نافذة على الأدب الروسي: أزمة باسترناك!

… “تأثير باسترناك يعادل تأثير النوم؛ نحن لا نفه […]

نافذة على الأدب الروسي: أزمة باسترناك!

...

بوريس باسترناك

بوريس باسترناك

“تأثير باسترناك يعادل تأثير النوم؛ نحن لا نفهمه، نحن نسقط فيه، نقع تحت تأثيره، نغرق فيه.” (مارينا تسفتياييفا)

|أحمد فاضل|

عندما نتناول الأدب الروسي كمقروء عالمي فرض نفسه على باقي الآداب العالمية لا بدّ أن نقف طويلا أمام صانعيه لنتعرف كيف تسنى لهم أن يقدموا هذا الكمّ الرائع وسط حرب شعواء استعرت بينهم وبين حكامهم، كانت بداياتها مع تسلط عائلة رومانوف المتحدّرة أصولها من لتوانيا، وأصبحوا مُلاكا للأراضي الروسية، ثم ليتسنم أحد افراد أسرتها المدعو ميخائيل حكم البلاد عام 1613 مفتتحا حكما قيصريا توالى فيه خمسة عشر حاكما من نفس العائلة لتحكم روسيا حتى تنازل آخر أفرادها، نيكولاس، عن العرش بفعل الثورة البلشفية التي قادها لينين عام 1917، والتي قامت بإعدامهم على يد الضابط يوروفسكي الذي بدأ بإطلاق النار عليهم عشوائيا في قبو مظلم. وهكذا انتقلت روسيا من حكم القياصرة إلى آخر مُتزمّت، عانى منه ومن سبقه هؤلاء الكُتاب العظام.

عاش بوريس باسترناك حياته في خوف دائم نتيجة لانعدام الأمن ومحاربة السلطة لحملة الاقلام الذين لا يأتمرون بأوامرها، وكان عليه ان يسير على خط دقيق جدا بعد الثورة هو ورهط كبير من فناني وأدباء روسيا وبذلوا ما بوسعهم لجعل الثقافة والفن في خدمة الحياة، لأنهم شعروا بأن تلك الثورة تحاول ان تجعل من كل ذلك في خدمتها وأيقنوا انه حتى التلميح بعدم الولاء لها قد يؤدي الى ما هو اسوأ؛ فالملحن الشهير ديمتري شوستاكوفيتش كان ينام بشكل متقطع في كل ليلة مع حقيبة معبأة وجاهزة لزيارة السجن، وكان يقول: “بالطبع انا مستعد لأي شيء، لماذا ينبغي ان يحدث لشخص آخر وليس لي؟” هذه التوقعات كان يشعر بها باسترناك كذلك بعد ان بسط جوزيف ستالين سلطته على كامل روسيا، وكما كانت توقعاته تنبي بمجيء اليوم الذي يُضطهد فيه كما حال المثقفين الآخرين في روسيا، فحوصر تماما حين رفض عام 1937 التوقيع على رسالة تأييد للمحاكمات الستالينية معرضا حياته وحريته للخطر، وكان ان وضعته السلطة تحت المراقبة وصورته انسانا معزولا عن العالم ذاتيا الى ابعد الحدود، ثم اطلقت عليه عدة القاب منها، “المهاجر الداخلي” و”المرتد” و”الغريب عن الشعب”، واتهمته أخيرا بالخيانة والخائن. أما نيكيتا خروتشوف فقد وصفه بالفظ…

