حراس البهجة.. ملوك المهرجانات/ أحمد ناجي

موسيقي المهرجانات لن نجدها على القنوات الفضائية، ولا في المحطات الإذاعية، كما لن تجدها على شرائط كاسيت أو اسطوانات ولا يبدى فنانوها أدنى اهتمام بالدخول في عالم سوق الإنتاج الموسيقي والغنائي.مع ذلك في كل فرح تقريباً في مصر أصبحت موسيقي المهرجانات عنصراً أساسياً، وأصبحت في فترة قصيرة مُرادفاً لبهجة المصريين. هى خليط من الموسيقي الشعبية القاهرية والموسيقي الإلكترونية الغربية مع إيقاعات موسيقي “الراب” العربية.

حراس البهجة.. ملوك المهرجانات/ أحمد ناجي

أحمد ناجي يحاور "السادات" عند طاولة البلياردو المقدسة لدى عم فتحي | تصوير: عمر مصطفى

| أحمد ناجي* | 

نجلس على مقهى “زهرة السلام” في مدينة السلام ومع ذلك يعرفه سُكَان المنطقة بمقهى الزلزال. يشير “السادات” إلى بركة مجارى تغطى الشارع كله أمام المقهى ويقول ساخراً:

-زى ما أنت شايف عندنا هنا مناظر طبيعية جميلة أوى.

نضحك. يتدخل علاء فيفتى موضحاً: “الشارع كله كان مرصوف حتى نهايته، وكان منظم ومرتب. فجأة الحكومة من حوالى بتاع خمس عشر سنين بدءوا يحفروا هنا، ضربوا ماسورة المجاري وسابوها كدا“.

اسأله: بيدخلو غاز ولا أيه بالضبط؟

يجيب “السادات”: بيدخلوا وخلاص المهم يحفروا طوال الوقت.

هنا مدينة السلام آخر محطات الخط الساخن لإنتاج موسيقي المهرجانات في مصر والذي يمتد ليشمل (عين شمس، المطرية، مدينة السلام).

موسيقي المهرجانات لن نجدها على القنوات الفضائية، ولا في المحطات الإذاعية، كما لن تجدها على شرائط كاسيت أو اسطوانات ولا يبدى فنانوها أدنى اهتمام بالدخول في عالم سوق الإنتاج الموسيقي والغنائي.مع ذلك في كل فرح تقريباً في مصر أصبحت موسيقي المهرجانات عنصراً أساسياً، وأصبحت في فترة قصيرة مُرادفاً لبهجة المصريين. هى خليط من الموسيقي الشعبية القاهرية والموسيقي الإلكترونية الغربية مع إيقاعات موسيقي “الراب” العربية.

موضوع هذا الملف الأساسي ثلاثة من فرسان البهجة في عالم موسيقي المهرجانات (السادات، علاء فيفتى، عمرو حاحا) لكننا نحاول من خلاله الاقتراب من الإيقاع الجديد لمدينة بحجم وفوضى القاهرة.

2005

خارج مدينة السلام. كانت الصحافة في القاهرة مشغولة بفتح باب الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية للمرة الأولى. والجدل الفني يتزايد حول هل يجوز اعتبار شعبان عبد الرحيم “فناناً” أم إفرازاً من إفرازات الانحطاط الاجتماعي. كان هناك المدونات وجيل غامض ينظر الكثيرون له باستهانة.

في مدينة السلام بعيداً عن كل هذا كان “علاء فيفتى” ينظر إلى مياه المجاري التى تتكَاثر كأنها كائنات حية تتناسل وتنتشر في شوارع مدينة السلام. الرطوبة تأكل المباني التى أعدتها على عجل القوات المسلحة بعد زلزال 92. يتحرك “فيفتى” وسط كل هذا وهو يستمع إلى أغاني أحمد عدوية وفنانى الراب العالميين في ذلك الوقت كان “ايمنيم – Eminem” الأبيض الذي يغنى موسيقي الأفارقة الأمريكان ويحقق نجاحاً أكثر منهم كلهم ظاهرة فريدة في كل أنحاء العالم.

