“أيام بيروت” يحتفي بميشيل خليفي

|عماد خشان| ميشيل خليفي مكرّم في “أيام بيروت” بمشاركة ج […]

“أيام بيروت” يحتفي بميشيل خليفي


ميشيل خليفي ومحمد بكري أثناء تصوير "زنديق"

ميشيل خليفي ومحمد بكري أثناء تصوير "زنديق"



|عماد خشان|

ميشيل خليفي مكرّم في “أيام بيروت” بمشاركة جريدة “الأخبار” ورعايتها. السينمائي الفلسطيني يحلّ ضيفاً على المهرجان اللبناني من خلال عرض آخر أعماله “زنديق”، الذي نال جائزة أفضل فيلم روائي عربي في “مهرجان دبي”، إضافةً إلى عرض باكورته “الذاكرة الخصبة” ضمن مواعيد “إرث السينما العربيّة”. كلما اشتقنا إلى فلسطين، لجأنا إلى ميشيل خليفي. أراني أُجالس السيدة رومية لتروي لي من ذاكرتها الخصبة، وأشارك مختار جليلي في عرس ابنه، أو أركب قرب مختار العائد إلى قريته، وأنظر معه من نافذة الحافلة إلى تراب الطريق الأحمر. أهي كاميرا ميشيل خليفي أم عين المسافر تجسّ الأرض كعاشق يلامس جسد حبيبته؟

يقال إنّ الخمسين هي نهاية عصر السؤال وبزوغ الأجوبة. لكنّ السؤال عند خليفي هو البداية والمنتهى. ليس لدى هذا السينمائي وقت للأجوبة. كعادته، يطرح سؤالاً ويمضي نحو آخر تاركاً لنا همّ البحث عن إجابة. وهذا ما نلحظه منذ المشاهد الأولى لـ”زنديق”. ينقص عنوان هذا الشريط آخر فرعي هو “سيرة ذاتية”. المُشاهد سيدرك أنَّ البطل “ميم” ليس إلا خليفي نفسه. صمت ميشيل خليفي ستة عشر عاماً، بعد فيلمه الروائي الأخير “حكاية الجواهر الثلاث” (1994)، تلاه وثائقيان “الزواج المختلط في الأراضي المقدسة” (1995) و”الطريق 181” مع إيال سيفان (2003).

في “زنديق”، قد تأخذك الغرابة منذ المشاهد الأولى. زوايا بعض اللقطات ومواقع الكاميرا تجعلنا نتوهم أنّ العمل أنجزه أحد المبتدئين، وما يزيد من هذا الوهم التقطيع المفاجئ بين المشاهد. لكنّنا أمام عمل وقّعه سينمائي متمكّن من الناحيتين الجمالية والتقنية. نحن هنا أمام حكايتين متوازيتين: الأولى حكاية يوم في حياة سينمائي فلسطيني عائد إلى وطنه. والثانية هي ما يدور في خلده أثناء تلك الرحلة. هنا، ندرك سبب ذلك التقطيع المفاجئ للمشاهد والسر وراء تلك اللقطات المائلة والزوايا الغريبة. إنّها زوايا الذاكرة أو الحلم. تماماً كما نرى في أحلامنا وفي الكوابيس مشاهد كأنّها التُقطت من مكان عجيب ونحن خارج المشهد وداخله في الوقت عينه. لعلّها مقاربة المخرج لطريقة تكوين مشهديَّات الأحلام.

رحلة “ميم” بين مدينتين تذكّرنا برحلات المحارب الأسطوري عوليس. وعوليس خليفي أقرب إلى عوليس جيمس جويس منه إلى عوليس هوميروس. تماماً كبطل الأديب الإيرلندي، يظهر “ميم” بطلاً مهزوماً ومن أرض محتلة ـــــ وإن كان بطل جويس يهودياً إيرلندياً ــــ فكلاهما يعاني الضياع نفسه والقلق الوجودي الذي لا يجد دواءً له وإن موقّتاً إلا بين ذراعي امرأة.

“زنديق” ميشيل خليفة ليس فيلم البطولات الوهمية. إنّه شريط يسأل كيف صرنا حيث نحن الآن؟

“ميم” المقيم في أوروبا يعود إلى فلسطين ليصوّر في رام الله فيلماً وثائقياً عن النكبة. ويؤدي دور “ميم” الممثل محمد بكري، الذي استطاع سبر أغوار الشخصية السينمائية ومن خلفها شخصية المخرج ميشيل خليفي. يسافر “ميم” من رام الله إلى الناصرة ليشارك في جنازة أحد المعارف. وخلال رحلته تلك، يتعرض، كما عوليس هوميروس، لإغراءات كثيرة تسعى إلى إبعاده عن خط رحلته. إلا أنّه يواصل سفره عبر دروب الوطن ومتاهات الذاكرة، وحبه لامرأة غير مهتمة بتلك المشاعر. حكايته مع تلك المرأة هي الحكاية الموازية لنهاره في فلسطين.

“زنديق” ميشيل خليفة ليس فيلم البطولات الوهمية. إنّه شريط يسأل كيف صرنا حيث نحن الآن؟ وإلى أين نمضي؟ قد يكون “زنديق” الاسم الحركي للثائر العامل بصمت، وللفنان الصادق الذي ينبذه الأقربون. هكذا، لا يجد “ميم” من يعطيه غرفة يبيت فيها بعدما عاد إلى بلده ليجد أنّ أحد أقاربه قتل شخصاً من عائلة أخرى، وأن عليه أن يختفي حتى لا يُقتل ثأراً. هكذا، يجول في سيارته من مكان إلى آخر. لكنّه لا يجد مكاناً للمبيت حتّى في فندق البلدة، حيث بائعات الهوى وجنود الاحتلال.

