على عتبة غد جديد

بسبب مثليتي عرفت أن العدو ليس محتلي فقط، بل إن هناك أعداء منا يحاربون حرية المجتمع تمامًا كالمحتل، وبسببهم يستمد المحتل استمراريته وتفوقه

على عتبة غد جديد

closet

|بقلم: بعل|

ليست هذه المرة الأولى التي أكتب بها إلى مجلة أو موقع في الشأن المثلي، لكنها المرة الأولى التي أكتب إلى موقع يخصنا نحن الفلسطينيين. أن أكتب عن المثلية في موقع فلسطيني اسمًا وطاقمًا ونهجًا شيء يحدث اندماجًا بين قضيتين يكفي أن تكون تابعًا لإحداها حتى تكون مضطهدًا، فكيف إذا كنت تحمل وزر الاثنتين؟! لكن هذا الاحتضان لأمر يبعث على الانفعال، وهنا أريد أن أشكر القيمين على موقع “قديتا” على موقفهم الذي لم يساوموا عليه رغم بعض ردود الفعل الرافضة كحجب الموقع مؤخرًا من قبل السعودية والإمارات، فتحية على هذا التحدي والشجاعة.

أذكر حين كنت في الصف الخامس سؤال أبي لأول مرة حول ماذا أريد أن أفعل في المستقبل، كانت لي آنذاك إجابة سريعة: “بدي أتعلم بالجامعة وأعمر بيت وأتجوز”. أفهم اليوم أن هذا السؤال في سن مبكرة كان هدفه دفعي إلى التفكير في المستقبل ورسم خطوط عريضة له، لكنني لم أكن أحتاج إلى الكثير من التفكير، فالجميع يفعلون الشيء ذاته، على الأقل الجزء الخاص ببناء البيت والزواج؛ ولم يكن عليّ إلا أن أسير ضمن الحدود التي رسمت لشاب قروي.

ولم تمض سوى بضعة سنوات حتى أصبحت إجابتي على هذا السؤال اللغز الأكبر في حياتي. رغم أن أبي وأمي كفا فعليًا عن سؤالي المباشر عن المستقبل، إلا أني بقيت أنا والسؤال ومستقبلي المستنسخ والواقع الجديد -المثلي- في صراع دام طويلاً.

السنة الثالثة والأخيرة في دراستي الجامعية للقب الأول، خلفي عشر سنوات من الصراعات والآلام والأزمات النفسية والعائلية التي لا يعرف قساوتها إلا المثليين أنفسهم، وأصدقائي المقربين (أو من بقي منهم)، وأمامي مرآة. قررت وقتها أنه آن الأوان لكي أواجه حقيقتي بكوني مثلي، بعد أن مررت بأطوار تشكل الهوية، وجربت -عبثًا- كل الطرق لكي أصبح مغايرًا:

“انت، يعني أنا، هومو.. آه هومو!.. بعرف إنو بستعملوها كمسبة، أنا كمان كنت أسب وأقول يا هومو.. بس هاي حقيقتك! وانت بتعرف كثير مثليين، بجننو، مش الصورة النمطية تاعت الهومو الي بتسمعها الناس من نكت سوسو.. وبعدين مالو سوسو؟ فش أنغش منو، وأصلاً هو حر. ولشو الإنكار، ما انت بتميل عاطفيًا وجنسيًا لنفس الجنس وكان عندك تجارب جنسية مع شباب، وتنساش إنك سمعت بذانك نفس الجواب من كل الأطباء النفسيين الي توجهتلهن إنو هادا مش مرض نفسي، يعني إنت زي ما بقولو بالكيتع. خلص بكفي السنين المرّة اللي مرقت، هاد إنت.. أنا.. من اليوم لازم أتصالح مع حالي، أصير حقيقي، أحب حالي، أشوف الإيجابيات إللي في كينونتي.. آه هيك إبتسم، واللي مش عاجبو يلحس طيزي.. اليوم انولدت من جديد والشغلة بدها احتفال!”.

