من المنشية إلى سوق الدير

عندما أبتعد أسمعه يتمتم بشيء ما. لا بدّ أنه يخصّ مستقبلي التعليمي أو موضتي المستجدّة في ضيق بنطالي

من المنشية إلى سوق الدير

gay-male-icon

|تاج العريس|

بينما أقوم بالاستعداد لجولتي الليلية من المنشية إلى سوق الدير الذي أسميه يافا -فهو كل يافا ومركزها وأجمل أسواقها وأكثرها اكتظاظا وكوسموبولتيكيًا- أسمع الموال المسائيّ نفسه: أبي يصرخ بوجه أمي:

“شوفي دلعك لوين وصلو؟”

تردّ عليه أمي:

“هو يعني ابني أنا لحالي مهو ابنك يا شيخ روح وقولو.”

“مسا الخير يابا”، أحييه.

عندما أبتعد أسمعه يتمتم بشيء ما. لا بدّ أنه يخصّ مستقبلي التعليمي أو موضتي المستجدّة في ضيق بنطالي أو إفرنجية شالي وعطري

يكظم أبي غيظه ويعود إلى البلكونة للجلوس على كرسيّه الهزّاز ينفث الدخان من غليونه… تدخل أمي غرفتي، تساعدني على ترتيب هندامي وترجوني الخروج من الباب الخلفيّ لتفادي أبي ونظراته وملاحظاته البايخة- كما تقول. أقف كالطاووس أمام مرآتي لابسًا أجمل ما اشتريت من دكان السيد براون الألماني في شارع اللنبي، الذي أسمّيه هو أيضًا تل أبيب؛ فهو كلها ومركزها وأجمل شوارعها وأكثرها اكتظاظا وكوسموبولتيكيا كما أحبّ.

تقول أمي:

“الله واسم الله عليك… الله يحميك من العين… دير بالك على حالك يمّا في كثير مشاكل اليوم.”

وتبقى في غرفتي تعيد ترتيبها. ألقي نظرة أخيرة في المرآة الكبيرة ثم أخرج إلى البلكونة أطقطق بكندرتي اللامعة لأرى أبي يتسمّر في مكانه متظاهرًا بانشغاله بأخبار الثورة في الجريدة.

“مسا الخير يابا”، أحييه.

عندما أبتعد أسمعه يتمتم بشيء ما. لا بدّ أنه يخصّ مستقبلي التعليمي أو موضتي المستجدّة في ضيق بنطالي أو إفرنجية شالي وعطري. صرخ في وجهي ذات يوم:

“مالو لبسنا؟ بطل ينفعك يا ابن بيرو؟ ولازم يعني سوق الدير؟ مالو شط المنشيه بطل يعجبك؟ ولا بتحبّ العفن يا صايع؟”

وأنا عند إصراري بأنني لن أدع أيًا كان يعكّر مزاجي ويعيق رحلتي. أرى أمي تزيح الستارة من نافذتي باسمة داعية فيبدأ مشواري ويزيد تشوقي. أقطع السّاحة المؤدّية إلى الرياض تحت أنظار صغار المنشية المندهشين. أتوقف عند البيت الثاني في شارع جمال باشا. أصفّر لخليل فيقفز عليّ من شباكه هامسًا بغضب:

“ليش تأخرتي يا شرموطه؟ ولا فلاحك أجاكي من الجماسين؟”

أتأكد من لمعان كندرتي متظاهرًا بعدم الاكتراث…

“يا ريتو أجا كان تريّحت منك يا بشعه.”

يطبع قبلة على خدّي ويطوّقني بذراعه فتغمرني السّعادة… تطل أخته من نفس الشباك ترجونا:

“خذوني معكو بحياة الله!”

ثم تقفل الشباك من دون أن تنتظر الجواب.

“إيش هالحلو يا أبو الخل؟”

يطبع على خدي قبلة أخرى، ويقول:

“لازم نروح أوّل على الحمرا بدّي أشوف اسكندر حتى لو لدقيقه وبعدين منروح ع السوق.”