يجوب “ميم” المتعب الشوارع وليس معه سوى ذكرياته وكاميراه ليحتمي بهما في تلك الليلة العاصفة. وفي لحظات العزلة والخوف والقلق تلك، سيفتح “ميم” الكاميرا، ويعيد مشاهدة أرضه التي يقف عليها لكن مثل أي غريب يراها على شاشة أخباره المسائية. صور مُعقّمة، باردة وبعيدة. يحمل “ميم” أيضاً كاميرا الذاكرة، وصوراً، وخصوصاً تلك المرأة الحبيبة. نرى العاشقين معاً في أحد الشوارع صامتين، وإن كان في عيونهما كلام كثير، يعانقان الجدران ويحلمان، ويهمّ “ميم” بوضع طرحة رأس محبوبته. وفي أحد أكثر مشاهد الشريط قسوة، يدخل ميشيل خليفي ـــــ بحسّه السوداوي الساخر ـــــ رجلاً مخموراً إلى المشهد، ويتركه ويبول على المشهد كله! كأن المخرج لا يريد أن يسمح للمشاهد بلحظة حلم واحدة ولا بلحظة عشق، لأن العالم لا يسمح للفلسطيني بتلك اللحظة.

وهكذا يتجوَّل “ميم” في شوارع بلدته. وحين يصل إلى كنيسة فيها أكثر من سبيل ماء، يجدها قد جفت كلّها. هناك يلتقي عجوزاً ثملاً، ما عاد يشرب الماء منذ أن حرموه زوجته بعدما بال في السرير ليلة الدخلة. تبدو السوائل إحدى أهم التيمات في الشريط: الماء، والبول، والكحول، والدم…

يصل “ميم” إلى بيت أهله القديم في الناصرة. يجد هناك رجلين وطفلين من غزة يختبئون لأنهم دخلوا الأراضي المحتلة عام 1948 من دون تصاريح. يتفقّد بئر البيت فيجدها قد جفّت أيضاً. يجمع كل ما يجده من صور العائلة بما فيها صورة أمه وأبيه بملابس العرس، والأيقونات الدينية الممزقة، والصليب المكسور، ويحرقها كلّها، فيما يصيح الديك ثلاث مرات. في البيت، يصوّر مقابلة مع شبح أمّه أو ذاكرته لها أو حلمه بها. يعطيها مفتاح البيت ويسألها السؤال الأصعب في الفيلم. السؤال المعاكس لكل ما يسأله أي لاجئ فلسطيني لوالديه أو جديه. “لماذا بقيتم يا أمّاه، لماذا لم تنزحوا، لماذا لم يطردوكم؟”. السؤال المعاكس تماماً لما يسأله اللاجئ أي “لماذا خرجتم؟ لماذا لم تبقوا؟ لماذا أتيتم بنا الى هذه المنافي حيث الموت والقهر؟”.

تجيبه الأم. تقول له أن يبحث في البراد إن كان هناك أي طعام يحبه، تسأله أن يترك السياسة لأنّها لا تطعم خبزاً. تخبره أنّ العيب في أن يستمر في تعرية البنات في كل أفلامه، وتخبره أن الناس يهمّهم العيش لا الحروب، وأنهم بقوا من أجل أولادهم…

ينهض “ميم” من حلمه، ليجد نفسه وجهاً لوجه مع كومة كانت تحوي كلّ ما هو مقدس بالنسبة إليه، فيضع فوقها مفتاح بيته القديم، أقدس ممتلكاته. ثمّ يمضي إلى بئر بيت العائلة ويصرخ فيها “أنا من هنا ومن هنا ومن هنا”. يسمع صدى صوته فيضحك ويبصق في البئر، ويصفُق باب البيت القديم مرات عدة بغضب ويمضي في دربه من دون التفاتة إلى الخلف.

فيلم متقن وسجالي لميشيل خليفي الزنديق الأكبر الذي لا يرى قداسة إلا في الإنسان، ولا يعرف رسالة إلا في السينما. أمّا خلاص الرجل وطهارته، فلا يجد لهما هذا السينمائي سبيلاً إلا عن طريق المرأة. هذه المرأة التي تطلب من “ميم” العودة إلى بيت أهله ليكسر ألعابه، وترفض أن يحبها وفق شروطه بل تجبره على أن ينصاع لشروطها. يقول ميشيل خليفي إنّ المرأة هي ما يحوّل “ميم” من لاجئ وضحية إلى إنسان كسائر البشر.

في “زنديق”، يحاول ميشيل خليفي من دون أيّ خطابات ومواعظ، أن يجرّد الفلسطيني والعربي من أساطيره، ومن آلهة التمر التي يتعبّد لها. يسأل عنه كل الأسئلة التي تقضّ مضجعه، على طريقة أنطوان دو سان إيكزوبيري في “الأمير الصغير”، أو كما يقول الكاتب الفرنسي “عبر القلب وحده، تكون الرؤية صحيحة، كل ما هو مهم لا تراه العين”. هذا ما ينطبق على فيلم “زنديق”. شريط صنعه ميشيل خليفي بعين القلب، فخرج أقرب إلى لغة الشعر. “زنديق” ملحمة فرد ومأساة شعب.

(عن “الأخبار”)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>