هذا العداء الواضح من لدن سلطة ستالين جعلته يعيش في توتر استمرّ سنوات طوالاً، وازدادت حدته بعد اغتيال المعارض الروسي الشهير تروتسكي بتحريض من ستالين، فالتزم باسترناك داره متفرّغا للكتابة ومبتعدا في الوقت نفسه عن باقي النشاطات الثقافية كحضوره عروض المسرحيات والموسيقى والباليه والندوات. وقبل ان تلوح سنوات الخمسينات من العقد الماضي انتهى من روايته المثيرة للجدل “دكتور زيفاجو” التي لم يستطع نشرها داخل بلاده، فساعده بعض من اصدقائه خارج الاتحاد السوفيتي آنذاك عام 1958 ونال على أثرها جائزة نوبل للآداب. وهنا ابتدأ هجوم حاد وعنيف من الجهات الرسمية الروسية ضد الرواية وكاتبها مما استدعاه الى رفض تسلم الجائزة لما فيها من محاذير. وكتب عن تلك الفترة قائلا: “لقد وضعت كما الوحش في زريبة، في مكان ما ومن خلفي صخب المطاردة، وليس من طريق أمامي للخروج لكنني عند حافة القبر اشعر أنه سيأتي اليوم الذي سيزول فيه كل ذلك الخوف”.

وكان باسترناك قد اصدر قبلها “توأم في الغيوم” (1914) و”من فوق الحواجز” (1922) و”أختي ايتها الحياة”، حيث كانت بداياته كشاعر اتصفت كتاباته بالرومانسية الحالمة والعفوية التي سرعان ما انتقدها وشن كذلك هجوما على الرمزيين، وشرع يدعو مع ماياكوفسكي الى المستقبلية وانضم الى “جماعة ليريكا”، حيث نخبة من المثقفين المتمردين أطلقوا على أنفسهم “الجبهة اليسارية للفن”. وقد أصدر في تلك الفترة “عندما تنفلت القيود” و”مقتل قناص” و”القطارات المبكرة” و”الربيع” و”اللوحة المنبعثة”. ويلاحظ ان كتاباته اتسمت بهجوم دفين تجاه الاوضاع التي آلت اليها روسيا بعد الثورة البلشفية. وظهر هذا الهجوم متجليا في روايته “د.زيفاجو”، التي تعتبر من أجمل الروايات الروسية المقروءة لحدّ الآن. إنها قصة رجل واحد وعشيقته يحاولان معا عزل حياتهم الخاصة من الفوضى والعنف اللذين احدثتهما الثورة الروسية عام 1917 والحرب الاهلية التي اعقبت ذلك.

حملت الرواية وبحزن كامل استعارات قوية للحياة الروسية المليئة بالمآسي وغزيرة المرارة، نسج فيها باسترناك الفلسفة مع الفن في صورة مصفوفة ومعقدة من القضاء والقدر اللذين يشكلان حياتنا البشرية؛ إنها رواية خرجت من رحم أدب القرن التاسع عشر كما يعبر عنها أحد الكتاب، فيها من شعرية ذلك القرن الكثير. بين الدمار والحرب والدم، يتماهى باسترناك بقارئه ليحكي له سيرة الحب والحرب والوطن عبر قصة يوري زيفاجو ولارا الهائلة، تلك العلاقة التي فرضت فرضًا لأنّ كلّ ما حولهما أراد ذلك: الاشجار والسحب والسماء التي تظللهما والارض التي تحت اقدامهما، والاغراب الذين يقابلونهما في الطريق، والمناظر الطبيعية التي تمتدّ أمامهما حين يسيران معا؛ الغرف التي عاشا فيها أو تقابلا. والرواية بعد ذلك تجمع فن الطب والعلاقات العائلية والحب في مقابل الخبرة والثورة والمجتمع والحرب، ونتيجة للنجاح الذي حققته الرواية في جميع انحاء العالم عاش مؤلفها بقية أيامه في روسيا تحت الاقامة الجبرية بعد نيله لجائزة نوبل عام 1958 والتي شكلت حرجا كبيرا للحكومة السوفياتية التي بدأت بتضييق الخناق على كل اشكال التعبير الثقافي خوفا من الاصوات المستقلة. وقد أنشد باسترناك في هذه المناسبة شعرا وجدوه بين اوراقه يقول فيه:

“مثل وحش قطعوا قلمي

عن اصدقائي.. عن الحرية.. عن الشمس

ليس هناك سبيل للمضي قدمًا، لا مجال للرجوع

ما من جريمة وقفت عليها

وأدان؟ انا جعلت العالم كله يبكي

وحتى مع ذلك، ومع انها خطوة واحدة لقبري

ورغم القسوة

رغم قوى الظلام

سوف يسحقهم روح الضوء”

