دفاعاَ عن تونس وناديا الفاني أيضًا/ نائل بلعاوي

كانت جريمة الحداد -حسب شيوخ زمانه، وشيوخ هذا الزمان- الدعوة إلى التعاطي مع النص الديني بانسجام كلي مع “أوقات تناوله”؛ فما “يصلح لمجتمع الجزيرة العربية المتخلف والبدائي في القرن السابع لا يصلح الآن”. و”النصوص المقدسة تبقى مقدسة ولا يمكن أن تكون متحجرة”

دفاعاَ عن تونس وناديا الفاني أيضًا/ نائل بلعاوي

ناديا الفاني. حد السيف على الملحدة!!

|نائل بلعاوي|

1

نائل بلعاوي

لديّ ما لا تستطيع هذه الكلمات القليلة حصرَهُ من أسبابِ ذاتية وأخرى موضوعية للدفاع عن تونس.. سأبذل ما استطعت، الآن، من جهدِ على اختصارها، على أن أعود إليها مرة… أو ربما مرات أخرى، لتفصيلها من جديد. فما تتركه البلاد هناك من أثر بليغ في النفس والذاكرة، لا يُقابل بالصمت والتجاهل. وما قدّمته، على امتداد العقود السابقة، من إشارات ملهمة عن واقع اجتماعي، حداثي المظهر وإنساني التوجه، لا يمكن الاستهانة بقيمتها الريادية. تلك الريادة التي قادت عبر إشاراتها العميقة الأولى، إلى توفير المزيد من أسباب الريادة الثانية، هذه التي نحيا على وقعها الآن، ونحتفي بها.

ريادية الفعل والخطوات كانت تونس. سباقة في الانفتاح على نفسها. في اكتشاف إرثها الثقافي وإعادة إنتاجه، وسباقة هي في الخروج المبكر -مقدمات ذلك الخروج على الأقل- من كهوف الظلام المحيطة بها، من المحيط إلى الخليج، إلى فضاءات مختلفة وجديدة…. جريئة وعقلانية، تستلهم روح النص الديني وتماثلهُ بحاجات الواقع، وتبحث في ثنايا ذلك النص عما أساء الفقهاء -وعاظ السلاطين إياهم- تفسيره وتعميمه، لتعيد تحليله من جديد وترد الاعتبار إليه… إليها، وإلى الحياة برمتها أيضًا.

لم تبدأ مقدمات رد الاعتبار ذاك مع ظهور “مجلة الأحوال الشخصية” ودخولها حيز التنفيذ في العام 1956، وهي المجلة التي ساوت، إلى حدٍ ما، قانونياَ، بين الرجل والمرأة. فإلى عهود سابقة بكثير تعود روح تلك المجلة الرائدة…. إلى القيروان قبل عدة قرونٍ من الآن، وإلى الطاهر الحداد في العشرينيات من القرن المنصرم.

عرفت القيروان في ذلك الوقت (القرن السادس عشر بحسب عديد المصادر) ما دخل التاريخ بأسماء مختلفة: “عقد القران على طريقة أهل القيروان” أو “الصداق القيرواني” و”القرآن على عادة نساء القيروان”. وبصرف النظر عن تحديد الاسم الصحيح الآن، فقد وضع ذلك القانون الجريء، إسلامي العمق والمرجع، عدداَ من المبادئ الأخلاقية المُنظمة لعقود الزواج الإسلامية، فساوى بين حقوق الزوجين في البيت والأطفال وفي طلب الطلاق كذلك: “أن تسرّى عليها فإنّ طلاقها بيدها”. بهذه الكلمات حرفياَ يعلن النص القيرواني عن حق المرآة بخلع زوجها حين يعاشر واحدة أخرى. وإلى أبعد من ذلك بكثير يذهب النصّ (المعمول به آنذاك) حين يمنع تعدد الزوجات: “لا سابقة ولا لاحقة وإلا فأمرها بيدها”، هذا يعني، بلغة عصرية، أنّ للمرأة حق رفض الزواج بمتزوج من أخرى، كما من حقها فرض الطلاق، وليس طلبه فقط، حين يهم شريكها بالزواج من ثانية.

من العمق الحقيقي للفكر الإسلامي جاء عقد القيروان، وليس من خارجه، كما يُتهم أحياناَ. وإلى ذلك العمق تحديداَ عاد الطاهر الحداد 1899- 1935 للبحث والتنقيب ليأتي، بعد سنوات من الجهد الحقيقي، بكتابه المميز “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (1930)، وهو الكتاب الذي سيجرّ على صاحبه شرور التكفير والزندقة والخروج من الملة… إلى آخر النشيد الأثير.

