الزواج المثليّ: تأصيل المثليّة على غير طبيعتها

المساواة أمام القانون تتجاهل ضمناً أنّ القانون نفسه هو ما يجب أن يوضع موضع شكّ، فقانون الأسرة ما يزال يرتكز على الإنجاب

الزواج المثليّ: تأصيل المثليّة على غير طبيعتها

|عمر قدور|

أزعم بدايةً أنّ الزواج المثليّ هو تأصيل للمثليّة على غير طبيعتها؛ أي أنّ الاعتراف بهذا الزواج، على الرغم ممّا ينطوي عليه من تطوّر اجتماعيّ وتشريعيّ، هو ضرب من تقييد المثليّة على نموذج الغيريّة. وأنطلق من هذه الفكرة إلى طرح التساؤل عمّا إذا كانت المثليّة قد انتزعت لها مكاناً راسخاً في العقل البشريّ؟ أم أنّ المكانة الحقوقيّة، في واحد من جوانبها، هي تقنينٌ وإدراجٌ للمثليّة كفئة خاصّة في النظام العامّ؟

ليست المثليّة، كما تتّفق على ذلك الآراء، وليدة عصرنا. ولا نستطيع حتّى التبجّح بأنّ الاعتراف الثقافيّ بها هو امتياز العصر، لأنّ المرويّات التراثيّة تفيدنا بنوع من الاعتراف، وربّما الاحتفاء النسبيّ، في أكثر من مرحلة حضاريّة على تباين الحضارات والثقافات؛ لدينا على الأقلّ أشعار سافو الإغريقيّة وأشعار أبي نواس. هذا الاهتمام القديم لم يرتّب حقوقاً كما هو الحال اليوم، لكنّنا، في المقابل، قد نسترجع العديد من الظواهر الاجتماعيّة الموجودة تاريخيّاً، أو التي لها وجود طبيعيّ دون أن تكتسب وجوداً قانونيّاً، ومردّ ذلك إلى الفلسفة القانونيّة لكلّ عصر. بهذا المعنى قد نذهب إلى اعتبار المثليّة، كبناء ثقافيّ/حقوقيّ، نتاج عصر ما بعد الحداثة، وقد نؤرّخ لوجودها الثقافيّ الراهن بما لا يزيد على نصف قرن. في الوقت نفسه ينبغي لنا تفحّص ما تؤول إليه مساءلة المثليّة للعقل الحداثيّ وما قبل الحداثيّ، أو مساءلة الهامش للمتن، ومدى الاختراق المنجز على صعيد بُنى التفكير.

قد يكون مفيداً في هذا النقاش إقامة الفصل بين الثقافيّ والحقوقيّ، على الرغم من أنّه فصل تعسّفيّ في بعض الجوانب، ولعلّ الجانب الحقوقيّ هو الأكثر مرونة، إذ يقدّم لنا الحلّ “السلوى” الأخلاقيّ. فها نحن، ولا أقصد المجتمعات العربيّة أو الإسلاميّة، نمنح المثليّين حقوقاً على قدم المساواة معنا؛ إنّنا لا نعترف بوجودهم وحسب، بل نسمح لهم بتكوين أسر، وبأن يعيشوا حياة زوجيّة على شاكلتنا بكلّ ما يترتّب على ذلك من واجبات والتزامات؛ إنّها المساواة! فما الذي يريده المثليّون أكثر من ذلك؟! مع السؤال الأخير؛ أقترح الفصل بين المثليّة كتجريد والمثليّين كتعيّن راهن لها. فالإجابة عن المتعيّن أقرب منالاً من الإجابة عن الاختبار الذي تطرحه المثليّة كتجريد؛ إنّنا بهذا نعالج الظرفيّ تحت وهم الحلّ النهائيّ.

