قراءة في “دمعة تخدع ظلّها” لإحسان أبو غوش/ حسن عبادي

قراءة في “دمعة تخدع ظلّها” لإحسان أبو غوش/ حسن عبادي

اتبع الشاعر أسلوب الخطابة ليتأمّل ويفكّر ويتساءل عن الكون وماهيّته ليصل إلى نتيجته: “غريب أمرك أيّها الكون! ما الهدف الأسمى من وجودك؟ وبعد تحقيقه ماذا بعد؟”

20160628_084007

.

|حسن عبادي|

حسن عبادي

حسن عبادي

قرأتُ في الشهر الفائتِ ديوانَ “دمعة تخدع ظلها” للشاعرِ المقدسي إحسان موسى أبو غوش، الصادرِ عن المؤسسة الفلسطينية للنشر في رام الله، وهو يحوي في طيّاتِه 30 قصيدةً ونثريّتين في 117 صفحة من الحجم المتوسط.

الشاعر إحسان يطلّ علينا بديوانه الأوّل، القطرة الأولى من غيث شعره، فتخرج القريحة الشعرية لتعلن تمردها إجلالا، وتكسر السكون وتعطي مدينة الشعر جزءًا من حقها فتنبئ ببداية مسيرة شعريّة واعدة تشقّ طريقها الحتميّة لتحتلّ مكانًا ومكانةً على الساحة الأدبيّة العربيّة.

يشمل الديوان قصائد متنوّعة، منها تأملات وومضات شعرية تحمل بصيص أمل، ومنها وطنيّات بقيتْ زبدًا عالقًا على مهد القصيدة، ومنها غزليّات نحوَ ظلِّها الآخر، ونثريّتين تشملان تأمّلات فلسفيّة وإنسانيّة حول “قيمة الحياة وماذا بعد؟”.

كتب إحسان القصيدة العموديّة وقصيدة التّفعيلة إلى جانب النّثر البعيد عن الشّعر، محاولًا إيصال رسالته بأكثر من قالب ونجح في ذلك حين وظّف القصص والأساطير والأحداث اليوميّة والاعتياديّة محافظًا على موسيقى الحرف والكلمة وإيقاعهما، وكما قيل: “يرى الشاعر في قصائده روح الأشياء وجوهرها. فهو يرقب الناس وهم يلهثون وراء الحداثة والمدنيّة ويتمسّكون بقشورها، بينما يتخلّون عن أصالتهم. كالأسير الذي يلحق ظلّه الذي لن يقوده إلى أبعد من جدران زنزانته”. ونلمس طموحاته وسقفها أعلى وأعلى.

اتبع الشاعر أسلوب الخطابة ليتأمّل ويفكّر ويتساءل عن الكون وماهيّته ليصل إلى نتيجته: “غريب أمرك أيّها الكون! ما الهدف الأسمى من وجودك؟ وبعد تحقيقه ماذا بعد؟”. ويستنتج: “أنّ الكلّ فان والبقاء له وما يبقى بسطر الذّاكرة”، ويسأل عن الموت فيخاطبه: “يا موت قف هنيهة، مت ولو للحيظة لأعيد أحلاما بلمسات المساء”؛ ويسرح بروحانيّاته وتساؤلاته لتوضح له الأمور قائلًا: “لو كان عالمنا بلا روح فلا معنى لمعنى الأضحية!”

إحسان صاحب حسّ وطني وقومي، له انتماؤه الواضح لقضيّته ويتباهى بعروبته وإنسانيّته وفلسطينيّته ولا يساوم حين يواجه السجّان: “نحيا حبّا معنى عطرا نحيي فينا قلب الإنسان”، وحين يخاطب المحتّل (ص 59): “لماذا تودّون قتلي إذن؟ لسمرة عينيّ؟ لجسمي النّحيل؟ لاسمي المقدّس؟ لرسمي العروبيّ؟ لعطفي؟ لأرضي؟ لقدسي؟ لنسلي المؤرّخ؟ لرأيي الصّريح؟ لعرضي المبجّل؟ وجودي، كياني، بهائي، عزائي، رجائي، شقائي، لقوميّتي، أم لأمر مدبّر”، فيجيب صارخًا: “تفكر تدبّر ولا تتكبّر!”

