التاريخ كما يبدو من جهنم/ رائف زريق

التاريخ كما يبدو من جهنم/ رائف زريق

إعدام نظام بشار الأسد لآلاف المعتقلين في المعتقلات السوريّة، يعيدنا إلى طرح السؤال عن حركة التاريخ وضرورة غضّ الطرف في الحاضر عن الجرائم سعيًا من أجل مستقبل يضمن الخلاص للبشرية. هذا ينضمّ إلى التساؤلات التي يجب طرحها على “اليساريّين” أصحاب نظريّة “الصورة العامّة والشاملة”!

.

|رائف زريق|

رائف زريق

رائف زريق

الأخبار الواردة من السجون السورية، والتي توردها منظمات حقوق الإنسان العالمية –المنظمات ذاتها التي نقتبس تقاريرها ليلَ نهارَ عندما يتعلق الامر بأحوال وأوضاع الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال وتدين إسرائيل- تثير الغضب والغليان والغثيان: آلاف المعتقلين يُساقون إلى موتهم ويُعدمون ببرودة تقشعرّ لها الأبدان، ويحار أمامها المرء إلى درجة التبهّم، التي من الممكن أن يصل إليها البشر. إلّا أنّ الأهم من ذلك هو ردود الفعل المتكرّره من الكثيرين الذين يُصرّون ألّا يروْا وألّا يشاهدوا. ومن هؤلاء من هم مصابون بأمراض طائفية لا تسمح لهم سوى برؤية آلامهم دونَ آلام غيرهم. مع هؤلاء لا نقاش يُرجى ولا طائلة من أيّ حوار.

إلّا أنّ السؤال الذي يبقى مُحيّرًا قليلا هو موقف أولئك الذين يحسبون أنفسهم ويصنّفون مواقفهم على اعتبار أنّهم ينتمون إلى اليسار، وإلى أصحاب المواقف التقدميّة. كيف يمكن فهم هذا الصمت على مجازر من هذا النوع؟

حقيقه ليس هناك ما يدعو إلى الكثير من المفاجئة؛ لقد شقّ السؤال السوريّ اليسارَ عندنا واليسار العربي عمومًا. ومن مميّزات الإرث اليساري هو فكرة التقدم: هناك مواقف وأفكار وأنظمة رجعيّة، وهناك مواقف وأفكار وأنظمة تقدميّة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو الآتي: كيف لنا أن نميّز بين هذا وذاك، خصوصًا أنّ الواقع والسياسة والحياة الاجتماعيّة متنوّعة ومتعدّدة ولا تحتمل دائمًا أن نطلق صفة واحدة عن نظام معيّن؟ بناء على أيّ موقف أساسيّ أو معيار أخلاقيّ يمكن تقسيم الأنظمة، علمًا أنه لا يوجد موقف واحد بل مواقف عديدة وممارسات كثيرة، وليس ممارسة واحدة؟ عبد الناصر تقدميّ لكنه يزجّ المعارضة في السجون؛ ستالين يبني الاشتراكيّة لكنّه يفتك بمعارضيه؛ وقِسْ عليه وصولا إلى السفّاح الأسد.

هناك تراث فكريّ كامل يرى أنه يجب رؤية الأمور بالمجمل، ورؤية المحصّلة العامة لهذا النظام أو ذاك من مجمل ما يحلو للبعض أن يسمّيه حركة التاريخ. بعض الأنظمة تبدو لهذا المُحلّل اليساريّ أنّها تقود عربة التاريخ إلى الأمام، بينما الأنظمة الأخرى تشدّ العربة إلى الخلف- وعليه فهي رجعيّة.

إذا كان في حينها ما يجعل موقف سارتر معقولًا لحدّ معيّن آخذًا بعين الاعتبار الدولة الاشتراكيّة الفتيّة، ونشوء مشروع اشتراكيّ في مواجهة الغرب وظروف الحرب الباردة، فإنّ شيئًا من هذا لم يعد واردًا لا كإمكانيّة فعليّة ولا كأفق نظريّ له ما يبرّره

لا أعرف ولا أريد الخوض في السؤال الكبير عمّا إذا كان التاريخ يسير إلى الأمام، وعمّا إذا كان هناك ما يستدعي افتراضًا من هذا النوع. يكفي القول في هذا السياق إنّ فكرة التاريخ الذي يسير إلى الامام -بخطّ مستقيم أو لولبيّ كما يحلو للبعض وصفه- هو نتاج فكر دينيّ يقوم على فرضيّة مقامها أن التاريخ البشريّ يراوح بين نقطتيْن: نقطة السقوط المتمثّلة بالخطيئة التي تسبّبت بالخروج من الجنّة، ونقطة مستقبليّة تقوم على فكرة القيامة والخلاص، وما التاريخ الإنسانيّ سوى معبر بين الاثنتيْن. على سبيل المثال: اعتقد الفكر اليونانيّ أنّ التاريخ يسير بطريقه دائريّة وليس خطًّا مستقيمًا، أي أنّه يعود إلى نقطة البداية، وبالتالي فكما يمكن أن تسير إلى الأمام من الممكن أن نسير للوراء، لا بل أنّ مفاهيم الأمام والوراء لا معنى لها.