“فيفتى” لم يكن مشغولاً بالموسيقي فقط بل بالسينما والتمثيل. هو حالة فنية ضائعة في متاهات شوارع مدينة السلام. حاول التمثيل ولو بأدوار صغيرة في بعض الأفلام السينمائية لكنه لم يتحمل المناخ المتسلط الذي يمارسه المخرج على مؤدى الأدوار الصغيرة.

ترك موقع التصوير وفي ذهنه يدور خليط الموسيقي المفضلة عنده. أحمد عدوية مع إيقاعات الراب الذى بدأ في ذلك الوقت ينتشر عربياً وظهر له نجوم على الانترنت والهوامش الثقافية لا التلفزيون أو السوق الرسمي. لكن الراب العربي الذي بدأ ينتشر في ذلك الوقت كان يعتمد على توظيف إيقاعات غربية يتم أحياناً تحميلها من على الإنترنت ثم إعادة توزيعها مع تركيب صوت المغنى عليها لتخرج في النهاية عملاً متكاملاً بكلمات عربية لكن تظل الإيقاعات غربية.

ما كان يحلم به “فيفتى” أمر مختلف تماماً كان يريد تفتيت الموسيقي الشعبية تجريدها من كل الحُلي والزخارف والآلات الشرقية مع الحفاظ على الروح ثم صب هذه الروح في إيقاع قوى وعنيف.

التجربة الأولى.

ذهب “فيفتى” إلى أحد أصدقائه الذين لديهم خبره في مجال الكمبيوتر وبرامج الهندسة الصوتية. على جهاز كمبيوتر منزلي تمت صناعة أول أغنية تندرج تحت ما سيعرف بعد ذلك بموسيقي المهرجانات. الأغنية كانت بعنوان “مهرجان السلام“.

مديح طويل لسكان مدينة السلام، رجالتها وشبابها، جدرانها وشوارعها التى لم تتوقف الحكومة حتى اليوم عن الحفر أسفل منها وكسر مواسير المجاري ومياه الشرب مخلفة مستنقعات تتكاثر في معظم الشوارع.

عم فتحى

في المرة الأولى التى قابلت فيها السادات في مدينة السلام أخذني إلى “عم فتحى”. بدا أنه لن يكون مُستريحاً في الحديث على مقهى زهرة السلام. وحينما وصلنا أدركت لماذا سيبدو مستريحاً أكثر لدى عم فتحى.

لا يتجاوز سن السادات الخامسة والعشرين. في أى مكان على أرض جمهورية مصر العربية هناك عم فتحى بالنسبة له ولجيله.

يتكون مكان عم فتحى من طاولة “بينج بونج” تعلوها تعريشة خشبية. غرفة صغيرة تحتل الجزء الأكبر من مساحتها طاولة بلياردو. ثم جهازا تلفزيون يتصل كل واحد منهما بجهاز ألعاب “بلاى ستيشن”. بسبب التطور التكنولوجى في العقود الأخيرة تغيرت أماكن الترفيه التى يقبل عليها الأطفال والمراهقين. لم يعد اللعب في الشارع كافياً. وظهرت ما يعرف بصالات “الفيديو جيم” البسيطة. في كل منطقة سكنية في مصر لا بد أن يوجد مكان مثل عم فتحى، وإن كان مستوى شاشات التلفزيون والألعاب الموجودة يتغير على حسب المستوى الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.

بينما السادات يسحب الكراسي ويسألني إذا ما كنت أرغب في بعض الشاى ويتحرك في المكان كأنه في منزله. يأتي بعض الأطفال يحادثون عم فتحى: “عم فتحى عايزين نلعب ربع ساعة بينج“.

