حيفا- بُرقة: البحث عن الجذور/ جوني منصور

ما لفت نظري في هذه السيرة ورود أسماء ومعالم من حيفا ما تزال عالقة في ذاكرته، وأن والده ووالدته وعدد من الأقارب قد استمر في ذكر هذه المواقع بعد النكبة لفترة طويلة

حيفا- بُرقة: البحث عن الجذور/ جوني منصور

samih massoud

.

|جوني منصور|

“يتسع مدى الذاكرة، وتشتدّ وطأة حيفا فيها، أضواء جميلة تلوح من مدينتي الأثيرة، تحملني أفكاري وتطوف بي في كل أرجائها، أستدفئ بها، أشعر بأنفاس بحرها الدافئة، أعبر دروبها سيرًا على الأقدام إلى ما بعد ساحة الحناطير (الخمرة) ووادي الصليب، أواصل التقدم صعودًا عبر درج طويل متعرّج، أواصل الصعود وسرعان ما أجد نفسي في أعالي الكرمل”.

بهذه العبارات يفتتح سميح مسعود سيرته الذاتية “حيفا… بُرقة، البحث عن الجذور”. عبارات تؤكد صلته القوية بمدينته حيفا التي شاءت الظروف السياسية والعسكرية أن تبعده عنها جسديا، وان يبقى مرتبطا بها روحيا وفكريا ووجدانيا.

سميح مسعود، من مواليد مدينة حيفا قبل النكبة بعشر سنوات تقريبا، وهو في الأصل من قرية برقة. برقة وغيرها من قرى ومدائن فلسطين وفدت جموعا من ابنائها إلى حيفا للعمل في الأساس، وكانت حيفا وفية لمن وطئت قدماه فيها، فاحتضنت الآلاف من العمال والزوار والمستثمرين من دول الجوار، حتى باتت تعرف باسم “أم الغريب”، وإن كان الذين وصلوها لغاية محددة، إلا أنهم شعروا بأمومة هذه المدينة، ويبدو أن هذا هو سرّها وهذا هو سحرها.

تعرفت إلى سميح مسعود قبل شهر ونصف تقريبا عبر النظام الاليكتروني ثم عبر الصوت من خلال مكالمات هاتفية، ثم حللت ضيفا في بيته العامر بعمان، ثم من خلال كتابه المشار إليه أعلاه.

كانت هذه الخطوات واللقاءات السريعة كافية لأكتشف بسرعة أنه مسكون بحيفا، او بالأحرى حيفا مسكونة فيه وفي منزله وفي نهج حياته اليومي، حتى لهجته بقيت رغم بعد الزمان حيفاوية صرفة.

تبين لي أن حيفا سميح مسعود  ليست كلمات على ورق، إنها حالة خاصة استولت عليه بالكلية، فتجدد لقائه بها قبل سنوات عدة عندما زارها. صحيح أن يد الطمس قد عملت فيها، وان مخططات التهويد قلبتها رأسا على عقب، إلا أن حيفا سميح هي ذاتها التي ولد فيها، ونشأ وترعرع في الحي الشرقي منها وتحديدا في شارع الناصرة، وأن أحيائها بأسمائها ومواقعها لا تزال حاضرة بالكامل في ذاكرته ووجدانه وانفعالاته وحديثه.

النسخة الأولى من “حيفا… برقة” أهديت لي في بيته العامر، وفي ذات الليلة شرعت بقراءة بعض فصول الكتاب قبل ان يستولي علي النوم. بدأ سميح مسعود سيرته الذاتية من حيفا، وينهيها باكتشاف جذوره.

ما لفت نظري في هذه السيرة ورود أسماء ومعالم من حيفا ما تزال عالقة في ذاكرته، وأن والده ووالدته وعدد من الأقارب قد استمر في ذكر هذه المواقع بعد النكبة لفترة طويلة، وكأنهم يصرون على أن يحفظها عن ظهر قلب ليس اسما فحسب بل موقعا ملموسا وإن كان بالتخيل.

سميح مسعود

سميح مسعود

ولأنني مسكون بحيفا منذ ولادتي كسميح مسعود وغيرنا من أبناء هذه المدينة ومن محبيها، فإنني تبينت أن عرضه لمشاهد حياته مرتبط بقوة نادرة بطبيعة المدينة ومسيرة حياتها حتى العام 1948.

امتلاك ذاكرة قوية ودقيقة ذات حضور دائم مسألة نادرة بمرور الزمن، إلا أن الزمن الفلسطيني المتخيل والمجبول بالذاكرة الفردية والجمعية كان يسير بطيئا ليترك المجال لبقاء صور المدينة حاضرة في العقول والنفوس والأحاسيس.

