التدابير في الردّ على التكفير!/ مرزوق الحلبي

خطاب يستقوي بالكُثرة ويتعزّز بـ “مُقدّس” مُفترض الذي أنتج لنا لغما أرضيا سماويا على شكل قضية شهاب الدين في الناصرة وحراكا متخلفا قامعا للمرأة وحقوقها. وهو الذي يُنتج كل يوم مشهدا جديدا من الغطرسة والقمع باسم الدين والتديّن

التدابير في الردّ على التكفير!/ مرزوق الحلبي

httpv://youtu.be/KC3LFigt80g

.

|مرزوق الحلبي|

مرزوق الحلبي

مرزوق الحلبي

العنصرية عنصرية مهما تكن منابعها أو أسانيدها أو مناسباتها أو باعثوها أو ضحاياها. ولأنها كذلك فلا شيء يبررها أو يسوّغها. لا دين حنيف ولا غير حنيف، لا موروث مقدّس علوي ولا خطاب بشري أرضي. لا فتوى شيخ أرعن ولا فتوى شيخ جليل، لا قولة عاقل ولا قولة جاهل. العنصرية هي العنصرية لا شيء يُمكن أن يستر قُبحَها أو يرمّمه.

رائد فتحي الذي شهدناه في شريط الفيديو يقول بتكفير الدروز وارتدادهم لم يأت بشيء من بيت أبيه. كل ما فعله أنه كان أمينا لـ “نصّ” ما يعتبره “بديهة” وردّد صدى ما فيه فتاوى السلف من مئات السنين كانت كُتبت في ظروف غير هذه الظروف وفي أمكنة غير هذه الأمكنة. بمعنى أنه سار في النسق المعهود غير المحمود فردّد ما كتب الأوائل وبنى عليه نظريته أو حُكمه! والثقافة العربية والإسلامية معها ـكما بين علم الكلام الحديث وعلم المنطق، أيضاـ ثقافة اتّباع لا ثقافة إبداع. ثقافة واحدية لا تُطيق الاختلاف ولا تعرف تصريفا له غير الإخضاع أو التسوية بالأرض. ثقافة، في أساسها، نقطة مفترضة لبداية مفترضة أو ذروة متخيّلة ينبغي العودة إليها في كل شيء وإخضاع العقل بالكامل لها، فلا يفعل العقل فيها وإنما هي التي تفعل في العقل. لا يجتهد العقل في تأويل نص سابق تقادم وانغلق بل ينغلق هذا النص السابق بعُنف على العقل اللاحق في هذه الثقافة ويأسره. في هذا سار فتحي على نهج قائم ومتجذّر وبنيوي في الثقافة العربية من قديم الزمان أخّر العرب والمسلمين عن غيرهم بضع قرون. بدلالة أن فتوى فتحي هذه لا تختلف عن فتاوى المسيحية القروسطية أو عن نهج فرض الضرائب على الأقليات والمجموعات المستضعفة في التاريخ الوسيط أو المتأخّر.

وعليه، السؤال هو في قبول هذا النهج للحكم على الأمور أو رفضه جملة وتفصيلا كقاعدة للنقاشات والاختلافات ومساعي الحلّ والتسوية. فإذا استمرّ السجال ضمن هذا النسق القابض على أرواحنا، فإننا سنشهد المزيد من كلام انفعالي أو تمترس في حمى “مقدّسنا” و”موروثنا” و”رموزنا” كجزء من التحشيد الهويتيّ العقيم والعنيف في منتهاه. فإذا نظرنا إلى مصر أو تونس، إلى العراق أو سورية أو إيران، سنرى ما آلت إليه الأمور المحكومة في جزء كبير منها لمثل هذا القياس وهذا الخطاب! لديّ شعور أن في هذه الربوع هنا مَن هو متحمّس لاقتباس النسق من هناك واستيراده كاملا دون أي تعديل وتطبيقه على الدروز أو غيرهم من مجموعات أقلية في البحر السنّي أو المسلم. من هنا استيطان خطاب معادٍ للدروز في الحياة العامة بما فيها تلك الأوساط التي تعتبر نفسها “وطنية”.

لن نغفل الظاهرة في تاريخيتها وحركتها. لقد استند العداء للدروز في فلسطين التاريخية ومظاهر العنصرية ضدهم إلى نجاح المشروع الصهيوني في شدّهم إلى مركز قوته. ومِن هنا فقد كان العداء سياسيا في أساسه وإن لم تغِب عنه النزعة الدينية مع تنامي الحركة الإسلامية التي صارت أحد مراكز القوة المُنتجة للمعايير والأحكام في الحياة العامة العربية في إسرائيل. ومن المنطلق نفسه لا نُعفي أحدا من سؤال التاريخ نفسه: ما هي طبيعة العلاقة التي حكمت علاقة المحيط العربي بالدروز خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين وفي فلسطين بالتحديد، أي قبل قيام إسرائيل؟ وقد أفضى هذا العداء في المحصّلة إلى نتيجة اعتبار المحيط العربي للدروز “خونا”. تهمة، يسعى الدرزي المتوسّط  إلى ردّها إلى نحر مُطلقيها بسيل من الحجج والإشارات، صحيحة في غالبيتها لا مجال لذكرها هنا. أي أن النقاشات ظلت في الدائرة السياسية للخطاب. وقد اتسعت لأخذ وردّ وتأويل وتفاصيل وجزئيات، إما أنها خففت التُهمة أحيانا أو أنها فنّدتها أحيانا أخرى. لقد تم استبعاد الدروز وفق هذا الخطاب من الانتماء للجماعة العربية المتخيّلة وحوصروا في تخوم هويتهم العقيدية كمجموعة “مشبوهة” و”مدموغة”. ولم يسلم من هذا النسق أي درزي وطنيا كان أو “غير وطني”! كان يكفي أن تختلف مع أحدهم في الرأي أو في التوجّه أو أن تنافس أحدهم على وظيفة حتى ينطلق الهمس الطائفي الذي صار مرارا كلاما عنصريا صريحا.

