رواه فلسطينيّ…/ علاء حليحل

رواه فلسطينيّ…/ علاء حليحل

قديتا قرية صغيرة لم يزد عدد سكانها عن 300 نسمة ومعها ما يمكن أن يُفسد الفنتازيا ويزيد من حدّة الدراما: خصومات عائليّة متجذّرة، شجارات على حدود الأرض ودَور السّقي، والخروف الذي وُجد مسمومًا في الصباح، والكلّ يقسم أغلط الإيمانات بأنّ ذلك الراعي من آل حليحل هو الذي فعلها

المستوطنة القائمة على أراضي قديتا

المستوطنة القائمة على أراضي قديتا

(نُشر هذا النصّ ضمن مشروع أدبيّ خاص لمجلّة words without borders تحت عنوان “الكاتب والمدينة”. لقراءة الصيغة الإنجليزيّة من النص الرجاء الضغط هنا.)

|علاء حليحل|

علاء حليحل

علاء حليحل

قديتا بئر وشجر توت. البئر بئر جدّي. وقفنا فوق فتحتها المختفية تحت الأشواك، أبي وأمي وأنا، ونظرنا إلى قعرها المعتم. لا أعرف إذا كانت المياه ما تزال تسكن فيها ليلاً، إلاّ أنّ الأشباح التي من المفترض أن تختبئ في الآبار كانت تنظر إلينا من تحت. يعرف والدي حدود الأرض ومعالم البيت وموقع البئر، ونمشي بحذر كي لا نثير شكوك المستوطنين الذين أتوْا إلى المكان كي يعيشوا حياة طبيعة وابتعادًا عن المدنيّة. أثارت الكاميرا خوفهم، وهجم أحدهم علينا صارخًا، فاضطررتُ للكذب: أنا صحافيّ من “معريف”- قلتُ له مبتسمًا. يعني: أنا صحافيّ مسالم، أكتب لصحيفة عبريّة ولذلك لا تخفْ منّي ومن قلمي. أنا لا أبحث عن أشباح قبيلتي هنا. عندما انسحب المستوطن بحذرٍ، ضحك الشبح الذي كان يقف خلفي ولكزني وهو يقول: يا خبيث.. أنتم الفلسطينيين كلّكم خبثاء.

أمّا التوت فهو من الأطروفة التي تتحدّث عن أحد فتيان العائلة الذي كان يحبّ الذهاب إلى رُكام القرية وقطف التوت من على أشجارها، وكان والده يوبّخه على هذه المشاوير البعيدة والطويلة، مُتّهمًا إيّاه بأنه “يَهري” جزمة الأب في ذهابه وإيابه من الجش (قريتي التي وُلدت ونشأت فيها) إلى قديتا البعيدة. أشجار من التوت البريّ تملأ أخيلتي عن قديتا، وأشباح جميلة تتقافز في الليل بين بيوت المستوطنين والنزل الصغير الذي يستقبل الزوّار وسط ظروف بدئيّة: بلا كهرباء أو مياه جارية. تمامًا كما في القصص المتخيّلة عن قدّيتا التوراتيّة (قاديشا): بيوت من حجارة المكان، سقوفها من الخشب المقوّى وجدرانها من حجارة المنطقة، جدران مُهلهلة بعض الشيء تتّكئ أحيانًا على ألواح من الزينكو، لكنّها كلّها لا تشكّل أيّ عائق أمام أشباح المكان. فلا أحلى ولا ألذّ لهذه الأشباح من الصفير في الليل والنفخ في آذان النائمين في هذه البيوت لبثّ الغيْظ في قلوبهم وهم يتقلّبون في أسرّتهم الودّيّة للطبيعة، لا يستطيعون النوم.

أنا فلاّح بلا أرض، نازح بلا بيت. أحاول ضرب جذوري هنا وهناك، لكنّني لا أشعر بأيّ ارتباط بأيّ مكان. يحنّ النازحون إلى فكرة القرية، إلى القصص والرومانسيّات المتخيّلة. قدّيتا ملائمة جدًا كَلوكِيشن لهذه التخيّلات: قرية صغيرة لم يزد عدد سكانها عن 300 نسمة عند تهجيرها وتدميرها عام 1948. عائلتان كبيرتان وبعض العائلات الصغيرة تملأ سُبل القرية المتعرجّة بين البيوت؛ تلٌ صغير يحتضن تضاريس هادئة وجميلة تمتدّ حتى حدود طيطبا ودلاّتة والرأس الأحمر والجش. تذكّروا للحظة قرية فرودو باغنز في “سيّد الخواتم”: بيوت منغمسة في التراب كفطريّات كبيرة، مساحات شاسعة من الأخضر الخصب المحمّل بالفواكه وما طاب، ألعاب طفوليّة في الليل وسلام لا ينتهي مع الطبيعة. ثم أضيفوا إلى ذلك ما يمكن أن يُفسد الفنتازيا ويزيد من حدّة الدراما: خصومات عائليّة متجذّرة، شجارات على حدود الأرض ودَور السّقي، والخروف الذي وُجد مسمومًا في الصباح، والكلّ يقسم أغلط الإيمانات بأنّ ذلك الراعي من آل حليحل هو الذي فعلها. ثم تخيّلوا جاهة الصلح وتطييب الخواطر التي تحاول احتواء الموقف، والتهديد والوعيد، وأحاديث النساء في الخلفيّة تزيد من اشتعال النار من جهة وتبتهل للخالق بأدعية صادقة لانتهاء الأزمة- من جهة أخرى. رجال يروحون ويجيئون، وأحدهم يشبه لا شكّ غاندالف الأشيب بعصاه وقامته ورزانته. لا بدّ أنّه من عائلتي. أنا سأنسبه إلى آل حليحل، فأنا الذي يكتب التاريخ الآن. أمّا مورغوت الشرير فهو من العائلة المنافسة، سيخسر المعركة في النهاية، تمامًا كما يحدث مع كلّ أنتيجونست (غريم) في أيّ حكاية تحترم نفسها. ثم تخيّلوا أنّ سورون ينتصر في النهاية بدلاً من هذه الفنتازيا، وتضيع الأرض الوسطى تحت شبكة العنكبوت التي تطمر بئر جدّي.

وهناك الحنين أيضًا إلى… لا شيء.

متى تتحوّل القصص إلى ذكريات ومتى تأتلف الذكريات إلى ذاكرة ومتى تصبح الذاكرة صمغًا لا بدّ منه من أجل بناء الهويّة؟ مستويات متآلفة من الحنين الصادق والذاكرة المتعبة تتواطأ مع أحفاد يشعرون بعقدة النقص أمام أجدادهم: فنحن لا ذكريات لنا، لدينا أحاديثكم فقط. نبني ذاكرة من شاهد عيان. نتواطأ على سورون ومورغوت بعصا غاندالف السحريّة. نضرب البحر بالعصا فنشقّه شقًّا، ويغضب الآخر: أسطورة العصا لنا؛ جدوا لكم أسطورة أخرى لو سمحتم!

كيف يحنّ المرء إلى شيء لم يعشه ولم يعرفه ولم يُدركه. إنّه حنينٌ “يد ثالثة”: عن جدّي خالد مصطفى خليل حليحل، عن أبي محمود خالد مصطفى خليل حليحل، عنّي، علاء محمود خالد مصطفى خليل حليحل، أنّه قال: قدّيتا.

 رواه فلسطينيّ…

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>