من جهة أخرى عملية الانتقال إلى برقة خلال العطل المدرسية وللدراسة لفترة زمنية ما قبل النكبة جعلت من سميح مسعود صاحب قدرة متميزة على فهم طبيعة الحياة اليومية ومجراها في القرية الفلسطينية، ولكنها لم تنسه حيفا ذات الطبيعة الديناميكية. ويورد معلومات كثيرة وتفاصيل دقيقة عن حارات وأراضي برقة وبيئاتها النباتية والحيوانية وذكريات له في حضن عائلته ومجتمعه.

ولكونه رجلا ليبراليا من مولده ومن تربيته البيتية والوطنية، فإن فهمه للعيش المشترك مسألة بديهية متأصلة في نهج حياته ايمانا منه أن الاختلاف في الرأي والمعتقد اي كان لا يفسد للود قضية، ولا يفسد الصداقة والتعاون في سبيل قضية مشتركة لكافة أبناء الشعب الفلسطيني، وكأنه بهذه النماذج التي يأتي بها من حيفا ومن برقة للعيش المشترك والتآخي بقوة بين مسيحيي ومسلمي هذه الأرض يصرخ في وجه مروجي الطائفية البغيضة التي أصبحت ديدنا في عصرنا الحاضر في ظل ما يسمى بـــ “الربيع العربي”.

حيفا نموذج للعيش المشترك والتعاون على أساس احترام الإنسان كإنسان، قبل مهنته ومعتقده وتوجهاته السياسية. هذا هو سر هذه المدينة في جمعها أبناء فلسطين من كل حدب وصوب، وأيضا في جمع أبناء العروبة من الأقطار المجاورة وحتى البعيدة.

يقول عنه والده عبد الفتاح مسعود”النكبة جعلت ابني أكبر من عمره”، وهذه العبارة بكل بساطتها تصف لنا حال الطفل الفلسطيني في عام 1948 حين سلبت منه طفولته وانطلاقته في الحياة، فكبر بسرعة ليجد نفسه رجلاً يريد استعادة فلسطين وحيفا في مقدمتها. وإن كانت العبارة المذكورة موجهة إلى سميح مسعود إلا أنها أيضا عكست حالة قائلها، الذي بدأ رحلة البحث عن أصدقائه ومعارفه من أبناء برقة وطبريا وحيفا في دمشق وبيروت وطرابلس… حبًّا في الإطمئنان على كل واحد منهم، ورغبة جامحة في نفسه من أجل الاحتفاظ بصورهم المتخيلة في ذاكرته.

وسار سميح مسعود على النهج ذاته في البحث عن أصدقائه، ومن هم؟ مواقع حيفا وشوارعها وأزقتها وطرقاتها وناسها. يكتب:”ساعدني البحث عن الجذور أن أكتشف أن أفضل نص يمكنني كتابته، هو النص المغمس بحروف تحفظها الذاكرة عن حيفا وبرقة تتداخل فيها أحداث طفولتي الباكرة بأحداث الوطن، وتتداخل سنوات عمري بزمن مضى قبل النكبة، الحادثة بالحادثة والسنة بالسنة، أسجلها في نصوص متداخلة في إطار ثنائية تجمع الآنا والآخر في شريط صور ومعان مغبرة بتراب الوطن”.

هذا التوجه كاف لتأكيد حضور الذاكرة في شريط حياته، وتحد منتصر على الزمن بفعل بقاء الأمكنة وناسها حاضرين في المتخيل وفي النص.

وبنظري أن هذه السيرة منعطف جدي في إعادة تشكيل المدينة الفلسطينية المغيبة وفق أسس حاضرة في الذاكرة. وأن السيرة الذاتية فيها عبارة عن وثيقة تاريخية قوية المعاني والعبارات والتوجهات، وكأنها تقول لأبناء المدينة ألا تنسوا مدينتكم، وتقول للعتاة لن ننسى مدينتنا وستبقى حيّة في وجداننا وذاكرتنا، وأن حضورها الراهن في هذا الكتاب من خلال حروف وكلمات وفقرات تمهد لما هو آت.

شكرا لسميح مسعود لأتاحته الفرصة لنا نحن أبناء حيفا وغيرنا من ابناء الشعب الفلسطيني التعرف على مدينته من خلال ذاكرته وعينه والصور  العالقة في مخيلته والتي عجز الزمن عن محوها.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>