توْنسة الوطن العربي/ علاء أبو دياب

في يوم لم ينشق فيه قمر ولا حمل فيه ملوك المجوس هدايا، جاء المولود الأهمّ من مواليد هذه الأمة، مولودٌ لا يحمل بُعداً أسطورياً ولا غيبياً، معروف النسب، أبوه شعبٌ أراد وأمه تونس، نزل باكيا ملطخاً بالدماء، مخاضه مؤلمٌ كما يجب أن يكون المخاض، ونطق في مهده كما ينطق الأنبياء: “لا عاش في تونس من خانها”

توْنسة الوطن العربي/ علاء أبو دياب



المخلوع زين العابدين يزرو البطل البوعزيزي. بعد أيام صار المحروق زعيما والزعيم محروقًا!

|علاء أبو دياب|

عندما بدأت الأحداث في تونس تابعتها، ولكنني لا أخفيكم أنني لم أكن أتوقع الكثير؛ فكما عودتنا الجماهير العربية في كلّ تحرك مماثل تبدأ فيه التظاهرات من قمة التصعيد وتخبو شيئاً فشيئاً، على عكس المنطق، إذ من المفروض أن يبدأ التحرّك متواضعاً ويزداد زخماً يوماً بعد يوم. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى عدم مساس المعارضات العربية بشكل عام -هناك استثناءات طبعًا- بشخص الزعيم الأول، إن كان ملكاً لمملكة أم ملكاً لجمهورية، وكأنه غير مسؤول عن أيّ خلل تسبّبت فيه حكومته أو كأنه سلطان عادل بحاشية فاسدة، وبالتالي لم أهتم كثيراً لتحركات الشارع التونسي على اعتبارها ثورة عربية على غرار “الشكوى منك وليك” كما يحدث في معسكرات الوطن العربي، الاثنين والعشرين.

لكن خروج الثورة التونسية عن المنطق العربي ودخولها نادي الثورات الحقيقية، ورفعها لشعارات تمسّ القائد الرمز الملهم، جعلتني أُدمن أخبارهم صاغراً، وأتابع جديدهم وقديمهم حاسدًا، وأرجو خالق تونس صباحَ مساءَ أن “يعيّشهم ويضلوا عَ سلامة” حتى نشهد وإياهم ولادة الثورة البِكْر في الوطن العربي بعد أن ظننا جميعاً أنّ الحيض والأمل انقطعا ودخل وطننا سنَّ اليأس ولم تعد هناك إمكانية بيولوجية ولا سياسية ولا إجتماعية ولا أمنية لمواليد جدد من هذا الرّحم.

وفي يوم لم ينشق فيه قمر ولا حمل فيه ملوك المجوس هدايا، جاء المولود الأهمّ من مواليد هذه الأمة، مولودٌ لا يحمل بُعداً أسطورياً ولا غيبياً، معروف النسب، أبوه شعبٌ أراد وأمه تونس، نزل باكيا ملطخاً بالدماء، مخاضه مؤلمٌ كما يجب أن يكون المخاض، ونطق في مهده كما ينطق الأنبياء: “لا عاش في تونس من خانها”. اثنا عشرَ مليون تونسيّ وُلدوا من جديد، ملايين العرب العقيمين حَلُموا بالأنجاب من جديد، ولد الأمل، نعم هذا هو اسم المولود الجديد.. أمل.

تونسي "يطلق النار" على الأمن من رغيف الخبز- تصوير: فريد دوفور، أ.ف.ب

أسموها ثورة الياسمين! لا أظن أنّ ثورة بدأت بجسدٍ يحترق تستحقّ اسماً رومانسياً كهذا! إنّ البوعزيزي لم يحرق نفسه عامداً، لم يحتَج إلى مادة حارقة، لم يكن يحمل عود ثقاب، كل ما هنالك أنّ الكرام إذا ما ذُلّوا  ذَلّوا، كل ما هنالك أنّ دماءه لم تحتمل فقره وذلّهُ فتحوّلت وقوداً، وعزّة نفسه لم تطِقْ هَوانه فأطلقت الشرارة. البوعزيزي كان وفياً للشعراء فحوّل قولهم فعلاً؛ ألم تعلمونا “سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى”؟ ألم تقولوا لنا للحرية الحمراء بابٌ؟ أولستم من قال عَنّا “حذاري من جوعي ومن غضبي”؟ البوعزيزي آمن بالشعر أكثر ممّن قالوه. ولا تقلقوا- فلا حاجة له بدعائكم بالغفران له، وفّروا صلواتكم لأنفسكم، البوعزيزي لن يكون مصيره النار فلا أظن أحداً سيغامر باندلاع ثورة في السماء.

