صناديق ﭘاندورا العشرة/ ريم غنايم

صناديق ﭘاندورا العشرة/ ريم غنايم

عن “النوافذ كتبٌ رديئة”، مجموعة قصصيّة للكاتبة الفلسطينيّة شيخة حليوى ■ تختبر حليوى العالَم ونماذجه البشريّة، طارحةً حمولاتٍ فلسفيّة ونفسيّة لها ومُنتجةً عوالم صغيرة مُباشرة وواضحة، غروتسكيّة وقبيحة، بجمالية لغويّة شديدة الخصوصيّة

sheikha

|ريم غنايم|

ريم غنايم

ريم غنايم

النوافذ كتبٌ رديئة، مجموعة قصصيّة صادرة عن دار الأهلية للنّشر-عمّان (2016)، للكاتبة الفلسطينيّة شيخة حليوى، وهي المجموعة القصصيّة الثالثة لها، تخوض عبرها تجربة سرديّة متفرّدة، تبتعدُ فيها عن مركزة الّذات وتبئير الأنا الأنثويّة وتقترب من اختبار الوعي النّاقد.

هنا، تختبر حليوى العالَم ونماذجه البشريّة، طارحةً أمامنا حمولاتٍ فلسفيّة ونفسيّة لهذه النماذج من جهة، ومُنتجةً عوالم صغيرة مُباشرة وواضحة تارةً، وغروتسكيّة وقبيحة تارةً أخرى، بجمالية لغويّة شديدة الخصوصيّة، متموضعةً في سياق واقع ديستوبيّ لا فكاك منه.

تحرّر الكاتبة عباراتها من ضيق المعاني، وتتّسع في كتابتها المساحة الخانقة لعوالم الأنثى والأنوثة نحو تصوّرات أبعد لعوالم البَشَر المخفقين والقابعين داخل أوضاعهم الاجتماعيّة والنفسيّة. في هذه المجموعة، تضربُ الكاتبة عصفوريْن بحجر كبير: فهي تنجح بالإفلات من التكثيف الشعريّ المهَلهَل في السّرد، محافظةً على عافية عباراتها ورشاقة جُملها، وتُنتجُ نصوصًا مشحونة باليوميّ المُتعب الذي يبدأ من الحياة ويمرّ بالصّراعات الواقعية والفوق- واقعيّة، وينتهي بالاحتضار أو الغياب أو الموت.

تتحوّل هذه القصص القصيرة العشر إلى لوحات انطباعيّة، حواريّات مكثّفة، لا تسعى إلى الخلاص أو إلى تقديم الإجابات أو إلى تقديم ملاذ للأبطال أو القرّاء. هي بمثابة مرتع للتمرّد والغضب والفوضى والإحساس بالعبث لدى الشخصيّات الذكوريّة والأنثويّة على حدّ سواء، كما أنّ الكاتبة لا تسعى إلى تقديم جيناتها الأنثويّة في سردها بقدر ما تسعى إلى تأزيم حالات إنسانيّة وتقويض بديهيّات، والتأسيس للكتابة الاستفزازيّة التي تهجس وتشكّك في كلّ ما ترصده العَين وما يتبقّى في الذاكرة من حدث.

تقدم لنا حليوى شخصيات مأزومة، تختبرُ محنها ومآسيها وتكشف لنا عن قدرتها على تعرية الواقع وفضح نزعات الفرد، على اختلاف جنسه، مستغرقةً في وصف الاحتدام الداخليّ لهذه الشخصيّات وتعرية اضطراباتها وهواجسها وصراخها. من أمثلة ذلك، ما جاء مزلزلاً على لسان زوج في القصة الرابعة التي تحمل عنوان “من أسدل الستائر”، وهو يواجه زوجةً ترقد منذ خمسة أعوام بلا حراك في أحد المستشفيات:

“ماذا كنت ستفعلين لو كنت مكاني؟ كل شيء تغيّر. عام، عامان، خمسة!! يااه. وهذه الأجهزة البشعة والرائحة، رائحة الموت تقتلني وتذبح رجولتي. أرجوك إرحلي بصمت. أنا في الرابعة والأربعين. العمر يركض. ارحلي أتوسّل إليك. الأولاد يكبرون والعمر يتسرّب من يدي بين العمل والبيت والمستشفى. كلما زرتك تعلقتْ بقميصي رائحة الموت. ما أبشعها! ترافقني حتى في سريري. هو ليس سريرًا. لم يعد كذلك. مسرح خيال مريض، أو قبر يتنفّس. هل أحلم بك؟ مرات كثيرة كانت يدك تنام على صدري وأصحو أجدها يدًا مبتورة. أفزع وأبحث عن يدي. وأنت؟ أيّ حاجة لك بها؟ يد ميتة، ساق ميتة، كلّ شيء ميت”.