كانت جريمة الحداد -حسب شيوخ زمانه، وشيوخ هذا الزمان- الدعوة إلى التعاطي مع النص الديني بانسجام كلي مع “أوقات تناوله”؛ فما “يصلح لمجتمع الجزيرة العربية المتخلف والبدائي في القرن السابع لا يصلح الآن”. و”النصوص المقدسة تبقى مقدسة ولا يمكن أن تكون متحجرة”. لينطلق من هناك، عبر “مرونة النصّ الكامنة فيه” إلى الدعوة “المنسجمة مع روح العصر وشروطه” لتحرير المرآة ومساواتها “مساواة كاملة مع الرجل المسلم” في العائلة والمجتمع وأماكن العمل.

استلهم الطاهر الحداد روح النصّ الديني القديم والعقد القيرواني الأحدث، مدركاَ حقيقة القدرة الكامنة في تلك النصوص المقدسة على المشاركة في “تطوير العصر”، وليس الوقوف في وجه عجلة التطوير الهادرة تلك، فكان كتابه المذكور بوصلة تهدي المجتمع التونسي إلى جادة الصواب. الصواب الذي قاد إلى إصدار “مجلة الأحوال الشخصية” في العام 1956، والبوصلة التي دفعت طه حسين للتعليق، بهذه الكلمات العميقة، على كتاب الطاهر الحداد: “لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنيْن”.

سباقاَ كان الطاهر الحداد، ورائداَ كان عقد القران على طريقة أهل القيروان، وريادية الفعل والخطوات كانت تونس دائماَ، ولعل ثورتها المباركة الأخيرة، هي الامتداد المنطقي لكل ما تقدم ذكره وما لم يذكر، فمن هناك تحديدا، عبر ذلك التاريخ الطويل العامر بالحسّ المبادر والقدرة على الإبداع وخلق فنون التسامح والحوار.. من هناك فقط، كان يمكن للثورة أن تقوم، وسيكون لها أن تنتصر، ليصبح الدفاع عن ناديا الفاني، بالتالي، هو ضمن السياق الطبيعي للدفاع الحتميّ والمطلوب، دائمًا، عن تونس.

 

2

أحاول، مذ أعُلنت الحرب على ناديا الفاني، وحتى كتابة هذه السطور، أن أرصد، بحيادية خالصة، أسباب تلك الحرب ودوافع أهلها، أن أعثر، ما استطعت، على فكرة، واحدة على الأقل، تجعل من الاعتداء على سينما “أفريكا آرت” في قلب العاصمة التونسية، مُبرراَ ومقنعاَ، ولم أجد. وها أنذا اصطدم، المرة تلو الأخرى، بذات الحائط الهلامي وتعاليمه الأبدية الصارمة، حيث لا مكان للحوار والسّجال هناك. لا مكان لأسباب التسامح، ولا لغة بديلة عما يقوله السيف ويقود إليه.

