لم أعد أخجل بعد أن فعلتْه ماتيلد/ سليم البيك

|سليم البيك| الآن، وبعد الانتهاء من (ولحْوَسة) كوب النس […]

لم أعد أخجل بعد أن فعلتْه ماتيلد/ سليم البيك

|سليم البيك|

saleem-qadita

الآن، وبعد الانتهاء من (ولحْوَسة) كوب النسكافيه، قرّرت: سأعيد ترتيب بعض المفاهيم لديّ، بعض المسلّمات التي، كغيري، أرددها عن آخرين، مجهولين في معظم الأحيان.

اليوم صباحاً بدأ يساورني شك بدا غريباً أن يأتيني في مثل تلك الساعة، قبل تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ومن ضمن لحظات وساعات اليوم الأربع والعشرين، أتاني في اللحظات الأشدّ صعوبة على ذهني في التحرّك، أيّما اتجاه: اللحظات الأولى بُعيد استيقاظي حيث أجرّ بقايا النوم معي إلى عملي (ذهن متلبّد بذاته، وتكشيرة تقطع الرزق، يُرفقان بحظر للضحك أو الابتسام حتى للرغيف السخن).

خطر لي بأنّ أيّ حمق هذا الذي يدفعنا إلى تكرار أن الشيطان يكمن في التفاصيل؟ التفاصيل جميلة في كل حالاتها (أتمنى، غير متوقّع، ألا أشك في ذلك أيضاً يوماً ما)، لكن الشيطان قبيح (أعني كفكرة)، لطالما كانت له عندي هيئة شرشبيلية (نسبة إلى كرتون السنافر). سؤالي هو: كيف يُمكن أن يَكمن هذا القبح في ذلك الجمال؟ رغم أنّ السؤال الأهم الآن هو: ما الذي أتى بكل ذلك إلى ذهن لا يكاد يستوعب ما تراه عينان استيقظتا للتو، وهو على الأغلب ما زال نائمًا؟

audrey_tautou

أودري توتو. إنها التفاصيل!

بعد الأكواب الأربعة الممتلئة التي أشربها كل صباح وهي تباعاً: ماء، حليب (نعم ما زلت أشرب الحليب)، عصير، ثم بعد دقائق من وصولي إلى عملي أتفرّغ لكوب النسكافيه، لتمتلئ بطني فلا يجد ذهني مبرراً للاستمرار بخموله (عادته الصباحيّة)، فأتذكر مثلاً أني ليلة أمس سهرت على الفيلم الفرنسي “خطوبة طويلة جداً” لأحد أجمل المخرجين السينمائيين عندي وهو جان بيار جنيه، وبطولة إحدى أكثر الممثلات تناسقاً في ملامحها ورهافة في جسدها وإقناعاً في أدائها (بس بلاش)، هي أودري توتو.

يستمتع جان بيار جنيه في التقاط تفاصيل ذاتية في العادات والحالات النفسية الفردية والتي يبدو بأنها جماعية بقدر ما هي فردية/ذاتية/حميمة وربّما سرّية، ويفعل ذلك في معظم أفلامه ومنها “The Fabulous Destiny of Amélie Poulain: قدر أميلي بولان الرائع” و”Delicatessen: رهافة” و”A Very Long Engagement: خطوبة طويلة جداً”. يستمتع جان بيار في التقاطها ونقلها سينمائياً في لقطات وسياقات قد تبدو الأروع في التنبيه إليها (أي التفاصيل)، وهو المخرج الذي لا تُخفي مجمل أفلامه إعتمادها على التفاصيل اللحظية في بِناها وجمالياتها بقدر ما تعتمد على الأسلوب العام للإخراج والسكريبت.. وهو ما يعزّ وجوده عند مخرجين آخرين، وتتميّز رؤيته لتلك التفاصيل أكثر كلّما مثّلتها الحلوة أودري توتو.

“أميلي بولان..” هو سيّد كل الأفلام فيما يخص هذه التفاصيل، الفيلم الذي لا بد من مشاهدته لمرة ثالثة (قريباً ربما)، أتذكّر منه تفصيلين ذاتيين لوالد أميلي (أودري توتو)، أولهما عادته في نبش صندوق المعدّات ثم إعادة محتوياته إلى أمكنتها بتأنٍ فرح، وهو تماماً ما أفعله، حين أنبش بفوضوية منظّمة كل الكتب (أو الأفلام) التي لديّ، كأني أطمئن لحضورها جميعها ثم أعيدها (مبتسماً) إلى أمكنتها فُرادى، وذلك بكل عبثية ودونما مبرر، وكنت أخجل من التصريح بذلك قبل مشاهدة “أميلي بولان..”. التفصيل الآخر هو انحسار البول عند والد أميلي حين يقف في حمام عمومي ليتبوّل (الأميريكان سيستيم) وإلى جانبه يقف رجل آخر يلبي الحاجة ذاتها، ثم، وحين ينتهي الآخر ولا يجانبه أحد، ودونما أي قوى إرادية، تتدفّق الأمور وتتيسّر. يعجّ الفيلم بتفاصيل كثيرة وكأنه بني أساساً على التفاصيل، ولابد من مُشاهدة ثالثة للفيلم تخصص كتابة أخرى تتناول تفاصيله التي ستتكشّف أكثر مع كل مُشاهدة جديدة له.

