فيلم Week End: نقد عنيف للطبقة البرجوازية

… |بلال الصدر | مع استهلالية فيلم  Week End تتحدث […]

فيلم Week End: نقد عنيف للطبقة البرجوازية

week-end

مشهد من الفيلم

|بلال الصدر |

مع استهلالية فيلم  Week End تتحدث Corinne إلى صديقها Rolland عن موقف جنسي عارض وطارئ، يتخلله علاقة غير سوية، مليئة بالمحرمات التي تخالف الدين والأعراف. ولا بد أن نعرف أن كورينا وصديقها هما من المنتجات التي أفرزتها الطبقة البرجوازية عالية الثقافة، والتي يوجه لها غودار سهام نقده اللاذع في هذا الفيلم.

ونتوه في هذا الفيلم بين الهزلي والحقيقي: بين الحياة الواقعية والحياة الفيلمية (القص الفيلمي)، فاللقطه الأولى في الفيلم تمثل مشاجرة عنيفة بين سائقين، ثم مشاجرة عنيفة، أيضاً، بين كورينا وزوجها مع جيرانهم قبل البدء في رحلة نهاية الأسبوع. ويتابع الفيلم، بقسوة، هذا العنف الدموي القاسي، المحاط بشيء طبيعي من الهزلية، والذي، ربما، يطلب منا المخرج عدم تصديقه. تلك المبالغة ـ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ـ هي أسلوب غودار في النقد في هذا الفيلم.

إن الإدانة تبدأ عند الطبقة البرجوازية، التي لوثت العلاقات الجنسية الطبيعية بين البشر، ولكن هذا النقد يتطور، ليس تدريجياً بل عرضياً، ليصل إلى نقد المجتمع بكل ما يحمله ويحيطه من أفكار وأراء سياسية واجتماعية، وحتى دينية.

انحراف جنسي وصفي واضح، ثم مشاجرات متوحشة عنيفة بين أفراد عاديين ولكنهم مشبعون بالعنف، بوصفه مواقف عرضية تنم عن رعب المجتمع الذي نعيش فيه: المجتمع بطبقاته كافة، وليس فئة معينة منه. وأخطأ من قال إن الفيلم ينتقد المجتمع الاستهلاكي أو الطبقة البرجوازية مع وجود تلميحات كبيرة وعالية الوضوح إلى تَيْنًكَ الفئتين بالذات: المجتمع الاستهلاكي، والطبقة البرجوازية: لأن غودار يبحث عن الخلل التام، عن القيم المطلقة، ثم تبدأ تعليقاته الساخرة، التي تتوالي كثيراً في وتحفل بنفَس كوميدي أسود، والتي هي من خصوصية أسلوب غودار، لكي يعلق مرة: “مشهد من الحياة الباريسية”. ثم يبدأ مشهد هو من أشهر المشاهد، وأطولها، التي صورها غودار في حياته: مشهد الازدحام الطويل، الذي يتخلله كل شيء: أطفال يلعبون ويتقاذفون الكرة مع البالغين، سيارات شحن الحيوانات، أشخاص يلعبون الشطرنج على قارعة الطريق، ثم سيارات متدهورة هنا وهناك، ثم الأموات من جراء هذه الحوادث، الذين لا يلتفت إليهم أحد، في مشهد طولي ـ عمودي ـ طويل.

إن هذا المشهد يشير إلى السياسة، وتنوع المنتجات السياسية التي لم تؤدًّ إلى حل سوى الموت والدمار: مأزق الحضارة التي حبست، داخل منتوجها الصناعي، رعبَ الاستهلاك والفراغ.

وعندما يتخلون عن سياراتهم، فعلينا أن لا ننظر إلى المستقبل، فليس هناك أي حل أيديولوجي واضح ومتفائل، “موت الأيدولوجيا”.

وتتوالى الكنايات والرمزيات داخل عالم غودار الذي يبدو معقداً أكثر مع هذا الفيلم، بالذات، المتشابك والعنيف والمتطرف والمتشائم إلى درجة كبيرة: لأن الواقعية تتداخل مع الفيلمية عندما يقول البطل: “يا لهذا الفيلم، كل من نصادفهم هم أشخاص معتوهون: فهل نحن في رحلة داخل رحلة الآن؟ وهل تطورت هذه الرحلة إلى رحلة داخل النفس البشرية؟” أو عندما يصادف الزوجان شخصية أدبية خيالية (ربما تكون أليس، أي: أليس في بلاد العجائب) التي تتحدث عن الماضي، زمن تطور الحضارة بنفَس فلسفي عميق، فيقوم البطل بإحراقها، فتعلق زوجته قائلة:”هل نحن نملك الحق في إحراق حتى الفلاسفة؟” فيقول لها: “ولكنها مجرد شخصية خيالية”.

هنا، نحن في عصر انعدام الخيارات التي أدت إلى قلة الاحترام بين البشر. تكون كورينا وزوجها فير حاجة إلى توصيلة، وعند كل سيارة يوقفاها يكون لزاماً عليهما الاختيار إذا أرادا الركوب: فهل أنت من أتباع ماو أو جونسون؟ فإذا كنت من أتباع جونسون فأنت فاشي.