يأخذ عم فتحى منهم المال. ثم يسحب سيجارة من علبة السادات “مارلبور أحمر”. في البداية يبدو مندهشاً لوجود صحفي ومصور في مكانه يجرون حديثاً صحفياً مع واحد من الشباب الذين يعرفهم منذ كانوا صغاراً. يأتي أحد الزبائن، ألمحه يشير نحونا وهو يقول:

-شفت الواد السادات هيظهر في التلفزيون.

حينما يطمأن لنا وتمتد الجلسة قليلاً، يأتى عم فتحى ليجلس جوارنا يقول لى:

-”السادات دا مجنون، وهو صغير كنا بنسميه المجنون. مكنش بيعمل حاجة غير المزيكا والرقص. كان أحسن واحد بيرقص في مدينة السلام“.

 

علاء فيفتى| تصوير: عمر مصطفى

الرقص

يوضح السادات عالم الرقص في الأفراح والموسيقي الشعبية قائلاً: “الرقص عندنا نوعين جماعى، وفيه يكون الشباب أحياناً جماعات مدربة ويعملون في فرقة محددة مع أحد الفنانين الكبار. أما النوع الثانى فيكون فردى. وأنا كنت أحسن واحد في مدينة السلام يرقص فردى، لكن زمان بقي.. دلوقتى الواحد كبر“.

خطوات وحركات الرقص الفردى في موسيقي المهرجانات هى خليط مركب وجديد بين “البريك دانس” والرقص الشعبي واستعراضات اللعب بالأسلحة البيضاء. في بعض الأفراح والحفلات يحكى السادات عما يمكن وصفه بالمبارزة بين راقصين.

يرقص الاثنان في مواجهة بعضهما وقدرة الراقص تنبع من تمكنه من “تثبيت” من يرقص أمامه، بالإشارات الجسدية والحركة والسرعة يتم هزيمة الخصم والتنكيل به في إطار رمزي وودي بين الطرفيين في الغالب.

الرقص في عالم المهرجانات ليس أداة تعبير فقط بل جزء من الاستعراض. الراقص يتحمل بشكل كبير مسئولية تحريك الجمهور وبث الحماسة فيه ودفعه للرقص.

فيفتى يقاطع شرح السادات ويقول: “يا سلام لو الفرح فيه شباب من الألتراس“.

جزء كبير من جمهور وروابط الألتراس خصوصاً ألتراس الأهلى والزمالك يتمركز في مناطق الخط الساخن (مطرية- عين شمس- السلام). وبحكم الروابط الأخوية بين أعضاء هذه الروابط فهم يحضرون أفراح بعضهم البعض جماعات. وتكون الأفراح فرصة لعرض الاستعراضات والتشكيلات الجماعية التى يقدمون مثلها العشرات في الملاعب.

 

العالمي

من الخارج يبدو عالم المهرجانات فوضوياً والعمل فيه غير احترافي. أدوات التسجيل والإنتاج شبه بدائية، وحقوق الملكية الفكرية تقريباً ليست موجودة حتى أن معرفة المؤلف أو المغنى الأول لأغنية ما أمر يصعب التوصل إليه أحياناً.

الأغنية ما أن تضرب في السوق حتى تصبح مشاعاً. يأخذها أى فنان آخر ويغنيها، بل أحياناً يتم تفكيك الأغنية أو لقط الجملة الموسيقية أو اللفظية الأقوى فيها وتركيبها على أغنية ثانية.

ينمو عالم موسيقي المهرجانات دون وجود شركات أو كيانات اقتصادية عملاقة تتحكم فيه. بالتالي فخطوات قانونية وروتينية كالمعروفة في عالم الموسيقي التجارية من تسجيل الكلمات والأغاني في الشهر العقاري أو عضوية هيئات كنقابة الموسيقيين أو الملحنين كلها أشياء ومصطلحات بعيدة عن عالم المهرجانات ولا أحد يهتم به.

