الجندر والجنسانية في رواية ” أميرات منسيات ” : النساء والمثليون كنموذج

وهكذا نزع المؤلف التلازم في الفهم التقليدي الذي يخلط بين ” المثلية” كميول شعورية وبين “التشبه بالجنس الآخر” كهوية جندرية، فالمثليين ليسوا بالضرورة متشبهين بالجنس الآخر ، والمتشبهين بالجنس الآخر ليسوا بالضرورة مثليين.

الجندر والجنسانية في رواية ” أميرات منسيات ” : النساء والمثليون كنموذج

l بثينة العربي l

” أميرات منسيات” هو عنوان الرواية الأولى للأديب الشاب متيّم جمال ، وتتناول الرواية في موضوعها الأساسي سيرة حياة السيدتين الضرّتين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين. و لعل أبرز ما يميز هذه الرواية عن غيرها من الروايات ، عدا أسلوبها المشوّق ولغتها الأنيقة ، هو أنها تاريخية  بشخصيات حقيقية وأحداث حقيقية ، وأنها تحطم حزمة متكاملة من ” التابوهات” المعاصرة إبتداءا بفهم التاريخ بعيدا عن الأدلجة الدينية التقليدية ، مرورا بكشف المستور من الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية المتحررة أثناء العصر الاموي في الحجاز والعراق، وليس انتهاءا بالآراء الدينية الجريئة التي تفترضها الرواية. فالخطاب التحرري واضح فيها والرسائل مبطنة بشكل سلس ، من دون أن يدلو بها مؤلف الرواية أو أن يحمّلها لشخصياته. فمجرد أن وقع اختياره على هاتين الشخصيتين (عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين ) الثائرتين المتحررتين المثيرتين للجدل ، كفيل بأن يبدأ رحلة ” المشاكسة ” في  مقاربته النسوية لعلمه الروائي. ثم أضاف عنصر تشويق آخر على روايته بأن وضع السرد على لسان المغني ” طويس” ، وهو من مشاهير الظرفاء الموسيقيين المتشبهين بالنساء في المدينة المنورة . مما أتاح للكاتب مساحة إبداعية أكبر في الإسترسال بإختراق عوالم النساء وأسرار الناس والمجتمع والشأن العام والخاص في ذلك العصر ، بحكم أن طويس كان يدخل على النساء بحرية أكبر، كما كان يختلط بالرجال وبجميع الناس على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ، ويهتم بمعرفة أخبارهم وبنقلها ، مما يجعله مؤهلا لكشف الأسرار والسرائر التي يريد المؤلف سردها.وفي خضم كثرة النقاط المثيرة للإهتمام في هذا العمل ، إخترنا أن نركز حديثنا في هذا المقال عن التحرر الجندري والجنساني الذي تفترضه الرواية ، أي في الصورة اللانمطية للمرأة والرجل، من حيث التصور للشخصية الذكورية والأنثوية ومن حيث الأدوار الإجتماعية المتوقعة والتصرفات والأفكار والميول.

