جعفر بناهي داخل «الدائرة»

المخرج المتهم بـ«التآمر على الأمن الوطني»، حُكم عليه بالسجن ست سنوات، وبالصمت القسري لمدّة عشرين عاماً. ضربة قاسية لمسيرة أحد أبرز وجوه «الموجة الجديدة» في السينما الإيرانيّة

جعفر بناهي داخل «الدائرة»

مشهد من شريط «تسلّل»



|يزن الأشقر|

«يشهد التاريخ أنّ الفنان، هو العقل التحليلي للمجتمع. فالفنان، عن طريق دراسته لثقافة بلده وتاريخه، ومن خلال مراجعته ما يدور في محيطه، يشاهد، ويحلّل، ويطرح راهن المجتمع». هذا بعض ما سمعه العالم في مرافعة جعفر بناهي الدفاعية التي نُشرت أخيراً، بعد شيوع خبر الحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات. مرافعة تحمل من الأهمية ما سيجعلها تدرّس في تاريخ السينما، كمثال على دور السينمائي المثقف في الصراع من أجل التغيير.

وكانت الصحافة العالميّة قد ضجّت الأسبوع الماضي، بخبر الحكم القاسي على السينمائي الإيراني. لم تقتصر عقوبة صاحب «تسلل» على السجن، بل مُنع أيضاً من إنجاز أفلام طيلة عشرين عاماً (!)، ومن السفر خارج إيران، ومن التحدث إلى وسائل الإعلام. كما حُكم على زميله السينمائي الشاب محمد راسولوف بالسجن للمدة ذاتها. أمّا التهمة، فهي: «التآمر على الأمن الوطني، ونشر الدعاية السياسية المناهضة للنظام».

حكم يمكن أن نصفه بالقاتل، بالنسبة إلى سينمائي هو في أوج عطائه. يأتي هذا القرار كنهاية مأساوية لمعاناة طويلة بدأت صيف 2009. السينمائي الذي انخرط في التحركات الشعبيّة احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في إيران، اعتُقل مع ناشطين آخرين عند قبر نداء سلطان، إحدى ضحايا العنف المواكب للاحتجاجات. أفرج عنه للمرة الأولى، لكنّه مُنع من المشاركة في «مهرجان برلين السينمائي» في شباط (فبراير) 2010، قبل أن يُعتقل مرةً جديدة، ويُفرَج عنه في أيار (مايو) الماضي بكفالة، ويصادر جواز سفره… هكذا بقي مقعده فارغاً في اجتماعات لجنة تحكيم «مهرجان كان» الأخير. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مثل بناهي أمام المحكمة، ليصدر الحكم بحقّه في 20 كانون الأول (ديسبمر) الحالي.

في مرافعته، لم يكتفِ السينمائي الإيراني بالدفاع عن نفسه فقط، بل دافع عن كلاسيكيات السينما التي وصفت «بالفاحشة». كأنّنا به يتوجّه أيضاً إلى من يستغلّون كفاحه من منطلقات سياسيّة في الغرب أضاف: «أنا إيراني، وسأبقى في بلدي، وأرغب في العمل فيه. فأنا أحب بلدي، ودفعت ثمناً لهذا الحب، وأنا على استعداد لدفعه مرةً أخرى إذا تطلّب الأمر ذلك».

بناهي المولود في مدينة ميانة (شمال غرب إيران) عام 1960، تعرّف إلى الأدب والفن في مقتبل عمره، وخصوصاً أنّ والده كان رساماً. في العاشرة ألّف كتابه الأوّل، وشارك في أفلام 8 ميلليمترات، ممثلاً ومساعد مخرج. لاحقاً، خدم في الجيش، وأنجز وثائقياً عن الحرب الإيرانية العراقية، ثمّ درس الإخراج السينمائي في طهران، ليقف مساعدَ مخرج إلى جانب عباس كياروستامي في «عبر أشجار الزيتون» عام 1994.