لكى يحمى بعضهم نفسه من سرقة أغانيه يقوم بذكر اسمه في الأغنية، في معظم أغانى عمرو حاحا مثلا سوف نسمع البصمة الصوتية بصوت “الروبوت” في بداية كل أغنية “دى.جى. عمرو حاحا”. لكن حتى هذا لا يمنع من إعادة تدوير عمل أى فنان منهم من قبل فنان آخر. لينتج عمل آخر مختلف.

ربما تكون هذه الحالة من المشاع الإبداعي امتداد لتقليد عريق في عالم الأغنية الشعبية حيث كل أغاني الأفراح الفلكلورية التى أعتاد المصريون غنائها في الأفراح والمناسبات الاجتماعية لا نعرف من مؤلفها. لكن هذا لا ينفي وجوده. السادات أو العالمي كما يعرف فنيا ليس مغنياً فقط بل هو مؤلف الكلمات أيضاً.

السادات مع المايك- تصوير: عمرو مصطفي

بعدما اشتهر كراقص في عالم الأفراح والمهرجانات، اعتاد السادات النزول مع علاء فيفتى في بعض الأفراح، خطوة ثم الثانية كان يسمح له بمسك المايك ليبدأ صعود السلم من أوله ويمارس مهنة (النبطشى) مهمة الرد على المغنى الأساسي. وقتها كان يمارس السادات مهمتين كورال للمغنى الأساسي، أو موزع للتحيات والسلامات. النبطشى.. هو صدى المهرجان، رجل الظل.

بعدها يكتب السادات أول أغانيه (صحوبية جت بندامه). ستتحول الأغنية إلى حمى وستصبح في فترة بمثابة نشيد أساسي في كل سيارات الميكروباص، التوك توك، الأفراح، والمهرجانات..سيقول السادات:

لفيت كل البحور

راجع ضعيف مكسور

خلاص يا دنيا انسى حنانى

خلاص أنا هبقي واحد تانى

مش هأمن تانى لحد

واشهدوا يا ناس على كلامى

قلبي الحنين أنا شلته

بقلب ميت بدلته

أنا كنت عايش غرقان

ومدى للناس أمان

وبحب كل الناس

وطلعت أنا الغلطان

والدنيا ياما بتعلم

وجه وقتى وهتكلم..

وهسمعكوا الكلام..”

سيستمر نجاح السادات بعد ذلك ليصبح نجماً من نجوم الأفراح والمهرجانات الذين يكثر طلبهم، سيخرج من عالم المهرجانات ليؤدى أول حفلة له على مسرح الجنينة تحت رعاية مؤسسة المورد الثقافي، سيسافر أيضاً إلى لندن ليقدم أول حفلاته في أوروبا ليحمل بعد ذلك لقب العالمي. لكن مع ذلك ستظل جلسة عم فتحى مع الأصحاب وعلى رأسهم فيفتى وحاحا هى مكانه المفضل.

سيستمر السادات أيضاً في رفض لقب مغنى حينما ينادى به، يقاطعني طوال حديثنا موضحاً: “أنا مش مغنى. أنا مؤدى. قدرتي الحقيقية هى “رص” الكلام. لدى رسالة وأرغب في إيصالها للجمهور. حنجرتي ليست قوية ولم أدرس أو أتعلم الغناء


فرحة الصحاب

للشيخ أحمد برين والعجوز عمل مشترك أشبه بأوبريت كامل بعنوان “فرش وغطا”. الاثنان من أساطيرالمديح والغناء الجنوبي. عالم آخر منفصل عن عالم المهرجانات له قواعده وآدابه وقيمه. لكن الموضوع الأساسي “لفرش وغطا” هو الصداقة والسفر والرفيق قبل الطريق. نفس الموضوع يتكرر في أغاني المهرجانات.

في أغاني المهرجانات تتكرر عبارات “فرحة الصحاب” أو “هنرقص الصحاب”. يتوجه مغنى المهرجان في كل أغانيه لجمهور محدد يرمز له بالصحاب. يوجه التحيات في منتصف الأغنية إلى الصحاب والجدعان.

