فيروز/ ضحى شمس

إخترقت قامة الشاب الصفوف الاولى والحراس الشخصيين الواقفين اسفل الخشبة على ميمنة وميسرة فيروز، رمى بساقه اليسرى لفوق ثم رفع جسده الى المنصة. دبّ على يديه مرة ثم وقف. خطا خطوتان وهو شاخص كالمسحور اليها، إخترق جدار الرهبة، ومد يده وسط دائرة الضوء. نظرت هي اليه متفاجئة. فركع على ركبة واحدة الا قليلا، مرتجفا، كمن لا تصدق عيناه ما يفعله جسده، أيركع؟ ام يبقى معلقا بعينيها المدهوشتين؟

فيروز/ ضحى شمس

| ضحى شمس |

إخترقت قامة الشاب الصفوف الاولى والحراس الشخصيين الواقفين اسفل الخشبة على ميمنة وميسرة فيروز، رمى بساقه اليسرى لفوق ثم رفع جسده الى المنصة. دبّ على يديه مرة ثم وقف. خطا خطوتان وهو شاخص كالمسحور اليها، إخترق جدار الرهبة، ومد يده وسط دائرة الضوء. نظرت هي اليه متفاجئة. فركع على ركبة واحدة الا قليلا، مرتجفا، كمن لا تصدق عيناه ما يفعله جسده، أيركع؟ ام يبقى معلقا بعينيها المدهوشتين؟
شخصت العيون غير مصدقة، امسك بيدها الاقرب، إنحنى وقبلها قبل ان تسحبها بلطف مرتبك لهذا الخرق غير المتوقع. تنشق الستارة خلفها للحظة لتظهر ريما من الكواليس وقد خفت، بردة فعل غريزية، لتدافع عن امها، تحميها. يخف الحراس اليه، فتتراجع. القاعة تمسك بانفاسها، كانها كلها، بالاربعة آلاف شخص تحت قبتها، هناك، الى جانب الشاب المغامر، تنجح في اختلاس لمسة من كفها. ثم تدوي عاصفة من التصفيق والصياح المستحسن. “صفر واحد”، يقول احد المستائين من التنظيم المتشدد، ثم يضحك. ينزل الشاب محاطا بالحراس الذين استردوا انفسهم من المفاجأة، فبدا وسطهم وكأنه لا زال يرتجف لما “أرتكب” للتو، ثم يفيض به الانفعال، فيبكي، وقد أخذ يقبل للحظات يده تلك التي امسكت بكفها، متشمما كالمسحور، ما افترضنا انه بقية عطر لا يصدق بقي عالقا قليلا هناك قبل ان يتبدد. كان ذلك قبل لحظات من انتهاء حفل فيروز مساء الجمعة الماضي. في الصف الاول كان هناك الجنرال ميشال عون والرئيس سليم الحص وآخرين..ولكن من قد يهتم بتلك التفاصيل؟. كانت تلك الليلة الاولى. قبل الموعد بقليل، نشطت الكتابات على الفايسبوك. الكثيرون كانوا يجهلون اين هو «ساحل علما» حيث يقع المسرح الذي يسمعون باسمه للمرة الاولى. فالمكان المقصود مبهم في رؤوس الكثيرين، نظرا لأن ساحل علما اشبه بمجرد اوتوستراد يعبره المرء المتجه من بيروت الى الشمال او العكس. وبالرغم من “غرابة” المكان للكثيرين، لأسباب غريبة بدورها، فأن 4 آلاف شخص زحفوا، بسياراتهم الى المسرح الجديد الذي شيده جوان حبيش، رئيس بلدية جونية السابق، والذي كما قيل اقسم ان لا يفتتحه الا بحفل لفيروز. وحين نقول زحفوا فإننا نعني تقريبا ذلك. هكذا استغرق الوصول من بيروت الى مفرق مسرح “بلاتيا” ساعة، ومن المفرق نفسه الى المسرح البعيد أقل من نصف كلم ..