كرنفال من العوالم في هذه القصص: الضحايا الذين يتحوّلون إلى مجرمين على نحو لا تفسير له؛ المرهقون من فرط التأمل في هزائمهم اليوميّة الصغيرة؛ القابعون أبدًا تحت سطوة الكليشيه وعبوديّة الأفكار المعلّبة؛ المتلبّسون في اعترافات قاسية، اعترافات تتراوح بين القسوة على الآخر والرغبة في الحياة؛ شخصيّات تتبدّد داخل أفكارها الخاطئة وأخرى تفارقُ الحياة مستسلمةً للفقدان ولقسوة السّاردة وهي تفضح للقارئ المشاعر البشريّة وتعيد إنتاج المعاني والمفاهيم والأفكار المستهلكة، بصفتها ذاتًا فاعلة ومُنتجة.

تختزن هذه القصص عالمي الحياة والموت وما بينهما، وتختار الكاتبة أكثر اللحظات حرجًا، وتقف عند الخطّ الفاصل بين الحياة والمَوت لتقول مقولاتها المتعدّدة مترنّحةً بين الرّبح والخسارة، ومعمّقةً بنية الهزيمة والضّياع لتتحوّل إلى قيمة مضافة في كتابتها السّرديّة

لا تشتغل حليوى على ثيمة واحدة في قصص هذا الكتاب، بل تتفتّح هذه القصص بخفّة على عوالم العجائبيّ والمفاجئ والسورياليّ والواقعيّ المختوم بالصّدفة، وتؤثّث الكاتبة الفضاءات الداخليّة لقصصها، وتضع قاعدةً مشتركة لها جميعها:  القصص التي تتأزّم الأحداث فيها حتّى الوصول إلى حالة من الفراغ؛ الفراغ الحرّ الذي يضعكَ في حالةٍ من التفكير المتواصل في مفهوم الصدفة كقوّة موازنة للمنطق، والمتخيّل كقوّة موازنة للواقع، والعشوائيّة كقوّة موازنة للدقّة. من هنا، فإنّ أكثر ما يسترعي الانتباه في هذه القصص المشتركة، هو قدرتها على فرض حالة من الوعي والتفكير الدائم في الوجه الآخر، الوجه الدّميم الذي يقابل الجميل، والهشّ الذي يقابل القويّ، والثابت الذي يقابل المتحوّل. إنّه التفكير العميق فيما نظنّه عفويًّا وتلقائيًّا، أو مسائل قدريّة أو مصادفات لا حاجة لنا في إمعان النّظر والتفكير فيها، كأن يقتل شخصٌ شخصًا من دون قصد، ثم يعود ويرتكب فعل القتل عن عمد، كما هي الحال في قصّة النوافذ كتبٌ رديئة، وهو ما يعيدُنا إلى التفكير في مفهوم ارتكاب الخطأ المبرّر والخطأ المتعمَّد، وفي تبرير اختيار الضحيّة، تفضيل قتل العشيق على قتل الزوجة: “قتلته لأنه كان يصطاد مشاعرها من وراء النافذة المكشوفة وهي كانت خلفها، كان حرًا وكانت مسجونة بمعنى أو بآخر. ليس ذنبها أن تدفع ثمن رغبتي بنوافذ مكشوفة تطلّ على العالم خارج الجدران والنوافذ. كان عليه أن يدفع ثمن طمعه. طمع الحرّ بدهشة السجين، طمع الذي يرى العالم بعينين كبيرتين بآخر يرى العالم بنصف عين، وهي رأت العالم بنصف عينها”.

تختزن هذه القصص عالمي الحياة والموت وما بينهما، وتختار الكاتبة أكثر اللحظات حرجًا، وتقف عند الخطّ الفاصل بين الحياة والمَوت لتقول مقولاتها المتعدّدة مترنّحةً بين الرّبح والخسارة، ومعمّقةً بنية الهزيمة والضّياع لتتحوّل إلى قيمة مضافة في كتابتها السّرديّة.

توظّف الكاتبة الفلسطينيّة شيخة حليوى مهاراتها اللغويّة، اللغة التي تحافظ على حرارتها لتعمّق السّرد الذي يأخذ مساره الطبيعيّ من دون خنقه بالتراكمات اللغويّة، حيث لا مجال للتباطؤ؛ فالزّمان والمكان ودرجات الوعي فيها لا تتّسع لشعريّة مترهّلة. قد أخالفُ الكاتبة في اختيار العنوان: النوافذ كتبٌ رديئة، الذي يحمل في طيّاته نشازًا فائضًا يباغتُ المتلقّي، لكنّ الحكايات في هذا الكتاب أشبه بمفاجآت صادمة مخبّأة في صناديق ﭘـاندورا، كلّ حكاية فيها أشبه بعصا تقودنا إلى إعادة تعريف بمفهومَي الصواب والخطأ.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. شيخة حليوى انسانة تكتب عن المشهد الخفي خلف اللوحة الظاهرة للعيان
    افضل قاصة عربية عرفتها

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>