ففي تصوير المرأة ، إخترقت الرواية كافة الأعراف التي يتبناها المجتمع العربي المعاصر بالنسبة لتصوره التقليدي للمرأة ودورها المتوقع وفهمها لنفسها وفهم الآخرين لها. إذ لا مكان للمرأة الضعيفة المهزومة في جميع الشخصيات النسوية التي تظهر في الرواية ، إبتداءا بعائشة بنت طلحة ، التي تمثل المرأة القوية المثقفة الحرة صاحبة المبادرة ، المتمردة على منظومة التقليد، ولا تتنازل عن حقوقها مهما كلّف الأمر ، بل وتنشط من أجل حقوق غيرها من المستضعفين وتهتم كثيرا بالشأن العام والسياسة ومصالح الناس. هي نسخة أخرى عن خالتها عائشة أم المؤمنين ” رجُلة العرب” حسبما وصفت في الرواية وفي أحد مراجع الرواية ( كتاب الإمتاع والمؤانسة). وصفة رجلة ، مؤنث رجل ، إنما أعطيت لعائشة أم المؤمنين للدور القيادي التي لعبته على كافة المستويات ، وهي سمة غير متعارضة أبدا مع ما عُرف عنها من أنوثة ، إلا أن التصور العربي لقيادة الرجال يفترضها أساسا للرجال وليس للنساء. ولعل رفض عائشة بنت طلحة تسليم دفة القيادة للزوج ومعاندته يعتبر أيضا خروجا على معايير الأنوثة ودليل ذكورة في التصور العربي التقليدي. إذ يشكو زوجها مصعب بن الزبير لفقيه العراق عن مشاكله معها ويقول له : ” لكني رجل مذكّر ، أريد أن يكون الأمر لي ، وهي إمراة مذكّرة ، تريد أن يكون الأمر لها ، فلا أنا أتابعها ولا هي تتابعني”. والجملة هذه موجودة كما هي في كتب التراث ، فالرواية تعكس إلى حد كبير حقيقة الأجواء آنذاك. وحتى استقبال الوفود في  صالونها ومجالس العلم والدين والحديث ومسابقات الأدب والفنون التي كانت تقيمها عائشة بنت طلحة في قصرها ، كانت مُحببة لمجتمعها وموضع إعجاب وتقدير إلا أنها تُعتبر أيضا ممارسة ذكورية، فالرجل تقليديا هو الذي يجتمع بالرجال في مجلسه و يناقشهم ويرشدهم ويكافئهم  بالجوائز والاموال. وهذا واضح بتشبيه مجلسها بمجلس الرجال في كتب التراث حيث يقولون : ” وكانت تجلس للناس وتأذن لهم في مجلسها كما ياذن الرجل “. والغالب أن نسب عائشة الرفيع وتربية خالتها وقوة شخصيتها وعلمها وثراءها وزواجها من رجالات السياسة، عوامل أتاحت لها لعب هذه  الأدوار الذكورية المحصورة عادة بالرجال ، وقد تقبّل مجتمعها ومَن بعدهم سيرتها كنموذج لسيدة المجتمع ، حتى مع التحرر الجندري الواضح، بل هو موضع إعجاب عند الأدباء والشعراء والمؤرخين الذين مدحوا عائشة بنت طلحة في أعمالهم.

و في الكفة الأخرى ، نلحظ نموذج ضرتها السيدة سكينة بنت الحسين ، التي تمثّل المرأة الثائرة سيدة نفسها ، الساخرة من القيم الذكورية والمتحدية للسلطات “البطريركية”  كسلطة الزوج والأخ والنظام السياسي والإجتماعي والديني . فهي لا مبالية في تحطيم تلك الحواجز كي تحقق ذاتها وما تراه  مناسبا في مسيرة حياتها. ولعل من الجدير الإنتباه أن ذهنيتها تلك قد تكون نابعة أيضا من تربية والدها الحسين وأمها الرباب. فسكينة متأثرة لحد كبير بأمها الشاعرة المثقفة ، وبأبيها الثائر ، إذ يخاطب الحسين إبنته في قصيدته : ” فإذا قُتلت فأنتِ أولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوان”، وكأنه يسلمها شأن نفسها عند مقتله ، على خلاف المعروف من التشديد على وضع النساء تحت ولاية الأقارب الذكور. ولذلك نرى أنها تزوجت مرةً إبراهيم الزهري من دون ولي ، إذ اعتبرت أنها ولية امر نفسها وليست بحاجة إلى وصي ذكر بخلاف التقاليد العربية، خاصة بعد رفض أخيها الإمام زين العابدين للعريس وإصرارها على الزواج منه. وتمارس سكينة سلطتها على أزواجها على عكس ما هو معروف من ممارسة الرجل للسلطة على المرأة، فتشترط على زوجها الأخير زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه لا يستطيع ان يطلقها بل هي التي تطلّق متى شاءت ، وانها تفعل ما تشاء وقتما تشاء ، ولا يستطيع هو ذلك بل عليه ان يستأذنها في كل شيء. وهذا الخبر من أكثر الأخبار إثارة للعجب في تخطي الحدود الجندرية المرسومة للمرأة في المجتمع العربي. وقد وُصفت سُكينة بانها ” برَزة من النساء” ، أي أنها تبرز للناس  وتجالس الرجال أصحاب القدر وتحاورهم وتشاورهم وتجادلهم، فقد أقامت سكينة مجلسا في قصرها تقيم به حلقات العلم والأدب وتقدم فيه نقدها للشعراء والمغنين وتكرمهم بالجوائز والاموال. فهي ” شهمة مهيبة نبيلة ” وقلّما تُعطى هذه الصفات للمرأة عند العرب، إنما تُعطى عادة للرجال ، وقد أُعطيت لسكينة على الأرجح تقديرا لدورها القيادي الرائد في المجتمع والثقافة والسياسة. ولا يقتصر التحرر الجندري عند النساء على الشخصيتين الرئيستين في الرواية ، بل يتعداه إلى شخصيات ثانوية أخرى تتحدى النمط السائد، لكن لا مجال للتوسع فيها هاهنا.