“سبيكي منه يا هبله الزلمه تجوز خلص بيكفي تحلمي.”

“لا! الفلاح شيتك أحسن. مهو كمان متجوز!”

“آه بس علي بحبني.”

“بحبك ولا بحب ينيكك؟”

“ليش في فرق؟”

نضحك. يخرج اسكندر من السينما برفقة زوجته الشقراء.

“شو بتحبّ في هذا الأصفر؟ إسمع مني وجرّب شباب سلمه…أخ أخ رح تقولي وين ضيعت عمري مع الصُفر أنا؟”

“آه وأنا اللي كنت مفكر إنه علي سيد الكل! هلق انتقلنا من الجماسين لسلمه؟”

نضحك ملء فمّينا، وعندما نقترب من مقهى يتبع قريبًا لخليل يذكّرني بأنّ علينا أن نسير كالرجال لكي نبعد الشبهات. أزيد تقصعًا وغنجًا

نضحك ملء فمّينا، وعندما نقترب من مقهى يتبع قريبًا لخليل يذكّرني بأنّ علينا أن نسير كالرجال لكي نبعد الشبهات. أزيد تقصعًا وغنجًا. يغضب ويهدّدني بإنهاء جولتنا فأتنحنح وأتصلب. نحيي أصدقاء الدراسة، نقترب من باب السّوق الشرقي. ما زالت هناك بعض الدكاكين المضيئة. نهرول إلى الزقاق الطويل المُمتدّ إلى ساحة الحناطير. نلمح ظلالا تتسامر داخل الدكاكين المغلقة. تخرج الخواجية “ليا” من إحدى الدكاكين تحيينا ضاحكة، ثم تستدرك لتقول بألم وبلهجتها المضحكة: “ليت الشباب يعود يومًا”، ثم تغيب في عتمة الزقاق.

يقرصني خليل لينبهني إلى الفرنجي المتكئ على الجدار ويرجوني الانتظار:

“إرحمني يا خوي… إرحمني… بتعرف قديش صارلي ما كنتش مع زلمه؟”

“يا كذاب. بس مبيرح كنت مع نجيّة.”

“ليش هي نجية زلمي؟”

“لأ. بس بتشبههم… في عندها شوارب وبتشتغل بالمينا… خساره إنه فش عندها اللي بدك اياه.”

“هي هاي نقطة ضعفنا.”

“قلنا اليوم مفيش خواجات! إمشي معي ومش رح تندم… مندبّرلك الأسمر الليلة.”

أشدّه من يده… تدق الساعة التاسعة. ندقّ باب دكان التبغ. يفتح لنا أحمد ويقول:

“أهلا بالحبايب تفضلوا.”

يقودنا إلى الغرفة الداخلية لنجد اثنين من رفاقه قد افترشا الأرض. يقول أحدهم وقد فاض منه الخمر والشبق:

“إيش مع البيرة يا أحمد؟”

أهمس في أذن خليل:

“أنا رايح مع أحمد أجيب بيره وإنتِ خليك هون.”

“لا لا أنا جاي معكم.”

“يا هبله خليكي وشوفي وجه ربك.”

أشعر بارتجاف خليل. أخرج بصحبة أحمد. نقطع الساحة عند باب السرايا. يجتاحني شيء من الغبطة الموجعة قليلا. شوق لا أعرف لمن. حنان مفاجئ حيال مكان ما.

“لازم أروح”، أقول لأحمد المستاء من مزاجي وأمضي.

أمشي عند البحر. أراه يأكل المدينة. أتوقف عند منازل الصيادين لأستمع الى أخبار الثوار ثم أتابع سيري على الرمل. أخلع حذائي، أحرّرني من شالي، أفكّ أزرار قميصي وأصعد صخرة لأتلقى هواء البحر بذراعيْن منفرجتيْن قبل أن أسلك الطريق إلى بيتي.