المساواة أمام القانون تتجاهل ضمناً أنّ القانون نفسه هو ما يجب أن يوضع موضع شكّ، فقانون الأسرة، وضعيّاً كان أم دينيّاً، ما يزال يرتكز في أساسه الفكريّ على الإنجاب. ومن دون هذه الغاية تصبح مؤسّسة الأسرة، كما نعرفها الآن، خالية من “المعنى”، أو لا يبقى مبرّر قويّ لاستمرارها على هذا النحو إن فقدت “إنتاجيّتها”. وهكذا؛ إنّ تشريع زواج المثليّين يتناقض مع جوهر مؤسّسة الزواج الحاليّة، بما أنّ المثليّة تفترق كليّاً عن الغيريّة في مسألة الإنجاب، وتُبدِّد المعنى الذي امتلكته الأخيرة عبر تاريخ طويل من التأصيل. أي أنّنا من هذا الجانب نُخضع المثليّة لقوانين الغيريّة، ونجعل منها فئة “ذات احتياجات خاصّة” ضمن النسق العام، كما لو أنّ الأمر يتوقّف على كونها “زواجاً عقيماً” وحسب.

يتفرّع تشريع المثليّة من إقرار الحداثة المتأخّرة وما بعدها بحقّ الفرد بالتصرّف بجسده، لكنّنا نغامر إن قلنا بإطلاقيّة هذا الحقّ لأنّ الجدل حول قضايا مثل الانتحار، أو الموت الرحيم أو الإجهاض، لم يتوقّف في أكثر المجتمعات حريّة. كما أنّ استيعاب المثليّة، كأمر واقع، عنى إدماجها في المؤسّسة، وبالتالي إخضاعها لمنطق المؤسّسة، مع ما يقتضيه ذلك من إقصاء حالات لا تندرج في الغيريّة أو المثليّة حسب الترسيمة الحاليّة، وإن كانت تندرج ضمن حقّ الفرد بالتصرّف بجسده.

بل إنّ مؤسّسة الزواج نفسها تقنّن حريّة التصرّف بالجسد، وتجعله رهينة عَقد غير محدّد المدّة غالباً، فالزواج الغيريّ يقوم، بالإضافة إلى الإنجاب، على الأحاديّة. ومع تشريع الزواج المثليّ نكون قد أخضعنا المثليّة لهذا الشرط، ومن جهة أخرى يتمّ الفصل القانونيّ بين الغيريّة والمثليّة، وكأنّنا بهذا ننجز بناءً اجتماعيّاً للمثليّة أسوة بالبناء الاجتماعيّ المعهود للغيريّة، ومنفصلاً عنه في الوقت ذاته. (أستعير هنا تعبير “بناء المثليّة الجنسيّة اجتماعيّاً” من عنوان مقالة جون ثروب/ترجمة لواء يازجي، المنشورة في الأوان بتاريخ 3/10/2009)

إنّ تأصيل المثليّة، على نحو ما يقترحه الزواج المثليّ، يستدرجها إلى القفص ذاته الذي حُبست فيه قَبلاً العلاقة الغيريّة. وبعد أن كانت محظورة، أو يُنظر إليها باشمئزاز، سيتمّ إدماج المثليّة بالشرط الاقتصاديّ على الرغم من الافتراض الأوّليّ بأنّها غير منتجة. فالزواج المثليّ، كما تقترحه المنظومة الحقوقيّة الراهنة هو عقد تمتّع محدود لا تغيب عنه الالتزامات والتبعات الاقتصاديّة “إرث، تعويضات طلاق،…”. (في بعض الجوانب الحقوقيّة للزواج المثليّ يمكن العودة إلى مقالة “هل المثليّة خيانة زوجيّة؟”/ عارف حمزة، المنشورة في الأوان بتاريخ 8/10/2009) ومع أنّ المقالة المذكورة ركّزت على الجانب الحقوقيّ، وهو جانب مهمّ، إلا أنّني أفترض بالعنوان المضيّ إلى وجهة أخرى ربّما تكون هي التحدّي الأكبر أمام منظومتنا الفكريّة.