من الذي بدأ بالهجوم، مصر أم إسرائيل (الفيلم أنتج عام 1968)؟ فإن قلت: مصر، فأنت جاهل تستحق الشفقة.

إن نقد جونسون وإسرائيل، والنقد المبطن الذي وجهه غودار، على لسان أشخاص مجهولين عرضيين في الفيلم، ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، وللحضارة الاستهلاكية الأمريكية، التي اجتاحت حتى الكونغو، وأسلوب الإجبار على استخدام الجنس وسيلةً للعيش (كانت كورينا جائعة، وهناك شخص تلتقيه، عرضياً، في الفيلم وهو يقوم بالتهام شطيرة فيطلب منها أن تقوم بتقبيله حتى تحصل على لقمة)، كما أن إحراق أليس التي هي ليست سوى رمز للأدب والفن الأوروبي العتيق.. كل هذه الأفكار التقدمية تجتاح كل لقطات الفيلم، وتفك رمزياته وألغازه ـ بغض النظر عن تميز غودار، وخصوصيته التي تختلف، بالمنحى والأسلوب، وحتى بالعنف والتطرف.

إنها أفكار تقدمية تعبر عن نفسها في لحظات اندثار الحضارة، وفي ظل تكثيف الأعمال التخريبية، التي يقوم بها الإنسان، واجتياح الاستهلاكية، وغياب المعاملة الإنسانية بين البشر، والانحلال والفجور الذي أصبح لا يرتبط بطبقة ـ ولا أعرف إن كان غودار يقصد الطبقة البرجوازية، بالذات، ويتهمها بالانحلال والفجور ـ لذلك كان لا بد لغودار أن يستخدم هذا الأسلوب الصاخب والدموي والعنيف والمتطرف، ضمن رؤيته الخاصة، للتعبير عن هذه الأفكار: للتعبير عن تلويث الإنسان الفنَّ والموسيقى والأدبَ: تلويث الإنسان وتحريفه القًيمَ المطلقة.

إن الأفكار التقدمية في حاجة إلى ثورة، في حاجة إلى حل ثوري، وهكذا أتى الفيلم ثورياً في النمط والأسلوب، والأهم من ذلك، في طريقة طرح الموضوع والتعبير عن الأفكار. وفي النهاية يصب غودار جل غضبه على الطبقة البرجوازية: لأن نهاية الفيلم جاءت مشاهدَ قاسيةً وصعبة الهضم، لآكلي لحوم بشر وذابحي حيوانات بقسوة، وبطريقة صورت واقعيةً على الشاشة، لا يشكلون سوى الطبقة البرجوازية (نقد صريح وعنيف للطبقة البرجوازية).

وينتهي الفيلم على كورينا التي هي ليست سوى أحد مخلفات تلك الطبقة، وهي تأكل لحم زوجها، وينهي غودار تعليقاته بعبارة: “نهاية السينما” فيلم Week End ليس إلا كناية عن مفهوم كلي شامل، لا يشمل فقط المضمون، بل الشكل، أيضاً، تتخله رمزيات يصعب تفسيرها، وتحتمل الكثير من وجهات النظر، إلا أن النتيجة كانت أن هذا الفيلم من الصعب، بل من الصعب جداً، أنْ يحبه أو يتذوقه المشاهد العادي.

حقق غودار تحفته الرافضة هذه في زمن ثورة الطلاب الشهيرة، والتي تنبأ بها، أصلاً، في فيلمه “الصينية” (1967)، والتي كانت عام 1968 مع بداية إعلان وزير الثقافة الفرنسي، أندريه مالرو، إلغاء الدعم عن مركز الفيلم الفرنسي وخروج جان بول سارتر إلى الشوارع مشاركاً في هذه المظاهرات، إشارة إلى التضامن بين المثقفين والسينمائيين.

وكان فنانو الموجة الجديدة، التي يُعدُّها البعض بداية ولادة السينما الفرنسية، بأساليبهم وتضميناتهم السينمائية المختلفة، التي كانت تطالب بسينما جديدة تختلف عن السائد، وتحلق خارج السرب، بتقنياتها وتوجهاتها الفكرية، وفي مقدَّمَتهم تروفو، وألن رينية، وشابرول، ولكن غودار كان ملك التجديد في تلك الفترة، وفنانها الرئيس.

ولد غودار عام 1930 في باريس، وهو، أصلاً، من طبقة عالية: فوالده كان طبيباً مقتدراً، ووالدته كانت تعمل في قطاع البنوك، وهو سويسري النشأة فرنسي الجنسية، أنجز أفلاماً عديدة كبيرة في حياته، من أهمها: “لاهث” (1960)، الذي يُعدُّ بدايته السينمائية الحقيقة، وأثار سجالات نظرية وتطبيقية عديدة عن طريقة عمل الفيلم، وبخاصة اللقطة، وطريقة سرد الحبكة، وفيلم “بييرو المجنون” (1965)، ومن قبل ذلك حقق فيلم “ازدراء” (1963)، عن رواية “السأم” للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا، والممثلة بريجيت باردو، ويُعدُّ هذا الفيلم هو الأعلى من حيث القيمة الفنية التي حققها.

(عن “الدستور” الأردنية)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>