ما أحلى شاطئ المنشية.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

11 تعقيبات

  1. جميل

  2. عجيب هذا الحنين المفاجيء للعودة إلى المنشية
    العودة إلى الأصل جاءت مفتعلة قليلا كأنما لتنهي النص نهاية عاقلة وجادة ، رغم أن النص في حد ذاته كان عاقلا وجاداً للغاية بالفعل. تاج العريس ماهر في السرد اللذيذ خفيف الدم ولكن لابد أن يعمل على لحظات التأمل التي ستخرج بنصه هذا ونصوصه الأخرى القادمة من مجرد العجائبي والغريب في المثلية الجنسية إلى ما هو إنساني وعام ومشترك – مثل أعمال جان جينيه وكوكتو وغيرهما
    أنا سعيد بك يا ولد

  3. بعد اطلاعي على تامدونات الثلاثة في الزاوية دون استثناء
    اولا وبعيدا عن تقبل المثليين ومدى التحامهم بمجتمعاتهم وخاصة في مجتمع العقلية العربية التي وصفها البعض بالرجعية .لا ارى في اي من النصوص المطروحة في الموقع المقومات الابداعبية والادبية
    كما وارى ان الاباحية ليست شكلا من اشكال التحرر واللبرالية المزعومة
    بالرغم من ان بعض الروائيين لم يبخلوا بالحيز الادبي بهذه الاشكال من الاباحية وهناك من كان (اسوء) من امثال محمد شكري الا انها وظفت لتخدم النص ولم تكن المحور المركزي فيه ما لم يتوفر عند اخربن كالكاتبة القصصية هيفاء بيطار حين جعلت الجنس بؤرة تدور حياتها حولها وهذا من اجل اقحامها بفعل (الجرأة) دون القيمة الادبية والابعاد الفلسفية الفكرية للنص
    استثني مما ذكرت اعلاه النص التقريري المتعلق برملة العياري.
    اما لمن لم يحبذ من الاصدقاء مصطلح (مشكلة المثليين) اتساءل اذا ما كان يرى هذه الظاهرة على انها شكل صحي لمجتمع سليم وحتى بعيدا عن القيم الانسانية والدينية .ان نتقبل الاخر كما هو لا يعني بالضرورة الا نرفض ما نراه على انه مبتذل وزائف وهذا فقط لكي نكون من (المنفتحين) كما وان الخرق للطبيعي لا يصنع منا اناسا خارقين ,فلا اريد لابني ان يظن ان المثلية هي وسيلة سهلة للتميز الفردي في مجتمعه واذا ما تعاملنا مع الظاهرة على انها تحرر فكري توازي تحرر المرأة والمجتمعات المضطهدة فنحن لا ننصف كلاهما ونظلم ابناءنا
    وبعد زيارة موقع القوس اقتبست جملة مما اتى في فلسفة الموقع “نحن نؤمن بشدّة أن المجتمع يأتي أولاً على الرغم من أننا لا نستطيع التظاهر بأن منظمتنا تمثل المجتمع دائمًا. لذلك، نحن نسعى دائمًا إلى الإشراك الفعلي للمجتمع في نشاطاتنا.”
    ومن خلالها ادرك ان المثليين يرون في وضعهم الاجتماعي مشكلة اذ يفصلون نفسهم عن المجتمع ويتعاملون معه بالتوازي
    لست ممن يبغضهم او يكرههم ولي اصدقاء منهم وهم كثر حولي يملكون عادة احساسا مرهفا ومشاعر نبيلة لكن هذا ليس كل ما تتطلبه الحياة الطبيعية.
    ولا ننسى سوق اللحم في علاقاتهم الجنسية واذا لم يدرك ذلك بعضكم بحكم تواصله معهم فقد بات جليا في ابداعتهم
    لا لتكبيل فكرهم او تقييدهم ولا لاعطائهم حيزا يفوق طاقاتهم

  4. فعلاً رائع؛ اتمنى أن اقرأ المزيد من كتاباتك يا تاج العريس. كل الإحترام!