هل هناك رابط بين الاثنين؟ أم أن المنبع الثقافي البعيد للاثنين واحد؟

الصحوبية” والصداقة في عالم المهرجانات ليست فقط موضوعاً للغناء بل هى الرابط الأساسي بين كل العاملين في المجال. قيم الصداقة في عالم المهرجانات تعمل بمثابة دستور أخلاقي غير مكتوب لكن متعارف عليه وهى التى تجمع صناع أغنية المهرجان (موزع- كاتب كلمات- مغن- نبطشى- مهندس صوت) ببعضهم البعض.

الصحوبية أيضاً تربط المجموعة بالأماكن الجغرافية التى ينتمون إليها وتعزز من الأحاسيس الجماعية بينهم وبين المنطقة حيث يحتل الغناء عن المناطق المرتبة الأولى ضمن كل المواضيع التى نسمعها في موسيقي المهرجانات.

لهذا تتكرر في عالم المهرجانات الأسماء الثنائية والثلاثية من النادر أن نجد أغنية واحده تحمل اسم مغنى واحد بل في الغالب سنجد التوقيع “أوكا وأورتيجا”، “السادات وفيفتى”، “فيجو وحاحا”.

الأخير هو الاسم الأشهر في عالم المهرجانات وقصة الاثنين تجسد نموذجاً لتأثير الصداقة والصحوبية وتقلباتها على عالم أغنية المهرجان.

الدكتور

من عين شمس أتى عمرو حاحا من عالم بعيد عن الموسيقي والأفراح والمهرجانات. فحاحا بالأساس كان يعمل كمهندس صيانة لأجهزة الكمبيوتر. في زمن الألفين وستة انتشرت محلات الدقيقة ب 75 قرشاً مقابل الحديث في المحمول، أو تحميل أحدث الرنات مقابل جنيه على تليفونك المحمول.

يتحدث حاحا عن أول توزيع قام به: “بدأت في تعلم استخدام برامج معالجة الموسيقي والصوتيات، وكنت أقوم بتوزيع بعض المقطوعات كنغمات لرنات الموابيل. وزعت مَقطُوعة ذات إيقاع شرقي لكن باستخدام الموسيقي المميزة لبرنامج وندوز ووجدت انتشاراً كبيراً، بعدها بدأ بعض المغنين يأتون إلىّ بالكلمات ويطلبون توزيعها وتلحينها“.

تحول اسم عمرو حاحا في سنوات قليلة إلى علامة تجارية في عالم موسيقي المهرجانات، لا يبارز اسمه سوى موزع مدينة السلام الأشهر “فيجو”.

ساهمت في شهرة الاثنين الحرب الموسيقي التى جرت وقائعها بينهما، ذات مرة تورط حاحا في توزيع قطعة موسيقيه تحتوى على جمل هجائية لمدينة السلام، فما كان من فيجو ابن السلام إلا أن قدم أغنية أخري تهاجم حاحا وعين شمس. أثارت هذه الحروب الغنائية النعرات المحلية عند سكان المنطقتين السلام وعين شمس مما لفت الأنظار إلى حاحا وفيجو.

انتهت الحرب بصلح بين الاثنين. نتج عنه ألبوم موسيقي من سبع أغنيات شارك في إعداده حاحا وفيجو والسادات وفيفتى ووزه بل وظهرت المجموعة كاملة على مسرح الجنينة وفي عدد من الأفراح الشعبية بعد ذلك.