ساعة اخرى، وسط فوضى سيارات ضاقت باركينغات المنطقة عن الاتساع لها. التنظيم كان عسكري الدقة. والتفتيش عن الموبايلات والكاميرات تقليديا، خصوصا ان المنظمين وزعوا منشورات على السيارات المتجهة الى المسرح مفادها ان تلك الآلات ممنوعة من الدخول الى القاعة، كي يفهم المعنيون ان عليهم تركها في سياراتهم. استغرق التأخير ثلاثة ارباع الساعة، ولكن ما هم؟ ما ان تطفأ الانوار، وتضاء في اللحظة ذاتها الخشبة حيث احتل افراد الاوركسترا المصغرة اماكنهم، يشير المايسترو هاروت فازليان بعصاه، فتنساب موسيقى «ناطورة المفاتيح»، ويتناهى الى الاسماع صوت فيروز قادما قبلها:”مسيتكن بالخير”. وإذ بالقاعة كلها تقف مصفقة لصاحبة الرداء الابيض المتلألي وهي تدخل دائرة الضوء. تنحني لعاصفة التصفيق وتقطع الهتاف بيقين صوتها وهي تغني”طلع القمر”، ثم “تعا ولا تجي” فاغنية”غيروا”. بدا البرنامج غير متوقع لجمهور «غير مغترب»، هناك من خاب ظنه، وهناك من غطى وجهه بكفيه تأثرا، ولكن ما همّ؟ تخرج فيروز ليغني الكورال المصغر (4فتيات و4شباب) من “بياع الخواتم” المسرحية لا الفيلم “بدنا الطرقات”، ثم “على مهلك”، ولكن بصيغة توزيعية موسيقية أقل دسما من تلك التي قدمت في لندن في اسطوانة «الى عاصي» او في بيت الدين. ثم غنوا “عتم يا ليل”، لتعاود فيروز الدخول وتغني”القمر بيضوي ع الناس والناس بيتقاتلوا”. الجمهور السوري الحاضر بكثافة هنا (من ملاحظة السيارات ذات اللوحة السورية) كان ينتظر رسالة ما في اختيار الاغاني، لا بأس من اعتبار تلك الجملة وما تلاها جزءا منها ثم ذلك المقطع الرائع «قالولي البلابل صبحية/ هالحقول وساع/ والدني بتساع/ نيال اللي بيرجع عشية». التصفيق كثيرا ما كان يقاطع السيدة، لكن..”كأنها قصيرة الغنية؟” تقول إمرأة ستينية خلفي لجارها، قبل ان تسرق انتباهها “على جسر اللوزية» ثم “طيري يا طيارة طيري”. «جماعة» الفيروزياديين لا يعجبهم هذا الإختيار. «الحق عليهم (زياد وفيروز). الواحد لما بيسمع «ايه في امل» ما بيعود ينبسط كتير من طيري يا طيارة، خلص». يقول احدهم، ولكن، ماهمّ؟. تخرج ليغني الكورال”خلوها بكرة بتفرج» من مسرحية “الشخص”. ثم «عايشة وحدا بلاك»، تعود فيروز لتغني «دوارة» من «سفر برلك» ثم تغني مع الكورال مشهد ختام «البعلبكية» «لوين؟ رايحين» معطوفة على «تلال الزراعين» و «مضوية»، قبل ان تحل الاستراحة. جمع من المعجبين يناقش في الاستراحة ما ظهر حتى اللحظة من البرنامج. من كل مكان جاؤوا، السعودية، عمان، الاردن، العراق..