أما بالنسبة للتحرر الجنساني في الهوية والميول العاطفية في الرواية ، فهو حاضر في الحبكات الجانبية ، أي في سياق بناء شخصيات الشعراء والمغنين والموسيقيين ، الذين كانوا يجتمعون بعائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين ، والذين تكثر أخبارهم على لسان المغني طويس ، سارد الرواية. فتأتي إشارات المثلية مرافقة لتلك الأجواء الفنية التي تظهر بين الحين والآخر في فصول الرواية. ولعل رواية أميرات منسيات من الروايات العربية القليلة التي تصور الشخصيات ذات الميول المثلية بصورة واقعية إيجابية. إذ لا يخلط المؤلف أبدا بين الهوية الجنسية والميول الجنسية لتلك الشخصيات ، بخلاف النظرة السائدة في مجتمعاتنا. فالشخصيات التي تبدي إعجابا مثليا في الرواية هي شخصيات ذكورية كاملة الرجولة، وليس بها أي تخنّث أو تشبّه بالنساء . فمثلا ، تكشف لنا الرواية جانبا مخفيا من جوانب عمر بن أبي ربيعة ، شاعر الغزل الوسيم المترف “دنجوان عصره”. فإلى جانب غزله بالنساء وإعجابه بهن وإعجابهن به ، يبدي عمر إعجابا بجمال المغني الغريض وغيره من الوسيمين ، ويعبّر عن نفسه بقوله : ” إني امرؤ مولع بالحُسن أتبعه ، لا حظ لي فيه إلا لذة النظر” . وتظهر الميول “الثنائية” أيضا عند الأحوص الانصاري ، من فحول الشعراء الامويين وأكثرهم جرأة وفصاحة ، فهو مُلاحِق للنساء حتى المتزوجات منهن ، كما أنه مراود للغلمان أيضا. أما المثلية التامة فتظهر جلية عند ابن سريج و الغريض ، أشهر وأفضل مغنيين في الحجاز،  ومن المؤكد أن مثليتهما كانت مشهورة ، ولذلك كانا يدخلان بحرية تامة عند النساء ذوات المنصب ، على اعتبار أنهما من ” غير أولي الإربة من الرجال”. وكانا فنانان مشهورين بالجمال واللباقة وبالإهتمام البالغ بأناقتهما ، وشغفهما بالشبان الحِسان متكرر ، ولا يظهر عليهما تشبه بالنساء. أما حاكي الرواية ، الموسيقي طويس ، فهو مخنث متشبّه بالنساء في شكله ولباسه وحركاته ، إلا أنه لا يُنسب له أية أخبار مثلية في الرواية. بل على العكس ، يُخبر عن نفسه بأنه راود جارية في أحد الأعراس بعد أن أُعجب بها. والظاهر أنه لم يُنسب له أخبار مثلية حتى بالمراجع التاريخية ، بل تذكر أحد المصادر انه كان متزوجا ، فهو على الأرحج “غيري” الميول إلا أنه متشبه بالنساء في هويته الجندرية. وحتى الموسيقي المخنث قند ، فلم تُنسب له أيضا أية ملامح مثلية في الرواية . أما المغنية الميلاء ، فقد صُوّرت بأنها ” تلبس كالرجال” ، إلا أنه لم يظهر لنا إذا كانت مثلية أو ثنائية أو غيرية في ميولها . وهكذا نزع المؤلف التلازم في الفهم التقليدي الذي يخلط بين ” المثلية” كميول شعورية وبين “التشبه بالجنس الآخر” كهوية جندرية، فالمثليين ليسوا بالضرورة متشبهين بالجنس الآخر ، والمتشبهين بالجنس الآخر ليسوا بالضرورة مثليين. إن إهتمام الكاتب بالحبكات الجانبية وإعطاء صوت لكافة الشخصيات ذات التنوعات الجندرية والجنسية ، خاصة المهمشة منها ، يُغني الرواية ويرسم صورة المجتمع كاملة بشكل سلس وعفوي وواقعي.

كانت تلك لمحة مختصرة وعامة عن التحرر الجندري والجنساني في رواية أميرات منسيات ،  وهو جانب واحد من جوانب التحرر في هذه الرواية التي تضيء على الكثير من مظاهر الحضارة العربية بعهد  إزدهارها وتطورها . وقد لاحظنا أنها تتقدم بأشواط كبيرة على ذهنية المجتمعات العربية المعاصرة  ، في ذاك الجانب وفي غيره من سمات الإنفتاح والرقي والتحضر.

 (خاص قديتا)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>