لدى إحسان رسالة يسعى لإيصالها بأكثر من قالب، فكان شعرًا حيث قال: “كن فراشا ليلكيًّا.. يحمل الروح إلى جُلّ ربيعه.. كن مياها بشفافيتها تكشف ذاتك.. كن مدادًا يرسم الصدق بحرفه.. كن كفينيق يعيد السنبلة..” وكان نثرا حين قال: “كن إنسانا قبل أن ترتدي رداء ليس على مقاسك. كن أنت قبل قوميّتك أو حزبيّتك. حاول أن تكون كفة الخير الراجحة في عصر ترجح فيه كفة الشرّ. ابحث جاهدًا عن الهدف الأسمى من وجودك واعمل به”.

لدى إحسان طاقة شعرية متفجّرة (تذكّرني بشعر المرحوم راشد حسين وأبياته): “سنُفهم الصخر إن لم يفهم البشر/ أنّ الشعوب إذا هبّت ستنتصر// مهما صنعتم من النيران نخمدها / ألم تروا أننا من لفحها سُمُر// ولو قضيتم على الثوار كلهم / تمرّد الشيخ والعكّاز والحجر”.

ويصبو إلى التميّز، حيث قال: “سنحفر صخر الحواجز برموش العين/ وندفن جهل النفوس بقعر الحفر/ فلا ذنب إلا إذا شاء رب القدر.”

كي تكونِ أديبًا وشاعرًا في يومِنا هذا، عليك أن تكون مثقّفًا، وإحسان نِعمَ المُثقّف – حيث أخذنا معَه عبر الأساطير بلباقةِ شاعر فلجأ إلى الأساطير اليونانية والبابليّة والكنعانيّة والعربيّة، وهذا يدلّ على سعة اطّلاعه وثقافته. نجده موفّقا عندما استحضر اسطورة جلجامش الذي يبحث عن الخلد في قصيدة “حرقوك طفلا”؛ فحيرة جلجامش حينما رأى صديقه أنكيدو ميتًا، تتضاءل أمام حقيقة حرق الرّضيع، وأيّ خلد سيجد جلجامش أعظم من خلد وهبه الأعداء للشّهيد عندما حرموه نعمة الحياة بوحشيّة وساديّة؟ لكنه أقحم حينًا واستخدم أسماء الفلاسفة والشّعراء والمشاهير ليستعرض عضلاته ويشير إلى سعة اطلاعه وثقافته المتنوعّة من دون حاجة إلى ذلك، فنراه يذكر ميكافيلي ونيتشه وجيفارا ودرويش وأرسطو وديكارت وسارتر ودانتي بتكلّف فاضح لا يخدم النصّ، بل يشير إلى ثقافته العالية بتصنّع مبتذل، لا غير، وهو، بشاعريّته وأحاسيسه المرهفة، بغنًى عن ذلك.

لقد نجح إحسان بإيصال رسالته حين قال: “إنه مولود رضع على التأملات الفلسفية ونشأ على عشق الوطن وترعرع على حبه للحبّ واحترامه للآخر. وجعل من الروح والأنثى كيانا ووجودًا وحسًّا وتأمّلًا”.

الدمعة في شعر إحسان خدعت حاملها وخدعت ظلها وتتساقط معلقة من دون دراية صاحبها، فكانت النهاية البراقة لما كتب حائرًا فيما وراء الكون وفي معضلة الموت والحياة والفناء: “من أكون في ظلّ هذا الزمن وذاك الكون؟ هل أنا الطفل الرضيع أم هذا الشاب اليافع أم ذاك الشيخ الذي اشتعل رأسه شيبا؟ وماذا سأكون بعد أن يواريني التراب؟”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>