تأثيرها) ليس حصرا، بل في جانب مهم منه، من حرفية تَلاعبه الباعث على إشباع اللّذة البَصرية. وتقوم السينما التقليدية، وبدون منازع، بإدراج الايروسية المُشفرّة داخل لُغة النِظام البطريركيّ المُهيمن. وفي سينما هوليود المُتطورة وفقط ومن خِلال هذه الرموز المُشفرة تستطيع الذات المُستلَبة والممزقةَ الذاكرة المُتخيلة بإحساسها بأن شيئا ما ناقصٌ، والواقعة تحت تَهديد نَقص مُحتمل في الهَوام، تستطيع هذه الذات الاقتراب قليلا لتَلمس لحظةً خاطفةً من شُعور بالإشباع، إشباعٍ يتم من خلال جماليات شَكلانية وتَلاعب على الهواجس المُكوِّنة للذاتّ.

سوف تُعالج هذه المقالة الكيفية التي يَتم فيها حياكة نَسيج اللّذة الشبقية في الفيلم، مَعانيها، وعلى وَجه الخصوص الدور الذي تلعبه صُورة المَرأة المعروضة على الشاشة. يُقال بأنَّ تحليلَ الجمالِ يهدمُه، وهذه هي نيّة هذه المَقالة. تجب مُهاجمة إشباع الحواس وتَعزيز الأنا والذي يمثل الهدفَ الأسمى في تاريخ السينما حتى الآن. وذلك ليس من أجل إعادة بناء لّذة جديدة، والتي لا وجود لها في المُجرد، وليس من أجل عَقلنة قُبول انعدام-اللّذة، بل من أجل نَقض شَامل لخِفة وجَزالة فيلم السرد الحكائي (Fiction). والبديل هو القيام بشق طريق مُثير يَحضُر من خلال التخلي عن الماضي دون رفضه في تجاوز لاشكاله المُحبِطة والرَثة، أو التجرُؤ على القطعِ مع توقعات اللّذة المُعتادة نحو تَعقُل لغة جديدة للّذة.

(يتبع)

(نشرت لأول مرة في مجلة “الشاشة” خريف 1975 تحت عنوان: Laura Mulvey؛ “Visual Pleasure and Narrative Cinema”؛ (Published in Screen (Autumn 1975), vol. 16, no. 3; from Rosen, 1986)



[1] التمركز الفالوسي (Phallocentrism): مصطلح في النظرية النقدية والتفكيكية وهو نحت من كلمتين فالوس ومركز وضعه دريدا في اشارة الى تفضيل الذكورة -الفالوس- في عملية بناء المعنى.

[2] مجلة “الشاشة” (Screen): مجلة أكاديمية بريطانية رائدة تُعنى بدراسة الأفلام السينمائية والاعمال التلفزيونية.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>