تكمن خطورة فكرة التقدّم هذه -خصوصًا في صيغتها اللولبية- بأنّ هناك بعض “العثرات” أو “التراجعات” أو “الإخفاقات” التي رغم الألم والمعاناة التي تسببهما، فهي ضروريّة وحتميّة من أجل السير بالتاريخ إلى الامام، وتبدو باعتبارها الثمن الذي لا بدّ من دفعه كي يعثر التاريخ على مساره وسكّته ويتجه نحو محطته الأخيرة: نحو شاطئ الخلاص للإنسانية برُمّتها وانتصار الخير على الشرّ. وبموجب هذا المنطق فإنّ شيئًا لا يذهب عبثًا في التاريخ ولا بدّ من عبور المحطات المختلفة على أوجاعها وآلامها. هذه المحطات تؤلم وتوجع لكن من يرى “الصورة الكاملة” وحركه التاريخ بمجملها، يعرف أنّ من يتشبث بالأهداف السامية المستقبليّة والبعيدة والشاملة، عليه أن يدرك أنّ هناك ضرورة لدفع الأثمان في طريق المسيرة الطويلة.

لقد شقّ هذا النقاش اليسارَ الفرنسيَّ في بداية الخمسينات ضمن سجال علنيّ بين سارتر وألبير كامو. عندما اتضح هول مجازر ستالين أخذ منها كامو موقفًا واضحًا وطالب بكشفها ونشرها وإدانتها أيضًا. لقد اعتقد كامو أنّ هناك واجبًا على كلّ شاهد على ظلم أن يُعرّيه وأن يكشفه. من هذا المنطلق، فإنّ الشهادة -الالتزام بالحدث العينيّ وتوصيفه وتعميمه- هي التزام اتجاه الضحيّة، تلك الضحيّة التي تعيش جهنمًا في تلك اللحظة. أمّا سارتر فقد خرج موبّخًا كامو على اعتبار أنّه يقرأ الواقع فقط من عينيِّ الضحيّة- يقرأ الواقع من جهنم كما كتب حينها. في المقابل، اقترح سارتر فهم التاريخ من وجهة نظر أولئك الذين يصنعونه. أي من وجهة نظر أولئك الذين يَرَوْن الصورة العامّة والشاملة، ويقفون إلى جانب حركة التاريخ الذي يسير إلى الأمام تاركًا وراءه بعض الضحايا.

الفرق بين الاثنين هو فرق بين من عينه على المستقبل لدرجة أنّه لا يرى الحاضر بكلّ حضوره المأساويّ، ويعتقد أنّه يرى الصورة العامّة لدرجة أنّه لا يرى التفاصيل المتمثلة في الجثث الملقاة في كلّ مكان، ويعتقد أنّه من الممكن ومن الأفضل خلاص الإنسانية برُمّتها، بحيث أنّ خلاص بعضها هو مهمة ثانويّة نسبيًّا أمام الخلاص الكبير.

هل يعني ذلك أنّ كامو كان على حقّ وأنّ سارتر كان على خطأ أخلاقيّ، وانّه انتهى ليكون أداة في يد ستالين؟

لن أقول ذلك- فالأمور كانت معقده أكثر في حينها، وإن كنت أقف إلى جانب كامو في هذا السجال. إلا أنّه إذا كان في حينها ما يجعل موقف سارتر معقولًا لحدّ معيّن آخذًا بعين الاعتبار الدولة الاشتراكيّة الفتيّة، ونشوء مشروع اشتراكيّ في مواجهة الغرب وظروف الحرب الباردة، فإنّ شيئًا من هذا لم يعد واردًا لا كإمكانيّة فعليّة ولا كأفق نظريّ له ما يبرّره.

على كل الأحوال، إنّ واحدًا من الأسئلة التي لا بدّ من طرحها على أصحاب نظريّة “الصورة العامّة والشاملة”، وأصحاب نظريّة “حركه التاريخ” هي كالتالي: ماذا لو كان التاريخ بلا مسار ولا محطّة أخيرة ولا خلاص ولا نجاة؟.. كم من الممكن أن يضحّي المرء بالحاضر من أجل خلاص مستقبليّ؟ وما هو الضمان لوجود صورة واحدة عامّة وليس ما لا نهاية من الصور؟

لا يمكن الاختباء وراء مشاريع كبرى في المستقبل كي نعمي أبصارنا عن حاضر إجرامي ينزف!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. شكرا على هذا المقال

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>