في ذلك اليوم، 28/6/2011، قامت مجموعة من شباب التيار السلفي بمهاجمة قاعة سينما أفريكا آرت أثناء عرضها لفيلم المخرجة التونسية ناديا الفاني “لا ربي لا سيدي”، فحطمت، وفقاَ لتقرير الداخلية التونسية، عدداَ من مقاعد الصالة، إلى جانب الاعتداء بالضّرب على من تصدى لها من الحضور، لتنتهي الواقعة، حينها، بتدخل رجال الأمن واعتقال سبعة من المهاجمين، وهو الأمر الذي سيدفع برفاقهم للتجمهر في اليوم التالي أمام باب المحكمة التي قدّموا للمثول أمامها، للمطالبة بالإفراج عن النخبة المحتجزة… هناك أيضا قام المتجمهرون بالاعتداء الجسدي على بعض رجال القانون، مردّدين الشعار عينه، الذي ارتفع أمام باب السينما: “جئناكم بالذبح…. جئناكم بالذبح” و”حدّ السيف.. حد السيف”، إلى جانب التأكيد، بين الشعار الأول والثاني، على أنّ المخرجة “كافرة. زنديقة. ملحدة” و”القصاص.. القصاص” هو الحل مع “أعداء الدين”. لم تظهر، بالطبع، من بين تلك الشعارات العالية دعوة واحدة للحوار، ولم تدلل الآراء الكثيرة المنقولة بالصوت والصورة عن ذلك الحشد، على أنّ حماة الدين والدنيا قد شاهدوا الفيلم أصلا، أو أنّ اسم المخرجة قد مرّ على مسامعهم ذات يوم، هي التي قدمت قبل عدة سنوات فيلما وثائقيا هاماَ ضد نظام بن علي، ومنعه للتداول الحر للانترنت بين الناس. فقد كان المُحرك المشترك لتلك المجموعة المهاجمة هو: استخدام المفردة (ربي) في عنوان الفيلم مع لاء النفي التي تسبقها (لا ربي…)، وليس مضمون الفيلم بحد ذاته (يحكي الفيلم عن العذابات اليومية للتونسي وسعيه الوجودي للبقاء في ظل شراسة النظام الاقتصادي الذي ينهش، بلا رحمة، عوامل ذلك الوجود)… ولا أعرف شخصياَ كيف تمكن أولئك السادة من العثور على دعوات ـللكفر والإلحادـ في ثنايا الفيلم؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن عنوان الفيلم الذي أوقع الواقعة لم يُترجم من لغات أخرى. لم تعثر عليه صاحبته في قارة بعيدة أو عند شعب آخر، بل هو قادم ومباشرة، من دون إضافات أو نقصان، من صلب الثقافة الشعبية الراسخة في المجتمع التونسي. فحين يغضب التونسي، وهو كثيراَ ما يغضب، يستخدم تلك العبارة الشائعة: لا ربي لا سيدي، والتي تجيء عادة كردّ استفزازي مقابل للعبارة الدارجة الأخرى: “يا ربي يا سيدي”، إضافة للكثير الكثير من الشتائم الأقبح والأشمل، والتي لا يسمح المجال لذكرها الآن، ولكن “الإخوة هناك” يعرفونها جيدا ويسمعونها بلا انقطاع، كما سمعت أنا، عشرات المرات، عبارة لا ربي لا سيدي، في تونس وبين شرائح اجتماعية مختلفة ومتباينة ثقافيا واقتصاديا كذلك.

من رحم تلك الثقافة الشعبية ومجموع تناقضاتها جاءت المخرجة بفيلمها وعنوانه وليس من كوكب آخر، فإذا كان لا بد من محاكمتها الآن -هناك دعوات قضائية عديدة رفعت ضدها- والمطالبة بسحب جنسيتها التونسية، وصولا إلى القصاص ـبحدّ السيفـ منها. فعلى أولئك السادة أن يطالبوا بسحب الجنسيات من الشعب التونسي برمّته، وتقديمه كاملا، من بنزرت إلى بن قردان، أمام المحاكم، أو القصاص الجماعي منه. فإما ذلك المخرج المرعب لازمة السلفي المفترضة مع محيطه الاجتماعي، وإما الحوار، والقليل من أسباب التسامح الكثيرة في النص الديني، والغائبة الآن تماما عن فكر وأداء الحركات الإسلامية الأصولية التي ترفع السيف حداَ، ولا تنتج في نهاية المطاف غير عزلتها، وتحولها إلى مجموعة خارجة عن القانون: القانون الإنساني والإلهي أيضًا؛ فمن يعرف الله، يعرف أن قوانينه لا تجيز القتل والإقصاء، ولا تشير إلا للتسامح الحقيقي والرحمة الشاملة، إلى الحوار وحق الاختلاف بعبارة أخرى. فإما الحوار وإما السيف، وقد جربنا السيف طويلا في العالم العربي، وانتهينا إلى بورقيبة وبن علي في تونس، وانتهينا إلى قائمة الأسماء التي تعرفون من المحيط إلى الخليج. فماذا عن الحوار، عن تذوق ما لديه وما يختزن، من نواة عظيمة وملهمة.. هي الرحمة أولا، وهي التسامح أولاً وثانياَ أيضاَ.

الدفاع عن تونس، أخيراَ، هو الدفاع عن حق التونسي بالحياة، باختلاف اللون والفكرة، وعن حقه الطبيعي والمكتسب بحرية لا تُحد ولا يطالها السيف. فمن أجل تلك الحرية قامت الثورة ومن أجلها ستنتصر، ومن أجلها أيضًا وأيضًا يصير الحوار أداة وحيدة مع ناديا الفاني، أداة عظيمة تعيد السيوف، تلك القبيحة، إلى أغمادها. وتبقي على تونس، رائدة وملهمة، كما كانت، منذ عقد القيروان، وعقلانية شيوخ الزيتونة، مروراَ بالطاهر الحداد ومجلة الأحوال الشخصية، وصولا إلى هذه اللحظة الاستثنائية في التاريخ التونسي، حيث تدخل البلاد، بحذر وترقب، إلى جانب الثقة العالية بالنفس والقدرات، إلى غدها المُنتظر.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>