ولتسمّوها ما شئتم: ثورة الياسمين، ثورة الصبّار، ثورة من لا ثورة له، المهم أنها حدثت وأرعبت. ملوك العُرب بدأوا بصرف علاوات تونس لشعوبهم، الجميع صار يحارب البطالة، الكل خفض الأسعار. صار الفساد عدوهم! يبدو أنهم لم يفهموا الرسالة جيداً! إنها ليست ثورة الجياع، إنها ثورة أحرار يفضلون الجوع عليكم، يموتون لتحيا أوطانهم، يريدون لكم أن ترحلوا وتؤدوا عُمرة على نفقة خادم الحرمين وترجموا الشيطان بدل أن ترجمونا.

سننتظر طرودكم وسنعرفها.. مكتوبٌ عليها من الأمام: ثورة. وعلى الجانبين: غير قابلة للقمع. ومن الخلف: صُنعت في تونس

هذه ليست ككل الثورات، لقد حدث ما لم يحدث قبلاً في أوطاننا؛ إنها ليست انقلاباً، ولم تكن من فعل حزب، إنها من فعل شعب كامل فهم الدرس جيداً وأجهزته الأمنية فهمت الدرس أيضاً، فَكفا تشاؤماً يا مثقفينا، دعونا نفرح يوماً واحداً فقط. لن تُسرق الثورة. لا يمكن أن يحدث في تونس اليوم ما لا يرضاه الشعب، لن يجرؤ رجل أمن على قمع أحدٍ لأنه بات بالأمس مرتعداً من انتقام الناس، وتعلّم أنه أجيرهم وأنّ الشعب قادته وأنه كبش الفداء الأول لمن علموه القمع والظلم فظلموه قبل الجميع. لن يجرؤ سياسيٌ أيضاً على عصيان شعب يعرف كيف يعزل من عصاه؛ لا خوف على تونس بعد اليوم. إفرحوا يا مثقفي العرب، أعطوا عقولكم وتحليلاتكم يوم عطلة بمناسبة الثورة وعيشوا البلاهة اللذيذة معنا، تذوقوا مرةً طعم فرحةٍ لا تنغّصها الرؤى المستقبلية، يوم واحد فقط من أجل “تونس الحمرا”.

يا شعب تونس الحرّ.. لا تقلقوا على السياحة، سنجيئكم جميعاً من المحيط إلى الخليج لنرى كيف يكون شكل العربي الحر، وكيف هي أوطاننا بلا المستبد، وما هو شعور الثائر المنتصر؛ سنجيء لنرى مسؤولاً عربياً في السجن. إنها تجربة لم تحدث لأحدنا قبلاً. سنجيء لنشاهد مطاراً عربياً لا يحمل صورة الرئيس. نريد معانقة ضابط المخابرات وموظف الجوازات وشرطي السير وحمّال الحقائب؛ نريد تقبيل أيادي الجنود؛ نريد الصراخ بملء أفواهنا في شارع الحبيب بو رقيبة: عاشت تونس الحرة، عاشت تونس العظيمة، بن علي الكلب هرب، ما عادوش تخافوا، الشعب التونسي حر، الشعب التونسي ما يمتش.”

أعلم أنكم تريدون المحافظة على موارد تونس ولكن بحق الفقر والظلم والذل الذي جمعنا وإياكم مرة، بحق العروبة، توْنسونا، صدّروا لنا قليلاً من كرامتكم، أرسلوا طروداً صغيرة من الثورات الى تلك العواصم العربية المحتلة، هربوها في حليب الأطفال أو في أغاني العاشقين؛ إبعثوها مع الحمام أو النسور، خبّئوها في قنابل الغاز التي ستتبرعون بها لأنظمة تحتاجها، أرسلوها رسائل قصيرة إلى كلّ محمول. نستحلفكم أن انقلوا لنا العدوى فما أجمل مرضكم وما أقبح صحتنا. زوّجونا تونسيين وتونسيات علّنا ننقل لأجيالنا جيناتكم، لا تبخلوا علينا يا بني جلدتنا ببعض من إرادتكم ببعض من تونسيتكم، سننتظر طرودكم.

سننتظر طرودكم وسنعرفها.. مكتوبٌ عليها من الأمام: ثورة. وعلى الجانبين: غير قابلة للقمع. ومن الخلف: صُنعت في تونس.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

5 تعقيبات

  1. أستاذ علاء : هل مازلت تعتقد في الثورة التونسية و في نجاحها بعد 5 سنوات على مرورها ؟؟؟ 

  2. هي فعلا ثورة الياسمين..

  3. علاء ,
    كلماتك قنابل تحيي لا تميت …
    تونس البدايه , ادفشنا فنحن عطاش لثوره تونسيه..

  4. رائع يا علاء …مقال رائع ..

  5. رائع كما تكتب دائماَ..
    “نها ليست ثورة الجياع، إنها ثورة أحرار يفضلون الجوع عليكم، يموتون لتحيا أوطانهم، “

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>