سنة على قديتا: ما هو حاصل عند العتبة!/ مرزوق الحلبي

الانفتاح سرّ الموقع المعلن الذي شكّل نقطة اللقاء الحميمة والمثرية بين نص فنيّ مؤجّل، وبين فرصة الحصول، بين ذات مؤجّلة وإمكانية تحققها كتابةً ونشرًا وانسكابا محررة من المحاذير واعتبارات القمع الذاتي والرقابة الجمعية

سنة على قديتا: ما هو حاصل عند العتبة!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي|

أدّعي منذ عهدي بالعمل الثقافي أن بين ظهرانينا نص فني بامتياز وإن حجبته الصحف وتكتمت عنه المواقع المنتشرة في الشبكة انتشار الألقاب في حيزنا الثقافي. انتشار لا معنى له سوى التأشير على ضحالة أو بؤس أو تخلّف. وها هو موقع قديتا، يحمل لنا الإشارة باتجاه مغاير. فهو وما احتواه وعرضه، وما اعتمده من “سياسة” ثقافية، يمثّل ذاك الخروج المستحبّ من تحت “سقوف” ثقافية وأدبية وعليها، أبعد من تخومها. وهو فيما أنجزه في سنته الأولى، انطلاق من جملة “أنساق” قابضة على روح الأدب وجمالياته أسستها “مرجعيات” إعلامية ومطبوعات ورقية أو شبكية حسبت الثقافة كميات من نصوص وكَتَبَة حسبوها من ناحيتهم عدد المرات التي يحضرون فيها هنا وهناك بصورة أو بغير صورة.

إلى حدّ ما جاء قديتا الموقع واللون والطابع بأصوات مغايرة، كانت بيننا تنشط وتتحرّك وتنكتب وتنتظر مساحة حرة ومحررة لتعلن ذاتها. وكان قديتا هذه المساحة المفتوحة على مصراعيها من خلال الإدراك أن الحرية على أقصاها شرط الإبداع الأول والأخير. ومن هنا هذا التنوّع الذي حصل خطفا في المواضيع والأقلام والأسماء والمضامين. ومن هنا هذا المدى المفتوح للبوح والكشف والاعتراف، وهذه المنصّة الصريحة للمسكوت عنه والمؤجّل والمحرّم. هذا الانفتاح سرّ الموقع المعلن الذي شكّل نقطة اللقاء الحميمة والمثرية بين نص فنيّ مؤجّل، وبين فرصة الحصول، بين ذات مؤجّلة وإمكانية تحققها كتابةً ونشرًا وانسكابا محررة من المحاذير واعتبارات القمع الذاتي والرقابة الجمعية.

قديتا هو حالة ثقافية تتجاوز المألوف من مشهد وتتركه خلفها. كأنّ القائمين عليه أدركوا الفتنة والحكمة في مقولة “إلى الجحيم كل ما كان!”، جملة أسست، على بساطتها، لما بعد الحداثة، وتؤسّس هنا إلى مرحلة الثقافة المتنورة القائمة على انفتاح لم نعهده من قبل في “المرجعيات الثقافية” التقليدية. انفتاح في أساسه تعددية متطورة في أكثر من مستوى وحقل. إنه، مرة أخرى، نجاح الأفراد حيث أخفقت الأحزاب و”المؤسسات الثقافية التقليدية”؛ إنه نجاح الاستنارة حيث أنهكنا الالتزام الدوغمائي؛ إنه نجاح جيل جديد من المبدعين والمبدعات في تخطي عتبات يقف عليها سدَنَة الحزب أو عناصر الحرس القديم للغة العربية ممّن تقاعدوا من خدمة الوزارة أو ممن لا يتجاوز مفهوم اللغة عندهم نسق “قلْ ولا تقلْ!”.

كان قديتا هذه المساحة المفتوحة على مصراعيها من خلال الإدراك أن الحرية على أقصاها شرط الإبداع الأول والأخير

اِنحكمت الثقافة هنا طيلة عقود إلى اعتبارات أيديولوجية عقائدية وتحددت “جودة” النص وكاتبه وفق موقعه من تخوم الأيديولوجي، داخل الحدود أو خارجها أو على الضفاف. وانحكمت نوعية النصّ إلى مدى انشغاله بالجمعيّ وعزوفه عن الفرديّ، إلى مدى انشغاله بـ “الوطني” وابتعاده عن “الفنيّ”. وهي أنماط لا تزال سارية لدى غالبية الذين يراودون النقد عندنا من دون كبير نجاح، ولدى المواقع الحزبية أو المتحزّبة. وهذه بدورها واصلت عملية صبّ السقوف فوق رؤوس الإبداع من خلال ممارسة العلاقات العامة أو توسيع القاعدة الحزبية أو المسايرة أو الانفتاح الكاذب الذي أتى بكل سخيف وتافه، أو بترويج ثقافة التكريم وتكديس الألقاب أو تنصيب المحازب والمشايع بالكلمة والصورة والأمسية والندوة. حالة من ثقافة فقيرة تُنتج رموزا وأيقونات فارغة المضمون لم تنتج نصًا واحدًا مشرقا أو نوعيا كما تثبت مقالاتهم إلى اليوم في نهايات الأسبوع، أو نصوصهم الخاوية من لدن “دوائر المعارف”.

قديتا هو نص بهي يقترح ذاته بديلا لهذا النص الإشكالي فنيا ومضمونا ومؤدى! قديتا نص حيوي نضر في حالة من الاحتقان والتكلّس والرتابة. وهذا صحيح في مستوى الأدبي والسياسي والاجتماعي والفكري. ففي قديتا يتشكّل نص يشي بالإبداع وبالرغبة والورد والآتي. نص يرسم أفقا مفتوحا لا سقوفا واطئة، يشيد فضاء حرا لا هوامش محسوبة على مسطرة الحزب و”ضابط” التربية فيه. وعليه، ليس صدفة أن تبدو النصوص فيه أصلية لا مكرورة وصادقة غير مبتذلة ورشيقة غير معاقة. قديتا حرر بعض مناطق الثقافة من قبضة الماضي على مؤسساته “العريقة” ووضعها على عتبة الآتي، وفي هذا إنجازه بدلالة هذا الانخراط الجماعي فيما هو حاصل عند العتبة!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>