أما الآن فإن الخطاب التكفيري المنتشر في نصوص الإسلام السياسي هنا وفي غير مكان ضد الدروز فهو “ارتقاء” في خطاب الكراهية والتحشيد الهويتيّ والعنصرية المؤسّسة على العقائد الدينية. فما أتى على لسان فتحي إياه مثلا لا يُخرج الدروز من الجماعة العربية ويحاصرهم في تخوم عقيدتهم فحسبـ بل يتجاوز التخوم نحو داخلها وينسف العقيدة والإيمان أساس وجود هذه الجماعة والدبق الذي يؤلّفها بنعتهم بأنهم “مرتدون” وكُفّار”. أما مصير “المرتدّ” أو “الكافر” وتداعيات مثل هذا الحديث، وفق منطق التديّن الشعبوي أو السلفي أو الجهادي، معروف خاصة في أجواء أصولية قاتمة. وقد ذهب هذا الخطاب التكفيري بنفسه وبنا في هذه الحالة إلى محاولة فرض وصاية على الدروز ـوغيرهمـ مفترضا سموّه عن كل خطاب آخر أو نقد أو نقض أو نسف كلي لبنيانه المتخلّف القاصر عن الإحاطة بالحياة. فها هم تلامذة فتحي المذكور يطلبون، في منشور عمّموه، من الدروز التوبة والعودة إلى رشدهم مُفترضين أنهم أخذوا تفويضا مباشرا من خالقهم وأمسكوا بالحقيقة الكاملة في لحظة هاربة! أو أن هناك أميين منهم يقفون على باب الجنة يفتحونه أو يسدّونه ويوزّعون صكوك غفران جديدة باللغة العربية الفصحى في السوق السوداء!

مثل هذه الظاهرة لا تُواجه بنصوص مناقضة من الموروث الإشكالي ذاته ولا بشواهد من البلاء الحسن للدروز في الحيز العربي الشرق أوسطي عسكريا أو سياسيا أو فكريا أو ثقافيا، ولا بسيل من مقالات اعتذارية من الدروز وتبريرية من غيرهم. ولا يُمكن ترك مواجهتها على الدروز وحدهم و”الوجه الناصع للطائفة الدرزية”، كما درج اليسار الدرزي هنا على توصيف حراكه. ولا بتأكيد بعض رجالات الدين الدروز على عروبة الدروز وعلى كونهم مذهبا إسلاميا وعلى إنشاء خطاب من المفردات نفسها. مثل هذا الحديث لن يشفع لأحد. فالعقائديون من حركيين ودعويين ضمن الإسلام السياسي وكل العقول المأسورة بنصوص كهذه أو كتلك لا تعمل إلا بقوة أفكار نمطية مسبقة وعقائد جامدة أوصلت العالمين العربي والإسلامي إلى ما هو عليه! تبدأ المواجهة من نقطة الإقرار باستحالة العيش وإدارة الحياة العامة وفق هذا الخطاب وأحكامه مهما يكن مصدر الفتوى. تكون المواجهة بكسر مؤامرة الصمت في أوساط القيادات في والمجتمع العربي برمته من سياسيين/ات وأكادميين/ات ومثقفين/ات بشأن هذا الخطاب وطاقته التدميرية. وكنّا شهدنا، منذ زمن بعيد، ظاهرة مُعيبة ومُخجلة وهي لزوم الغالبية العُظمى من القياديين في كل المستويات الصمت والتريّث لاقتناص الفرص بمسايرة الخطاب التكفيري الأصولي (“التجمّع” وقيادة الحركة الإسلامية في قضية شهاب الدين) أو لكسب ودّ ناخبين احتماليين من الجمهور المسلم في البلاد. المواجهة تكون بتبني خطاب تنويري إنساني حداثي بنيوي بديل وليس خطابا أصوليا نقيضا.

إن تكفير الدروز الآن هو حلقة أخرى في امتداد الخطاب الأصولي إلى الحياة العامة وكسره المتعمّد لقواعد اللعبة السياسية وتدمير فرص تطورها إلى ما هو أرقى وأكثر إنصافا وعدلا. خطاب يستقوي بالكُثرة ويتعزّز بـ “مُقدّس” مُفترض الذي أنتج لنا لغما أرضيا سماويا على شكل قضية شهاب الدين في الناصرة وحراكا متخلفا قامعا للمرأة وحقوقها. وهو الذي يُنتج كل يوم مشهدا جديدا من الغطرسة والقمع باسم الدين والتديّن حتى باتت المدينة اليهودية أكثر رحابة وتسامحا وأمنا بالنسبة للمجتمع بأفراده ومجموعاته. هكذا يحصل عندما تصير الأصولية الدينية لغة التداول والحُكم و”المنطق”.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. أفضل ما قرأت حول الموضوع
    مباشر
    واضح وجريء
    كل مرة يفاجئني الكاتب باقتحامه المناطق الساخنة
    برأي يثير الاحترام

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>