لقد أنقذت عزلة باسترناك إياه من موت محقق وكان افضل من اعداد كبيرة من الكتاب والشعراء والفنانين الذين واجهوا موت السلطة الستالينية، خاصة الشباب منهم الذين وضعوا على الحائط واطلق النار عليهم بصورة همجية، أو وجدوا أنفسهم يموتون في منافي معسكرات العمل القمعية. لذا عاش باسترناك ما تبقى من أيامه بصورة سلمية مع انه كان معزولا ومذموما حتى وفاته عام 1960، ولم تنشر أعماله في روسيا حنى عام 1988. وقد زاره صديقه الموسيقار الأمريكي الشهير ليونارد برستاين الذي فزع مما رأه من النظام السوفياتي وشكى من صعوبة الحوار مع وزارة الثقافة، فأجابه باسترناك: “لا علاقة لوزارة الثقافة؛ الاديب يخاطب الله الذي يضع امامه عدة تمثيليات ليجد ما يكتبه، وقد تكون مهزلة أو مأساة”.

بعد وفاته تم الغاء القرار بطرده من اتحاد الأدباء وفي عام 1988 تم اصدار رواية د. زيفاجو لأول مرة في روسيا وفي العام التالي استلم نجله جائزة نوبل نيابة عن ابيه في ستوكهولم ومن ثم تصويرعدة أفلام عنها اشهرها للمخرج ديفيد لين، والذي قام فيه الممثل العربي الكبير عمر الشريف بتمثيل دور البطل ودفن باسترناك في مقبرة صغيرة في بريديلكينو، ولم يجدوا في خزانته بعد رحيله سوى حذاء والده وجاكيتين قام بخياطة أحدهما بنفسه.

..

باسترناك ونوبل!

من بين الاحداث المرتبطة بالذكرى المئوية لبوريس باسترناك، تحتل جائزة نوبل مكانا خاصا فيها؛ فالحديث عن باسترناك وجائزة نوبل يجرّنا لسنوات ما بعد الحرب وفي وقت مبكر وفقا للمعلومات التي قدمها الرئيس الحالي للجنة نوبل للسلام لارس، فقد تم ترشيحه للسنوات 1946 حتى 1950 وظهر ترشيحه في عام 1957 وتم منحه الجائزة أخيرًا عام 1958، ومع انه علم بها بشكل غير مباشر فقد تعمّد تجاهلها تدعيما لخط تصديه لهجوم الانتقادات الداخلية التي انهالت عليه درءا للاخطار التي احاطت به نتيجة لذيوع شهرته في اوربا بعد اذاعة هذه الجائزة وصدور روايته “د.زيفاجو” في الغرب.

تدعّم هذان الحدثان بالكتابات التي ظهرت على صفحات الصحف البلجيكية والفرنسية والغربية الأخرى التي من بينها اذاعة البي بي سي التي قدمت قراءات واحاديث مستفيظة عن باسترناك وأدبه. ومع ان اغلب اعمال الكُتاب الروس قد ترجمت الى عدة لغات حية إلا أنّ دكتور زيفاجو تم الانتهاء من ترجمتها الى الفرنسية عام 1958 وتعاطف معها عدد كبير من الكُتاب الفرنسيين من ضمنهم الفيلسوف ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل للعام 1957 والذي عبّر عن إعجابه بها وبمؤلفها الذي منحته لجنة نوبل جائزتها لإنجازاته البارزة في مجال الرواية والشعر ولإثرائه الأدب العالمي بكتاباته التي تحدّث قسم منها عن معاناة الشعب الروسي في ضلّ نظامي القياصرة والبلاشفة، مما مهّد لهذا الجفاء الذي تعاظم مع نظام روسيا الأخير وعدم تمكنه بالتالي من استلام الجائزة.