بينما يعرف السادات نفسه كمؤد للراب الشعبي. يقدم “الدكتور” نفسه كموزع شرقي ويصر على وصف الموسيقي التى يقدمها بأنها شرقية. يقول حاحا: “معظم شغلى يتم على “أرتام” وإيقاعات شرقية. بالتالي فأنا لم أخرج عن تصنيف الموسيقي الشرقية

حكاية ثورة

على مقهى زهرة السلام أجلس بصحبة السادات وعلاء فيفتى في انتظار “الدكتور عمرو حاحا” القادم من عين شمس. يأتى حاحا نشرب الشاى ثم نقف لنتجه نحو منزل السادات لاستغلال الوقت الذي تغيب فيه عائلته عن المنزل لتسجيل أغنية جديدة. في الطريق بين شوارع مدينة السلام نعبر بركاً متناثرة من المياه والمجاري. في أحد الشوارع الجانبية تنتصب آلة ضخمة وعملاقة تحاول سحب المياه الجوفية التى تهدد جميع المنازل بالانهيار.

بنيت معظم تلك المنازل بعد زلزال 92 على عجل كلها بنايات متشابهه وكلها تعانى من الانخفاض وارتفاع منسوب الأرض، النتيجة أنه للدخول أو الخروج من البوابة الرئيسية لابد من الانحناء.

في بيت السادات بمساكن مدينة السلام، يجلس عمرو حاحا أمام اللابتوب الذي يخرج منه سلك لسماعة كبيرة وسلك آخر لميكروفون يمسكه السادات وآخر يمسكه علاء فيفتى.

هنا الاستديو -إذا صح هذا التعبير- الذي يتم فيه صناعة معظم التسجيلات حاحا والسادات، ومعظم الأماكن التى يتم فيها صناعة موسيقي المهرجانات لا تفرق كثيراً عن هذا المكان. بالنسبة لشباب المهرجانات الموسيقي لا تحتاج إلا “الدماغ- الكلمات- الكمبيوتر- والموزع الموسيقي”. بعد ذلك يتم رفع الأغنية على الإنترنت ومنه إلى الشبكات الاجتماعية. أقل أغنية من أغاني المهرجانات معدلات تحميلها على انترنت تبدأ من 50 ألف مرة، وبعضها يكسر حاجز المليون.

حينما سافر السادات للغناء في لندن شعر بالضيق لتقديمه بصفته ممثلا لموسيقي مصر ما بعد الثورة، يقول موضحاً: “قلت لهم هناك، المزيكا التى نصنعها ليس لها أى علاقة بالثورة ولم نكن ننتظر تنحى مبارك لنقدم ما نفعله. نحن موجودون من أيام مبارك وسنظل موجودين بعده”.

بعد الثورة ظهرت الكثير من أغانى المهرجانات التى تحمل تلميحات سياسية أشهرها “يا حسنى سيبنى حرام عليك” و “A7A الشبشب ضاع”. لم تحمل تلك الأغانى توقيع أى من الأسماء المعروفة في عالم المهرجانات لكنها لسبب ما التصقت بالسادات، الذي فضل على مدار عام كامل الابتعاد عن كل ما له علاقة بالثورة. إلا مؤخراً حينما قدم مع فيفتى وحاحا أغنية “حكاية ثورة”:

نفسه يعيش عيشه هنيه

ظلموه قدام العالم وقالوا عليهم بلطجية

دايما بيجو ع الغلبان لو يسرق حق الرغيف

واللى بيسرق بالملايين بيقولوا عليه في زمنا شريف

النار في قلوبنا بتزيد.. بعد ما ضاع حق الشهيد

واللى يصرخ ويقول حقي.. يضربوه زى العبيد

كلام كتير عمال يتقال..

والنظام السابق شغال

فيفتى ووزة والسادات في الفرح - تصوير: عمر مصطفى


الحفلة والفرح

ليست أدوات إنتاج الموسيقي هى المختلفة في عالم موسيقي المهرجانات فقط بل الطريقة التى يعمل بها الشباب. في البداية يقوم “الدكتور حاحا” بتوليف الإيقاع الأساسي أو “البيت” ثم يبدأ السادات مع فيفتى في رص الكلام.