باكورته في السينما الروائيّة الطويلة، جاءت عام 1995 بعنوان «البالون الأبيض». الشريط الذي أخرجه عن سيناريو لكياروستامي، كان له الفضل في إطلاق اسم جعفر بناهي على المستوى العالمي، كوجه صاعد في «الموجة الإيرانية الجديدة». وقد نال جائزة «الكاميرا الذهبية» من «مهرجان كان» عن هذا الفيلم الذي دوّن فيه بيانه الفني والسينمائي. تتبع بكاميرته رازيه ابنة السابعة، وهي مصمّمة على شراء سمكة ذهبية، قبل ساعات على رأس السنة الفارسية. ما يبدو كأنّه قصة عائلية ممتعة، تضمّن نقداً اجتماعياً لاذعاً، في إطار من جماليات الواقعية الإيرانيّة.

النقد الاجتماعي، طابع ينسحب على مجمل أعمال بناهي، بانتمائها إلى الواقعية الإيرانية الجديدة. لكنّ بناهي لا يؤمن بوجود خير أو شرّ بالمطلق، لهذا لا يمكن أن نجد شخصية شريرة نمطيّة في أفلامه. هذه الإنسانية في الطرح، لقيت صداها في مرافعته الدفاعيّة: «أنتم لا تحاكمونني فقط، بل تحاكمون معي سينما إيران الإنسانية. هذه السينما التي لا يوجد فيها إنسان جيد أو سيّئ بصورة مطلقة، والتي لا تخدم أحداً ذا قوة أو مال، ولا تدين أحداً أو تغفر له».

يرفض بناهي زجّه في خانة حصريّة كسينمائي «سياسي»، لكنّ مناهضته الحرب على العراق كانت واضحة، كما أنّه توجّه برسالة احتجاج على سوء معاملته مع مسافرين آخرين بطريقة مهينة، أثناء توقّفهم في مطار JFK في نيويورك. يومها رفض أخذ السلطات الأميركية لبصمته، ولصوره الشخصية، واعتُقل إحدى عشرة ساعة، في وقت كان فيه شريطه يُبثّ في الصالات النيويوركيّة.

الحكم على جعفر بناهي بالصمت القسري لمدّة عشرين عاماً، سيُستغلّ في «العالم الحرّ» للمضيّ في أبلسة إيران، وفق ثنائيّة الخير والشرّ التي يرفضها بناهي في أفلامه، لكنّ ذلك لا يعني أنّ كل تضامن مع هذا السينمائي الشجاع، يعدّ ضلوعاً في المؤامرة الاستعماريّة! هناك صراع أفكار، اختار فيه جعفر بناهي موقعه، وهذا حقّه المقدّس: «حق الفرد في الاختلاف»، كما قال في ختام مرافعته. هذا السينمائي الذي يملك شجاعة الدفاع عن أفكاره، يعطي درساً لكثير من الفنّانين والمثقّفين اليوم في العالم العربي.


فيلم داخل الفيلم

في حوار مع الناقد الأميركي دايفيد ويلش، يقرّ بناهي بأنّ أبطاله موضوعون دوماً في دوائر اجتماعية معيّنة، ويكون عليهم بالتالي دفع ثمن لدى تجاوزها، كما في فيلمه الثاني «المرآة» (1997). يصوّر فيه مينا التي تحاول أن تجد طريقها إلى منزلها وحدها، حين لا تأتي أمها لاصطحابها. لكنَّ الأحداث تأخذ منحىً ثورياً بعد ذلك، حين تنظر مينا إلى الكاميرا مباشرةً. يتضح لنا أننا نتابع «فيلماً داخل الفيلم»، ليصير المشاهد بدوره داخل الدائرة، محاولاً بصعوبة تمييز الخيط الرفيع بين الواقع والخيال. في «الدائرة» (2000) يتناول المخرج الصعوبات الاجتماعية التي تواجه المرأة في بلاده، فيما أفرد «الذهب القرمزي» (2003) لقضايا العدالة الاجتماعية والطبقية. أمّا «تسلل» Offside (2006)، وهو أحد أهم أفلامه، فيحكي قصة مراهقات يحاولن مشاهدة مباراة مؤهّلة لكأس العالم في إيران، عبر التنكر في ملابس رجال. والفيلم مستوحى من حادثة حقيقية، كانت بطلتها ابنة المخرج.

(عن “الأخبار”)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>