لم نكوّن سوى جزء من صورة؛ صرنا شبابًا نطلّ على صورتنا

حتى الآن أكره يوم الاثنين: “الاثنين الأسود”. كنت في البيت في ساعات ما بعد الظهر، رن الهاتف فجأةً.. خالتي تصرخ وتبكي وأنا لا أفهم أيّ شيء مما تقول. طلبت التحدث مع أمي التي انقلب وجهها.. ما الذي حصل في النهاية؟… إنها البداية

لم نكوّن سوى جزء من صورة؛ صرنا شبابًا نطلّ على صورتنا


ملف خاص للذكرى السنوية العاشرة لهبة أكتوبر. تحرير: هشام نفاع

ملف خاص للذكرى السنوية العاشرة لهبة أكتوبر. تحرير: هشام نفاع


|مجد كيّال|

كان دورنا الوحيد الوقوف جانبًا ومراقبة الجنون، مراقبة الانفجار الذي يحيط بنا من كل حدبٍ وصوب. لم نكوّن، نحن الأطفال حينذاك، إلا جزءًا من صور تناقلتها وسائل الإعلام لتدغدغ العاطفة… الصور، كوّنتنا، نحن الأطفال، ونحتت فينا معاني العاطفة.

صنعتنا الصور، صنعتنا الأصوات، صنعتنا الحالة.. صرنا شبابًا نرى الأمور بمعانيها الواضحة، بالصياغات والحلول بالمبادئ والفكر والقوننة… اليوم، في الذكرى العاشرة، حين تكثر التحليلات وتكثر التصريحات وتكثر الشعارات، فضّلنا أن نعود إلى الجذور، إلى الحالة الخام، فنستحضر الأحداث كما رأيناها صغارًا.


عشر سنوات وعشر دقائق…

ريم سويد تتذكّر

“يمكن كان يوم الأحد، مش متذكرة، بس الأكيد كان عطلة وكنّا عند ستّي. الكل كان معصّب بس مش كثير اهتمّيت.. مَ احنا ناس دايمًا معصّبين أصلا.

بنت خالي صيّحت: “تعالوا شوفوا شو عم بصير.” ركضوا كلهم لشاشة التلفزيون.. أنا كمان ركضت معهن. النساء صاروا يبكوا.. الزلام يسبّوا على إسرائيل.. أنا مكنتش فاهمة، ومحاولتش أسأل لأنه ما حدا بهمّه، خاصةً بهذيك اللحظات، انه يفهّم بنت 12 سنة شو عم بصير.. الكبار ولا مرة إلهن خلاق يشرحوا للصغار، والصغار ولا مرة بسألوا بعض، لأنهن بخافوا يبينوا، قدام صحابهن، بعرفوش.

اتطلعت على محمد الدرّة عم بموت على الشاشة، بعدين اتطلعت على أبوي.. سمعت انه شارون فات ع الأقصى وانه البلاد قايمة قيامتها.. أبصر شو بده يصير فينا… مشهد محمد الدرة بعده عم بنعاد على الشاشة، وكل ما ينعاد، اللي حواليي يرجعوا يبكوا.

كان مشهد يحزّن، أنا كمان صرت بدي أبكي… أنا عنجد، بصدق، حزنت، وصرت أشدّ على عيوني بركي ينزلوا دموعي مثل الكل، عشان ميفكرونيش بدون مشاعر، مش مقدرتش أنزّل دموع.. معرفتش شو في.. بس كنت حابّة أحزن مع الكل.

مش متذكرة اذا اضربت المدارس، بس كان يخوّف، البلدات كلها طلعت مظاهرات.. بعرابة وسخنين راحوا شهداء، واحنا كمان طلعنا مظاهرة، أنا متذكريتها منيح، ببلدي كانوا الناس معصّبين، حاملين لافتات وبهتفوا، كانوا عصبيين كثير، يمكن مكانوش عارفين شو عم بقولوا. في واحدة كانت بالمظاهرة تردد: “يا شارون ارتاح ارتاح، إحنا منكمّل كفاح.” يمكن اختلطت عليها الهتافات وخربطت بين الأمور. كانت عصبيّة. كان يخوّف.

ضمن واحدة من الفعاليات اللي نظمتها الجبهة الطلابية في الجامعة العبرية في القدس، عرضوا فيلم وثائقي عن هبة أكتوبر. بعد عشر دقايق من بداية الفيلم، وسبع سنين من أكتوبر 2000، نزلوا دموعي ومعادوش يوقفوا. حسيت إني عم بعوّض البكاء إللي ما نزل في حينه.

من صور الشهداء، حسّيت اني بعرفهن.. واحد واحد. صورهم بتحسسني بالذنب، ضحكتهم بالخوف، كإنه بتمسخر علينا وبقلّنا: وبعدين معاكم؟ بعدك شعب شعارات رنّانة؟ احياء النكبات وإلقاء الخطب بدون م تعلموا الصغار فحواها؟”


كأنّ العدو وُلد من جديد…

ربيع إغبارية يتذكّر

“ولّعت”، “هبّت”، “معدش فيها” و”اجا الوقت”.. كلمات تردّدت في الكثير مما كنت أسمعه.

لم أكن افهم الكثير، ربما.. لكني فهمت بشكل واضح أنها مرحلة مفصلية، ليست كأيّ شيء عهدته في سنواتي الثماني الماضية. لقبها الجميع بـ “انتفاضة” فترسخت مشاهد الاحداث في ذهني دموية كما كانت.

كنت غاضبًا بالأساس… منحتني البيئة الشعور بأننا مهددون.. بأنني أنا مهدّد. حالة غضب وقلق مستمرّة سادت في البيت بشكل واضح. ملامح أهلي الثائرة جعلتني متوتّرا متأهبًا دون أن أعرف لماذا. صرت أرفع العلم الفلسطيني وأرسمه وأدور معه اينما ذهبت. كأني أريد أن أتحدى عدوًا، كأنه ولد حديثًا.

