من سيرحلون غدًا؟/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي| أفكر فيهم الآن… حين اخط هذه الكلمات […]

من سيرحلون غدًا؟/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

أفكر فيهم الآن… حين اخط هذه الكلمات، قليلة الجدوى على الاغلب.. حين أنسى فاصلة هنا، او علامة للتعجب هناك.. حين يكتمل النص المنشود ويذهب هبر هواء لا يُرى للصحيفة: أفكر فيهم، اعمل ما استطعت على استحضار ملامحهم.. كيف تكون هي الان، هل تشبه ملامحنا، نحن الذين قد لا نموت غداَ صباحاَ، نحن الذين لن تهوي القذائف فوق بيوتنا المتواضعة وتغتال عيشنا.. نحن الذين لن تحز سكاكين القتلة عروقنا… هل يشبهوننا فعلا.. يحلمون مثلنا، يأكلون، يشربون، يذهبون، ثم ينامون مثلنا، وهل يعرفون، كما نعرف نحن الان، بانهم سيرحلون غدأ، سيتركون الارض إلى جوفها، إلى قبر احاديَ أو آخر جماعي، وأن غداَ: في نشرة الاخبار قبل الظهر وبعده.. قبل المساء وبعده، سنعرف انهم رحلوا.. سنسمع الارقام ونرى القليل من الصور، كما سمعنا وشاهدنا على امتداد الأشهر الطويلة الماضية، كما اعتدنا على الايقاع عينه، على الارقام تهوي من مكان ما،على صور تجيء من أمكنة تعلمنا جيدا ترتيب حروفها: حمص وريفها، حلب وريفها، حماة وريفها، دمشق وريفها، درعا وريفها.. إدلب، الزبداني، اللاذقية، أحياء الميدان والحجر الاسود ومخيمات فلسطين واليرموك.. إلى اخر الجغرافيا الشامية الحزينة.

هي الارقام الكبيرة والصور القليلة، ولا شيء أكثر.. لا شيء سوى قدراتنا العجيبة على التعايش اليومي مع هذا الطقس المتواصل الثقيل: مئة قتيل اليوم.. اكثر أو اقل غداَ… اكثر بكثير البارحة.. اكثر او اقل.. أكثر أو اقل، ولا شيء أكثر.. لا شيء سوى انتظار المزيد اليوم، او الاقل غدا، في حين تحافظ الارقام والصور على اداء مهماتها التي اوكلت بعناية شيطانية لها، حيث عليها استدعاء الحد الادنى، المقيول، من السخط لدينا… من الصراخ.. الحزن.. التعاطف عن بعد، ثم الصمت.. لا شيء غير الصمت، وانتظار الفادم الحتمي من الارقام والصور.

وها نحن ننتظر..

هكذا كان علينا دائما أن ننتظر، تاركين من سيرحلون اليوم او الغد لاسباب رحيلهم، دون معرفة الكثير عنهم.. ملامحهم، متاعبهم اليومية، تلك العادية التي كانت، قبل قليل، تشبه متاعبنا، ولم تعد اليوم تشبهها او تتجلى مثلها، وكيف لها أن تشبهها، أو حتى تقاربها تفاصيلا وعنفا، ففي حين سياتي الصباح غداَ، ونشرب نحن قهوته الاثيرة ونقرأ ما سنقرأ من صحفه الكئيبة: سوف يأتي الصباح غدا هناك، ويكون عليهم، هناك، مواجهة اسباب رحيلهم المبكر وغير المفهوم تماماَ، وعكس الانساني تماماَ، وما قبل البدائية اسبابه تماماَ تماماَ..

من سيرحلون غدا، سيرحلون، سيدخلون مملكة سريالية للارقام والصور. قد نستدعيهم في وقت قادم ما إلى تظاهرة هنا او اخرى هناك، قد نحولهم في القصائد والاغاني إلى فكرة جذابة عن التمسك بالحياة ورفض الموت.. وقد.. ولكنهم سيرحلون.. تلك هي الحقيقة الوحيدة الجاثمة في البعيد.. في ذاك البعيد القريب، ولا شيء اكثر..

الان.. حين افكر فيهم، وأعمل على استحضار حضورهم البشري وليس الرقمي فقط، تخونني لغة كنت املكها وأعرف ما اريد لها ان تقول.. تخونني مخيلة السامع وقدرتها الطبيعية على التخييل، فلا أعرف كيف سأكمل هذا النص، وماذا عليً أن استحضر أو اقول.. ولكني أحاول.. استدعي، من هناك، صورة شخص ما، ملامحه، ما قد يقوله لنفسه الان، ما سيراه حين تدخل الرصاصة صدره، وما يحس به حينها… قد يكون في مثل عمري اليوم، قد يحلم مثلي.. وقد يكون في عمر ابني ، وربما مثل ابني: يُعد احلامه لاسفار بعيدة ويطارد العادي من رغباته، ولا ينتظر، بين هذا وذاك، قذيفة الجيش البذيء وخناجر القتلة.. لا ينتظر موتاَ يجيء من على الاسطحة وظلام الازقة الفقيرة الغارقة، منذ عقود طويلة، في التعاليم الفاشية للعصابة القذرة..

أفكر فيه الآن…  فيها.. تلك الفتاة التي تستعد لفصل جامعي جديد وحلم جديد.. ولا تعرف الان بأنها الرقم الدي سنسمعه غداَ ونضيفه لارقام قديمة.. ثم نصغي، كما نفعل عادة، لهذا الصمت الذي اعتدنا على ايقاعه وصرنا، دون ان ندري، وربما ندري: عبيداَ له؟

من سيرحلون غداَ: سيرحلون… لن توقف هذي الكلمات رحيلهم.. لن توقف حملات الاعدام الميداني ولا التعذيب الفاشي في اقبية السفلة، لن تردً للاجساد الفتية ارواحها.. لن تفعل هذي الكلمات اكثر مما عليها فعله: أن تسير إلى نهايتها، إلى نقطة اخيرة خلف مفردة اخيرة، لارجع حينها… سنرجع حينها، إلى العادي من المشاغل والهموم وأنتظار نهاية هذا الرحيل الجماعي المرير: رحيلهم.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>