يأتى الكلام كما يقول السادات من مصادر متعددة، قد يكون موقف، فكرة تحوم حول رأسه، أفيه سمعه يوماً ما وأعجبه. بعض الأغاني تتم كتابتها كاملة أولاً، أحياناً تأتى الكلمات ارتجالية حينما يشعر السادات بأنه في الحالة الفنية. دعاني “السادات” إلى حضور أحد الأفراح في السيدة زينب أثناء الغناء فجأة ارتجل سلسلة من التحيات لأهل الأدب ولأخبار الأدب.

بعد تسجيل الكلمات يقوم حاحا بإضافة الحلى الموسيقية والمحسنات السمعية على العمل. في الحفلات والأفراح يقوم السادات وفيفتى بالغناء على الإيقاع الأساسي، بينما “وزة” على “مكنة الدى.جى” يقوم بتوليف إيقاعات موسيقية أخرى على حسب حالة الفرح والجمهور.

أما حاحا فحضوره في الأفراح والحفلات يكون للإشراف على العملية كلها. حاحا بتعبير السادات هو “رمانة الميزان” ودكتور المهرجان. في بعض الحفلات النادرة يقف حاحا بنفسه على “مكنة الدى.جى” ويقوم بلعب التوليفات الموسيقية من على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به الذي يمكن اعتباره بشكل مجازى آلته الموسيقية الخاصة.

رغم أن الأفراح الشعبية هى ما صنعت موسيقي المهرجانات وعالم السادات وحاحا وفيجو. إلا أن السادات يفضل الحفلات أكثر. يقول: “في الفرح أنا محدود على حسب المنطقة التى أغنى فيها، والأولوية ليست للكلام أو ما أغنيه بل لتوجيه التحيات للحاج فلان والمعلم علان. بعض الأفراح أيضاً تكون هادئة، الجمهور يكون جالساً ويرفض الرقص أو الحركة، في هذه الحالة يجب أن أغير مما أغنيه وأقدم أغاني فيها حكاية. فالجمهور الجالس ينجذب أكثر للأغنية التى تحكى حكاية أو موعظة ويشعر بها لأن كل واحد فيهم يتخيل أن ما أحكيه هو حكايته.”

 مؤخراً تم دعوة حاحا والسادات والمجموعة لإحياء إحدى الأفراح في قاعة بفندق فخم. رفضت إدارة الفندق في البداية دخولهم أو تشغيل موسيقي المهرجانات. المسئول عن القاعة قال لهم: “لا يمكنني أن أسمح لك بالغناء هنا، أنتوا كدا بتنزلوا لى القاعة وبيغنى هنا نجوم، لكن أنتم موسيقي بيئة.” في منتصف الشجار مع المسئول أمسك السادات بالمايك، شغل الموسيقي، وانطلق مغنياً ليشعل الفرح:

تانى تانى.. فيفتى وفيجو من تانى

تانى تانى.. فيجو وحاحا من تانى

اسمحى لى يا زمانى..

هغنى تانى تانى.. علشان دلوقتى جه أوانى

غنى السادات في الفرح. ولم يستطع مدير القاعة أن يفعل شيئاً أمام حماس الجمهور في القاعة.

اسأله:

-لكن في الحفلات بعض المسارح والأماكن تضع شروطاً على نوعية الكلمات التى يسمحون بها؟

يجيب السادات ببساطة: “صح أحياناً يحدث ذلك معانا لكن حينما نصعد على المسرح نقول كل ما نريده، ولا يهمنا.” بثقة يضيف “نحن لا نغنى أو نقول كلاماً من عالم آخر. ما نقوله هو حياتنا وما يدور في الشارع. ولا أحد يستطيع أن يمنعنا من أن نقول ما نريده. ولهذا السبب حتى الآن نرفض التوقيع مع أى شركة من شركات الإنتاج الكبيرة. لأنى إذا وقعت سيكون للمنتج الصلاحية أن يتدخل أو يعدل فيما نريد تقديمه بينما على الانترنت والمسرح نحن أحرار”.