  5. كل الاحترام والود والتقدير

  6. اقييم هذه الكتابة بـ 1 من 10 ,, او حتى صفر ,,
    اتسمون هذه ثقافة ,,؟! سلام على الدنيا ..!!

  7. كل الأحترام لقديتا بتخصيصها هذة الزاوية
    ينقصنا فعلا موقع يحترم قرائه، موقع يكون ملاز للقارئ المثقف يطرح القضايا الأجتماعية عامة ويجرأ على طرح ما لا يطرحه الأخرون الباحثون عن الترويج الرخيص. طبعا تخصيص زاية مثلية في الموقع هي امر لا يستهان به لكن عدم تخصيص زاوية كهذة واحترام التابوهات لكونها تابوهات هي بداية المساومات على حرية الكتاب والقراء، فلنا ما نكتب ولكم ما تقرأون وكل منا له من الوعي ما يكفي ليمكنه من القرار المستقل، فلسنا بقطيع ولسنا بخرفان وكي يستطيع كل منا ان يختار طريقه وطرق تعامله مع الأخرين عليه ان يكتب ذاته وان يقرأ غيره ومن ثم يختار
    تحياتي الى قديتا
    بداية موفقة انشاءالله
    وشكرا الى كاتب المقال عىل المشاركة في مواضيع يحرم علينا المجتمع رؤيتها أو حتى مجرد التفكير بما يمر على من يعيشها

  8. رنا قالت وليس قال

  9. يعطيك الف عافية يا كاتب/ة
    نود المزيد!

  10. مش حخللي من تحفظاتي تقلل من الشعور بأهمية الموضوع , بس عندي شعور بأن مثل هذه الزوايا لا يمكن ان تقبل في مجتمعنا , نحن مجتمع نجرم الشذوذ و نجرم الدخول في المحرم على اساس معالجته بالعقل . وهذا ليس جرما بحد ذاته , ولكن وانا ارى رام الله اراها شاذه في حدود ضيقة جدا , وانا اعلم الاختلاف بين ظاهرة الشذوذ في رام الله و ظاهرة الشذوذ في يافا مثلا… اليس عندما ازور يافا اقف في المكان كساعة توقيت تنازلي أقضي ما اريد ان اقضيه ثم اعود الى منزلي في رام الله , في حين يكون الشاب الهومو قرب البار ربما , داخل المكان الذي يعطيه الحق في ان يتبع رغباته كيفما شاء دون ان يشعر بقلق الهومو , فهي في سياق المكان ظاهرة, … أرجعها الى ظاهرة الدولة العبرية بألياتها القامعة والمبيحة ومسخ السلطة الوطنية الفلسطينية بكل فشلها الذي ادخل الوطن في قمع الفكرة فقط …. متى سنستوعب ان الانفتاح لن يأتي ونحن مهزومون , الانفتاح في هذا الزمن يعني اننا قبلنا بأسرلة عقولنا , الانفتاح الحقيقي لن نوجد اسبابه بالعقل والمنطق ولكن كثمرة الحل للقضايا الاكثر اهمية

  11. كل الإحترام على هالزاوية الرائعة جدًّا … بالرغم من يقيني بإنّه أغلب القراء رح يقرأوا الزاوية من منطلق حب الاستطلاع لإشياء “ممنوعة” بسمحوش لنفسهن حتى يفكروا فيها بالمنطق, وأغلبهم حتى اللي عم يدّعوا التحرّر و”التسامح” رح يستهزؤوا بالقصص اللي عم تطرح هون .. بس أنا أكيدة إنّه هاي الزاوية هي بداية أكثر من رائعة لتغيير بمفهوم المثلية الجنسية, والتعامل مع المثليين كأشخاص وليس ك “ظاهرة اللي لازم نتقبّلها لأننا مناح ومتسامحين”!!! حان الوقت إنّه الشباب على الأقل بمجتمعنا يبدا يقبل غيره مش منطلق أنا أفضل بس بتقبّل, إنّما من منطلق أنا مختلف عنه وهو مختلف عنّي … عنجد كل الاحترام

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>