بعد تسعة وعشرين سنة من وفاته قررت لجنة نوبل تسليم جائزتها التي منحتها لباسترناك عام 1958 لنجله الذي التقاه سفير السويد بموسكو السيد فيرنر بُعيد حضوره المعرض العالمي لباسترناك، والذي افتتح في متحف الفنون الجميلة عام 1989 وأكد رغبة بلاده بمنح والده الجائزة التي لم يتسنَّ له استلامها بسبب التجاذبات السياسية التي كانت تعصف به ابان الحكم الستاليني، وانه يتعين عليه ان يأتي الى ستوكهولم لقبولها. فطار هو وزوجته على متن احدى الطائرات وكان في استقباله البروفسور لارس الذي انطلق به الى افضل فنادق السويد، “جراند”، حيث استقر هو وبعض من اقاربه واصدقائه فيه.

شعاع شمس الصباح الخافت تسلل عبر الستائر ببطء وايقظ النائمين بينما توارت من وراء نوافذ الفندق أذرع البحيرة البحرية والجسور والسفن المستعدة للإبحار الى جزر الارخبيل، بينما ستوكهولم على الجانب الآخر من التل المستدير الذي يحتظن الجزيرة التي شكلت المدينة القديمة مع قصورها الملكية والكاتدرائيات ومبنى البورصة حيث الاكاديمية السويدية تحتل الطابق الثاني منه، والشوارع الضيقة، سوق عيد الميلاد والمتاجر والمطاعم، من ناحية اخرى قاعة المدينة، ودار الاوبرا وحديقة التل المرتفعة الواصلة الى المدينة الجديدة الضاجة بالتجارة والاعمال. قضى ضيوف نوبل يوما بصحبة البروفيسور نيلز أك نيلسون الذي اجتمع قبل ثلاثين عاما بباسترناك، كان ذلك في صيف 1959.

وما ان دخل اليوم التالي حتى تقاطر المدعوون الى الاكاديمية السويدية وكان من بينهم من حاز على نوبل في السنوات الماضية وسفراء كل من السويد واتحاد الجمهوريات السوفياتية قبل بعثرتها، وكذلك العديد من الضيوف والسكرتير الدائم للأكاديمية ستوري ألن، الذي أعطى ميدالية نوبل الى نجل المحتفى به الذي قرأ برقيتين كان باسترناك قد بعثهما في 23 و 29 من تشرين الأول عام 1958 وقال: “إن هذه للحظة تاريخية أن نسلم الجائزة لابن باسترناك لكننا نشعر بالندم لأنه ليس بيننا”، بعدها تلا نجله الكلمة التالية وهو ممسك بالجائزة: “إنه من دواعي امتناني وسروري ان الاكاديمية السويدية ولجنة نوبل قررتا قبول منح الجائزة لي نيابة عن والدي الراحل الذي عانى الاضطهاد على يد رجل انفرادي تسبب في معاناته ومرارته، حتى اضطره على التخلي من استلامها، واليوم وبعد تلك التغييرات الجليلة التي تجري الآن في العالم وفي بلادي بالذات جعلت من الممكن ان نحظر هنا بحرية مطلقة كما كان والدي يدافع عنها”.

كانت تلك مناسبة عظيمة أقدمت عليها لجنة نوبل عرفانا منها لموقف باسترناك الذي حرمته الدكتاتورية من نيل الجائزة، ووسط جو احتفالي مهيب وموسيقى باخ التي كانت تعطر المكان بأريج النغمات وقف ملك السويد ومليكته ليسلموا الميدالية الشهيرة وبعد انتهاء تلك المراسيم كان المحتفلون على موعد مع صوت هاملت الذي ظهر على المسرح في وداعية لباسترناك صارخًا:

“من مقر الألم

هدير بدأ يزحف

قابضا على صدى بعيد

يقول:

ماذا سيحدث في حياتي؟”

في صباح اليوم التالي كانت الطائرة قد توجّهت الى موسكو وهي تحمل نوبل لباسترناك الذي افتقدها كل تلك السنوات وآن ان يتسلمها ظله الممدود على كل بقاع روسيا.

(عن “أدب فن”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>