وبالطبع سوريا. بعضهم حضر منذ الساعة الثالثة من بعد الظهر، عقدوا “اجتماعا” في احد المطاعم القريبة وتداولوا فيه اخر الأخبار. يقول بعضهم انهم احسوا ان الأغاني قصيرة فيرد «اصحاب الخبرة» ان ذلك بسبب إلغاء السيدة لأعادة لوازم الأغاني من جهة، ولأقتصار الفرقة الموسيقية على آلات أقل مما «يجب». تدخل الفصل الثاني بتلك الفكرة :هناك شيء ما كان ناقصا صحيح، بدت السيدة مستعجلة، كان ذلك الشعور يزداد مع تقدم البرنامج. وبموسيقى مقدمة نزل السرور الاولى، افتتح المايسترو القسم الثاني من الحفل، بل على الاصح ببضع نقرات على البزق، ما ان سمعها الناس حتى هتفوا باسم زياد. كأن الآلة مرتبطة باسمه، بعد ان ارتبطت باسم والده. «البزق للناس العود للبلاط»، هذا ما علمه عاصي لزياد. وبترحيب خارج عن المألوف، استقبل الجمهور في ليلتين متواليتين اولى نوطات”ايه في امل”، ما يؤكد ان جمهور زياد وفيروز يكسب على الارض مع الزمن. ثم تدخل فيروز بفستان أصفر ذهبي متلأليء، وتبدأ الغناء الى ان تصل لذاك السؤال «في امل؟ ايه في امل». تغمر الاكف الوجوه تأثرا. تمس الأغنية الطالعة من”ملل” القلوب التعبة، تتأوه القاعة وتقف مصفقة. ثم، يضرب زياد من جديد في «صباح ومسا»، وتتم فيروز نعمتها علينا فتغني له «حبيت ما حبيت ما شاورت حالي». كانت القاعة قد تحولت الى جسد واحد يترنح طربا وتصفيقا، في الامام، لم يمنع المكان المتقدم الصبية من الوقوف والرقص مكانها بين الجالسين، تخرج السيدة بعدها، واذ بفتيات الكورال يغنين «يخزي العين» ثم «شواطينا» ثم «مراكبنا ع المينا»، تدخل هي باغنية «فايق ولا ناسي» (توزيع زياد 2003 بيت الدين) تغني موال «لروح بين الشمس والفية»، فتشتعل القاعة تصفيقا لكلمة «بلادي»، ثم تغني «يا مغزال». ما ن تنتهي الأغنية حتى تمسك فتيات الكورال كل منهن بدف، واذ بفيروز تغني موال”كانت على هاك العريشة تتكي”،ثم تلتفت خلفها وتأخذ بدورها دفاً. وان كان جمهور الست «من دون دف بيرقص» فكيف ان كان هناك دف تمسك به فيروز شخصيا؟ هكذا جننت العازفة جمهورها، خصوصا وان حركة النقر بثت في جسدها الذي كان في وقفة «ايقونية»، حرارة الحركة، فتحولت القاعة جسدا واحدا واقفا يصفق على ايقاعها ويتواطأ معها على هذه اللعبة الممتعة التي بثت الابتسامة واسعة على وجهها، وفي مكان ما من الصفوف الامامية، وقف رجل يلوح بعصا، كان يتوكأ عليها عند دخوله، برشاقة الطرب. تصل الى مقطع «وما دام الليل سكوت وبعدك بتحن، ان ما سهرنا ببيروت منسهر بالشام»، فتقف القاعة عن بكرة ابيها،تصفق وتصرخ، فاضحة الحضور السوري الكثيف هنا. من هنا لم يعد احد تقريبا الى كرسيه. بقي الجميع واقفا يغني معها “عليّ علّي”، تنحني لهم منسحبة فيأبون الا ان تعود فتعود مغنية “جينا لحلال القصص تيحل قصتنا”، ثم تخرج فيستدعونها مطولا لتعود وتغني «ال» أغنية الأخيرة «بكرة برجع بوقف معكم». هنا، تخترق قامة الشاب الصفوف الامامية. يتسلق المسرح ويركع ربما على ركبة واحدة مرتعشة امامها، يقبل كفها القريبة، ثم يولي هاربا كسارق النار، بذكرى سيقبض عليها مشتعلة الى الابد.

عن “الأخبار” اللبنانية

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>