لكني بالأمس فقط شاهدت “خطوبة طويلة جداً” ولفتت انتباهي إحدى عادات الفتاة ماتيلد (أودري توتو) والتي كنت –وما زلت- أمارسها معتقداً بأنني مبتكرها ومحتكرها وأنها تخصّني وحدي في هذا الكون، وأنني لو أخبرت أحداً بها لهزأ بي: عيب، قديش عمرك؟ ما عأساس عاملّي حالك مثقّف!

في لقطة وداع حبيبها وحالما تنطلق السيارة التي ستقله إلى مركز تجميع الجنود إبّان الحرب العالمية الأولى، تنطلق ماتيلد راكضة إلى منعطف عبر طريق التفافية لا تمرّ بها السيارة وتردّد لنفسها: لو أني وصلت قبل السيارة سيعود من الحرب سالماً، تضع هذا الشرط العبثي ثم تصدّق ما سيحصل تبعاً لشرطها، أكانت قد وصلت قبل السيارة أو بعدها. وفي لقطة سابقة أثناء تقشيرها للبطاطا، تشترط على القدر بأنها لو استطاعت نزع كامل القشرة بالسكين دون أن تنقطع معها، فإن حبيبها قد تمّ إنقاذه. وقبل ذلك في القطار تضع لنفسها/للقدر شرطاً آخر هو أنها لو وصلت في العدّ إلى سبعة قبل وصول جابي التذاكر إلى مقعدها أو دخول القطار النفق، لكان حبيبها ميتاً، وبدأت بالعدّ بإخلاص وببطء شديد. ولقطات أخرى تظهر التفصيل/العادة ذاتها التي قد تصل إلى حد الهجس عند ماتيلد. لقطات قد تفسّر حالة من العجز -ووعياً لهذا العجز- أمام القدر يقابله إصرار له منطقه الخاص/العبثي/الطفولي للمشاركة في صنع هذا القدر.

قبل مشاهدة الفيلم ليلة أمس كنت أظن بأني منفرد في هذه العادة، وكنت أخجل من التصريح بأني لا زلت أضع شروطاً عبثيّة لا علاقة منطقية/سببية بينها وبين نتائجها التي أفترضها، والأدهى بأني “غير ربّك” لا يقنعني بعدم صحة (أو إمكانية) الربط بين النتائج المفترضة وبين شرطها.

وفوق ذلك أتت من أهدتني الفيلم لتسألني أول ما تسألني عن الفيلم، عن هذا التفصيل بالذات، لأجيبها بحذر: آه حلو، كيف لَقَطه جان بيار.. هالعكروت! ثم تخبرني بأن الأمر ذاته يحصل معها، ثم تتحلحل الأمور معي بعد ترددٍ دام لثوان، لأقرّ لها إثر اعترافها بأنه كذلك الأمر ذاته يحصل معي.

(شِتْ! الفعل الكتابي يجرّ دائماً إلى البوح والاعتراف المجّاني)

أنحاز إلى التفاصيل حيثما كانت: في الأدب، في التشكيل، في السينما، وحتى في الموسيقى. وأرى بأن تجاورها وتراكمها مبرر أساسي لجمال القطعة الفنية مهما كانت، وجان بيار جنيه سيّد التفاصيل إن تحدّثنا عن السينما. فإمّا، إذن، أن يكون الشيطان الكامن في التفاصيل جميلاً، بل سبب أي جمال قد يتواجد في القطعة الفنية (أو ربّما أن الشياطين تتراقص في ذهن مخرج سينمائي كجان بيار أثناء صناعة فيلمه)، أو أن شياطين الفن غير شياطين الأساطير والأديان، أو أن مسلّمة أخرى لابد من اجتراحها فيما يخصّ الشيطان (كفكرة) وقبحه من جهة، والتفاصيل وهي إحدى المسببات الأساسية للجماليات في السينما والفنون الأخرى، من جهة أخرى.

(لو عرفتُ الإجابة قبل نشر المقال فإن نتائج التحاليل الطبية ستكون سيئة.)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. اسمع حبيبي سليم… اذا كنت مفكر حالك الوحيد يلي عنده هاي العادة فحضرتك غلطان!

    الصراحة؛ اعجبني نصك واعجبتني فكرتك… وشغلة ثانية: اشترطت على نفسي قبل ما اقراء مقالك (للآخر) اعمل فرصة عن القراءة وارجع بعد دقائق لأفحص اذا كنت سأكمل قراءتي… والنتيجة هذا التعليق :)

    نهارك سعيد يا سليم

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>