في الواقع لم أحتفل فعلاً، لكن هذا اليوم كان بالنسبة لي تاريخيًا. إنه النقطة التي انهار عندها المستقبل المرسوم مسبقًا، ومنها بدأت برسم مستقبل آخر، مستقبل يعرف احتياجاتي ويرفض إلا أن يكون حرًا، ذاتيًا وغير مقولب. عندما واجهت نفسي بالحقيقة التي كنت أعرفها وحاولت إنكارها لعدة سنوات، عرفت كم كنت ضعيفًا، وكم هي إرادتي مسحوقة أمام إرادة مجتمعي المثقل بموروثات أخلاقية، لا فضيلة فيها ولا عدل. قد يظن البعض أنه من السهل القيام بخطوة كهذه، لكن في الواقع التقبل الذاتي والتخلص من رهاب المثلية الداخلي يستوجب مجهودًا نفسيًا جبارًا، فليس سهلاً أن تكون مختلفًا في مجتمع تسوده ثقافة شمولية، وتنعدم فيه الحريات الشخصية، وليس سهلاً أن تكون حرًا، فالحرية مسؤولية؛ وليس سهلاً أن توقن أن الزواج لم يعد في قائمة أهدافك، ولا أن تسلم بحقيقة كونك ندًا لموروثات متراكمة من التخلف والتقوقع. ولذلك فهناك من المثليين من يصل إلى هذه المرحلة من التقبل الذاتي مبكرًا، وهناك من يتأخر حتى يصل إليها، وهناك من لا يبلغ من النضوج ما يمكنه من تقبل ذاته، فيمضي عمره كله خائفًا، حائرًا ومختبئًا.

لقد مضت على ذلك اليوم سنتان، بهما أصبحت عضوًا في جمعية القوس، التي كانت بيتي وعائلتي الأخرى حين كنت على شفير فقدان عائلتي الأولى. خلال سنتين خرجت الحقيقة من سراديبها المظلمة، وواجهت بسببها أعنف الصراعات وأحلك الظروف، وقد قررت ألا أذكر التفاصيل هنا لأني أعرف أن ما من كلمات ستحيط بحجم الألم الذي انقضّ عليّ من كل جانب، من الأهل والأصدقاء والأقارب، ومن أشخاص لا أعرفهم أصلاً ممن نصبوا أنفسهم حماةً لقيم المجتمع الذي أصبحت أشكل تهديدًا عليه.

لكنني صمدت ونجحت في أن أكون ما أنا عليه، لا ما يريده الآخرون مني، مستمدًا هذه الطاقة من تقبلي لذاتي وحبي الشرس لحريتي.

إن تجربتي التي لم تنتهِ تشبه تجارب مثليين آخرين، منهم من قوبل برد أعنف، ومنهم من حظي بظروف أفضل، والمعظم قد قرر البقاء “في الخزانة”، خشية دفع أثمان باهظة مقابل حرياتهم، في مجتمع ترتعد فرائصه من هذه الكلمة التي يعتبرها دخيلة، وربما ألصق بها تهمة الاستعمار أو الحرب على الإسلام.

بقي الكثير ليقال عن إشكاليات جسيمة قد واجهتها، مثل “الخروج من الخزانة”، والتضحية بالكثير من الصداقات والعلاقات، وإشكالية التعايش مع العائلة بعد معرفتهم أنني مثلي، ورسم مستقبل جديد، وغير ذلك، وكل واحدة منها تستحق نقاشًا منفردًا، لكني أردت تسليط الضوء على أهمية تقبل الذات في تغيير الواقع، وليس هذا فحسب، بل إن مثليتي قربتني أكثر من إنسانيتي، لأنني أصبحت مع الأيام أكره أكثر فأكثر أي تمييز ضد أي إنسان، إذ حينما وجدت نفسي مختلفًا عن المعظم، شاذًا عن المألوف، وشعرت بألم الاضطهاد، أصبحت أشعر بعمق بماذا يشعر كل مختلف في هذا العالم وفي مجتمعنا بالذات، حتى أصبح كل تمييز ضد أي إنسان بمثابة تمييز شخصي ضدي، ولم يبق عندي شك في أن المجتمع السليم يجب أن يحوي جميع أفراده على اختلافاتهم، وإلا لأصبح مجتمعًا متخلفًا منحطًا.

بسبب مثليتي عرفت أن العدو ليس محتلي فقط، بل إن هناك أعداء منا يحاربون حرية المجتمع تمامًا كالمحتل، وبسببهم يستمد المحتل استمراريته وتفوقه. إن قضيتنا بالنهاية هي قضية حرية، هذه الحرية التي يتناوب على سلبها كل من المحتل الغريب والمحتل القريب، وأي مشروع وطني يجب أن يعمل على هذا التحرير بالتوازي، وإلا كان مشروعًا يغير اسم المحتل فحسب.