عندما نقول: زواج؛ فالخيانة الزوجيّة هي المتمّم الخفيّ له. هذا هو شأن الثنائيّات التي تحكم تفكيرنا إلى حدّ كبير، حتّى إنّ المعنى يُكتسب غالباً ممّا هو مضادّ أو مقابل له. وعندما نُخضَع العلاقة المثليّة لهذا المنطق فهذا يستتبع تقييدها بشروط الثنائيّة ذاتها، وبدلاً من أن تكون برمّتها خارجة على القانون والمنطق الفكريّ العام ستنقسم بين مثليّة شرعيّة ومثليّة غير شرعيّة كما في حالة الخيانة الزوجيّة أثناء الزواج المثليّ. لكنّ الإشكال الأهمّ ربّما يأتي من التحدّي الذي تقترحه المثليّة غير النقيّة، ويجوز وصفها أيضاً بالغيريّة غير النقيّة، أي من أولئك الأشخاص ذوي الميول الجنسيّة المزدوجة، والذين يطيحون كلّيّاً بمفهومنا عن الزواج والخيانة، ويخربون المعمار الفكريّ/اللغويّ القائم على التناظر والتقابل.

نعود إلى التذكير بأنّ العقل البشريّ حكمته طويلاً ثنائيّة “ذكورة/أنوثة”، وهذه الثنائيّة ولّدت انشطاراً عموديّاً على مستويات عديدة ومنها اللغة. لذا يصعب على العقل تمثّل ثنائيّة من نوع آخر مثل “ذكورة/ذكورة” أو “أنوثة/أنوثة”، وهذه الصعوبة لا تقتصر على مجتمع دون آخر، مع الأخذ بالاعتبار تطوّر المجتمعات الغربيّة، وخاصّة تطوّر الفلسفة الحقوقيّة التي أدّت إلى سنّ قوانين تلحظ حريّة وفردانيّة الإنسان. لكنّ النقلة من ثنائيّة الغيريّة إلى الإقرار بثنائيّة المثليّة، على أهمّيتها، ليست كافية ما لم تؤدِّ إلى خلخلة البنية وإلى النظر في اقتراحات أخرى من نوع “أنوثة/أنوثة/ذكورة” أو “ذكورة/ذكورة/أنوثة”.

إنّ غاية هذا النقاش ليست بالتأكيد التقليل من أهمّية ما أنجزه العقل الحداثيّ وما بعده حتّى الآن، ولا التقليل ممّا أنجزه النضال الحقوقيّ لنساء ورجال كانوا سبّاقين إلى الدعوة من أجل منح المثليّين ما يستحقّونه أسوة بالآخرين، بل الغاية هي وضع المثليّة كامتحان فكريّ يسائل منظومتنا. فالأمر ليس ببساطةِ أن نقرّ بحقوق المثليّين، ونريح ضمائرنا وعقولنا من “عبء” وجودهم، وبذلك نستقيل من طرح الأسئلة عن “معنى” البنى القائمة التي ننتظم فيها. ولربّما تكون فائدة هذا النقاش في فتح الباب أمام أسئلة من نوع جديد، على سبيل المثال؛ كيف يمكن لمزدوجـ(ة) الجنس أن يكون زوجاً بالمعنى المتعارف عليه للزواج الأحاديّ؟ فالزواج الأحاديّ يشرّع له حالة واحدة من احتياجاته، ويضع الأخرى في منزلة الخيانة، أمّا حقّه في حريّة التصرّف بجسده فينسف مفهوم الخيانة من أساسه، أي ينسف مفهوم الزواج الحاليّ من أساسه. إذن قد لا نغالي في القول إنّ أهمّية النقاش حول المثليّة لا تأتي من الاتفاق “الأخلاقيّ” على حقوق المثليّين، بل من التفكّر فيما يمكن أن نسمّيه “ما بعد المثلية”.

(كاتب من سوريا)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. إلى شخص: واحنا حنقضيها قصص؟ بنفع نتثقف كمان في المجال المثلي!

  2. شكرا يا “شخص” على هذا الإهتمام
    النصوص الذاتيةالجيدة والقصص التي يكتبها مثليون قليلة جداجدا ونحن نبذل كل ما في وسعنا للحصول عليها ونشرها
    ومن هنا نحن نتوجه لجميع المثليين “لشد الهمة” والكتابة للزاوية على عنوانها أعلاه..على شرط أن تكون بمستوى فني وفكري جيد

  3. برأيي زاوية مثليون ونص تفقد بريقها شيء فشيًا بسبب تغيير اسلوب الكتابات التي يتم نشرها، المواضيع والقصص التي يكتبها اشخاص مثليون عاديون اجمل وتضيف جمالا وبريقًا وبراءة لهذة الزاوية.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>