قيم

جزء من أجواء بعض المهرجانات والأفراح الشعبية هو أنها المتنفس الترفيهي الوحيد لمئات الشباب بعيدين عن عوالم كافيهات تقدم القهوة “الاسبريسو” مع كعك الشيكولاتا، أو أندية ليالية تكلفة دخولها تتجاوز المائة جنيه. في الأفراح تحضر الموسيقي والرقص وأحيانا البيرة وأحيانا أخري الحشيش كجزء من فعاليات الحدث.

ألفاظ وقاموس الشقاوة جزء من كلمات أغاني المهرجان. بعض الألفاظ التى ترد في كلمات أغاني المهرجان تصنف كألفاظ خارجة لدى طبقات وشرائح اجتماعية أخري. بالرغم من أنها تغنى ويسمعها الجمهور بأريحية ويندمج معها في شوارع السيد زينب وأفراح القري في الفيوم والشرقية.

بمرور السنوات يصبح لدى السادات وفيفتى حساسية لدى بعض الكلمات يقول فيفتى: “في الأول كنا صغيرين وكنا أحياناً بنقول كلام فيه تسخين، لكن مع الوقت بقينا نركز في الكلام لأنه مش “رص” وخلاص. مقدرش أعمل زى ناس تانية وأغنى كلام لا أرضي أن تسمعه أختى أو أمى.

يضيف السادات: “الكلام لازم يبقي له معنى. وفي حاجات لا يصح أن أقولها. لا يصح مثلا بعد حادثة مثل بورسعيد أعمل أغنية أهاجم فيها بورسعيد علشان أكسب جمهور ألتراس الأهلى مثلاً”.

أثناء سيرنا في شوارع مدينة السلام يحادثنى السادات: “المنطقة هنا بعد الثورة بقت لبش، كل واحد معاه 300 أو 400 جنيه تلاقي ماشي “بفرد/مسدس” وعامل بلطجى. لكن احنا شباب محترمين والله.. اسأل علينا أى حد”. يدلل على كلامه قائلاً: “يعنى احنا مثلاً مش ممكن تلاقينا واقفين نشرب سيجارة في الشارع أو قصاد بيت حد، رغم أن أصحاب البيت ممكن يكونوا مش ممانعين بل أحياناً ممكن يكون مبسوطين”.

أضواء الشهرة

يسحب فيفيتى نفساً من السيجارة وبشكل سينمائي يقول: “أسمع الخلاصة، احنا المستقبل. الجيل الجديد دا كله مضروب بحاجتين؛ يا المخدرات يا مزيكا المهرجانات. أنا أعرف شباب جديد يلم أصحابه ويحبسوا نفسهم في الأودة بالثلاثة أيام علشان يطلع أغنية يقول فيها اللى جواه”.

ذات مرة أتى شاب ودق على باب منزل السادات فتح له فوجد الشاب الذي لا يعرفه يهديه بوستر كبيراً قام بتصميمه وطباعته للسادات وانصرف. في الأفراح الشعبية في السيدة زينب أو المطرية أو الزقازيق. خلف منصة الفرح يقف عشرات الشباب أعمارهم تبدأ من عشر سنوات وحتى السادسة عشر. في عيونهم تري الانبهار. بعضهم يمتلك الجرأة ويقترب من “وزة” على المكنة يحاول أن يفهم كيف تخرج كل طاقة البهجة تلك من “المكسر” ومكنة “الدى.جى”.

حاحا، فيجو، أوكا، السادات ومؤخراً شياطين الدخيلة بالإسكندرية. أسماء تشكل الموجة الأولى لموسيقي وإيقاع روح جديدة يزداد جمهورها يوماً بعد يوم..

البهجة وموسيقي المهرجان.. مستمرة.

*كاتب وصحافي مصري

عن مجلة “أخبار الأدب” المصرية

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>