صحيح أن مستقبلي الجديد قد فرغ من الزواج وتبعاته، ومن بعض الأحلام الشرقية الأخرى، لكنه امتلأ بعشرات الأهداف التي قد يمضي العمر ولا يكفيني لتحقيقها، وأعرف أنني سأنظر ورائي قبل مفارقتي الحياة وسأشعر بالرضى لأني لم أرضَ الظلم، وقد فعلت ما فعلت لأكون أحد المعاول التي تطرق صرح التخلف الذي لا بد له أن يحطم تحت أقدام إرادتنا، فنحن نستحق الحياة.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. أبا المجد، ملاحظتك في مكانها، أما جوابي فهو: في بعض الأحيان نضطر للتضحية من أجل من نحب…
    أتمنى أن تكون الإجابة قد وصلتك!

  2. يا اخ بعل مقالك جيد وخروجك للتحدي يستحق الاحترام لكني لا ارى انك خرجت من دائرة الخوف بعد لان الذي يكتب باسم مجهول يكون خائف من شئ ما او يريد ان يتجنب شئ ما واذا كنت قد بدات التحدي ومعركة التحرير فليكن التحرير كامل ومتكامل هذا اذا لم يكن بعل اسمك الحقيقفي المعروف فيه مع احترامي لك

  3. ملاحظة تقتضي التنويه: اسم النص كان “على عتبة غد آخر”، لخطأ ما -لا أعلمه- نشر النص بالاسم الموجود حاليًا.

    إلى “دارة رائف”: أشكر إطراءك الجميل، أنا مسرور جدًا للأثر الذي تركه عندك نصي، وهذا من أحد أهم أهداف الأدب.
    تحضرني الحكمة التالية وأنا أفرأ تعليقك: “الإنسان عدو ما يجهل”، فلربما الجهل بوجود المثليين أو العلم بوجودهم لكن مع زجهم بخانة المنحرفين والدنيئين، هو ما يخلق الكره تجاههم أو ما يسمى بـ رهاب المثلية / هوموفوبيا؛ وهذا ما يفسر التغيير الذي حصل عندك بعد مصادقتك لشخص مثلي. أتمنى أن يساهم الأدب في إحداث التغيير في المجتمع، إلى جانب النشاطات الأخرى التي نقوم بها. لك مني كل ود واحترام.
    بعل

  4. هذا أروع مقال وأرقى مقال كتب في هذه الخانة،
    حقيقي واقعي لدرجة فوق الخيال
    لم أتقبل فكرة المثلية في حياتي طبقا لاعراف المجتمع التي تربينا عليها.
    إلى ان التقيت بشخص، غير كل طريقة تفكيري عن الموضوع، غير كل انسانيتي ، جعلني أنسان انسان انسان بكل معنى الكلمة. أعز صديق لدي هو الان.
    كانت حتى كلمة “هومو” اذا ذكرت في بلدتي وكانك تقول كلمة كفر، الحديث عن الموضوع وكأنه كفر.
    أفهم كل كلمة قلتها .
    تقبلت موضوع المثلية بتحفظ.
    لكن بعد عامين من تعرفي على هذا الصديقة.
    التقيت بفتاة في خارج البلاد ، مثلية أيضا ، لكن لقائي بها هو ما غير طريقة تفكيري بالموضوع بشكل رهيب ، لم يعد لدي ذاك التحفظ، لا أريد الدخول بالتفاصيل ، ولكنها غيرت حياتي بشكل او باخر .. ايضا اليوم لا أقلق من التحدث عن الموضوع، اليوم ، عندما أسمع نكات المسخرة “نكات سوسو والهومو” لم أعد اضحك، أصبحت أطلب من يضحك أن يخرس ! وانا فخورة بذلك !

    هذه المقالة في طرحها واسلوبها ، وكلماتها، أرقى مقالة قرأتها في هذه الخانة. طرحك جميل، يدل على ثقافتك ومستواك .
    واصل مسيرتك ، فلكل منا حياة يستحق ان يعيشها كما يشاء ،

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>