صور الشهداء، المظاهرات، تعابير الهلع على وجوه الناس، تجميعنا، نحن الأولاد، للرصاص الذي نجده في الشوارع.. كان هذا لبّ الحديث الصاخب في كل مكان. أقف بين كلٍّ متحرك، صامتًا… أحاول أن أفهم. أين؟ متى؟ لماذا؟ احقا نحن؟ وما الذي يحدث يا ترى في أم الفحم، حيث تسكن عائلتنا الكبيرة وغيرها من البلدات.. لم أكن أعرف اسماء كل هذه البلدات، ثم سرعان ما حفظت أسماءها أكثر وأكثر كلما تكررت في كل مكان مع أسماء شهدائها.


وشو يعني إذا شارون فات ع الأقصى؟

رنين زريق تتذكّر

كان عمري عشر سنين في حينه.. لا اذكر تفاصيل الأحداث وقليلة المشاهد العالقة برأسي.

كانت الاحداث والاجواء كثير غريبه.. انه، شو عم بصير؟ من وين جاي كل هذا التوتر وهذا الخوف وليش ممنوع نطلع من البلد؟ وليش كل ما أجت الأخبار كان أبوي يعصّب ويغيّر عن القنوات العبرية.

في حينه، شرحولي انه شارون فات على الأقصى، وانه انقتل شباب عرب بدون ميكون الهم اي ذنب غير انهم تظاهروا. مفهمتش شو يعني انه شارون فات على الاقصى، بس زعلت عشان ماتوا الشباب. مكنتش اعرف شارون، بس كنت اكرهه، لما صارت تبيّن صورته ع التلفزيون صرت أكرهه أكثر، خاصةً من تعليقات أهلي. بالمدرسة، طبعًا، محكولناش ولا إشي عن الموضوع. بعد فترة صغيرة، لما حكيت لبنت صفي عن تأبين الشهداء اللي رحت عليه مع أختي، المعلمة صيّحت عليّ.

أختي الكبيرة كانت تضل تتقاتل مع أهلي وتطلع على المظاهرات بالقوة. مرة واحدة رحت معها على مظاهرة، كان كثير غريب. أول مرة كنت بروح على مظاهرة، كان كثير غريب. كلنا، كل أهل البلد، الناس اللي بعرفهن وبشوفهن بالحارة والناس اللي بشوفهنش غير بالمدرسة وكثير ناس مكنتش أفكر انه هنّي كمان بفكروا زيّنا. كان في شيء جامع وجديد وغريب وقوي، بس لحظتها حسيت قديش الموضوع كبير ومهم.


إنه قتل أشبه بالاقتطاف

فراس نعامنة يتذكّر

مرّ عقد على وداع  طفولتي، يمرّ الوقت بسرعة، أسرع مما نتوقع. عقد منذ عرفت أن العالم ليس بسيطاً وجميلاً كما ظننت، اليوم أعتقد أنه غير جميل بالمرة.

لم يكن حوارا بين محزّبين، بل بين صديقين عاديين في البلد: “بكفر كنا في جرحى! ليش هيك إحنا مفش عنا إشي؟”… سيكون.. سيكون عندنا غدًا.. سيكون جرحى وشهداء، أحدهم ابن خالتي البالغ من العمر 17 عامًا.. كان يكبرني بخمس سنوات وكانت حادثة استشهاده صدمة للجميع، صدمة لدرجة أنّ عائلته المصغرة توقفت الحياة يومها.. ربما عادت لتستمر بعد بضع سنين. لقد فارق أسيل الحياة بطريقة صعبة، ظالمة ووحشية في مقتبل عمره. انه قتل اشبه بالاقتطاف.. كان زهرة جميلة تزين حياة والدته جميلة وكل العائلة.

حتى الآن أكره يوم الاثنين: “الاثنين الأسود”. كنت في البيت في ساعات ما بعد الظهر، رن الهاتف فجأةً.. خالتي تصرخ وتبكي وأنا لا أفهم أيّ شيء مما تقول. طلبت التحدث مع أمي التي انقلب وجهها.. ما الذي حصل في النهاية؟… إنها البداية.

بعد ساعات كنت في بيت جدي، مرّت مسيرة وهتف فيها المتظاهرون “يا علاء إرتاح إرتاح وإحنا منكمل كفاح”.. وصل خبر استشهاد علاء. بعد ساعة مرت مسيرة أخرى وهذه المرة هتفت نفس الهتافات لكنهم استبدلوا الاسم.. سقطت أرضاً والكل حولي يصرخ بهستيريا.. وصل الخبر.

مشيت مع الجموع، كانوا يهتفون “خيبر خيبر يا يهود..جيش محمد سوف يعود”. من هم خيبر؟ إلى أين سيعود جيش محمد؟ لم أفهم.. لكني هتفت معهم بكل طاقتي.. تساءلت لماذا لا يهتفون: “مي أناحْنو؟ بريت هنوعار هكومنستي هيسرائيلي” أي: “من نحن؟ اتحاد الشباب الشيوعي الاسرائيلي”. كما نهتف في الأول من أيار في الناصرة عندما كنت ألبس (أو يلبسونني) القميص الأبيض والربطة الحمراء وأبتسم فرحاً وتفاخراً بانتمائي لخلية “أبناء الكادحين” في الحزب الشيوعي. وقت طويل مرّ حتى عرفت ما معنى “مي أناحنو؟” لأدرك من “أناحنو” ومن هم خيبر. عندما أدركت معاني تلك الشعارات، وفهمت ما تعنيه من حلول لم أعد أهتف كذلك.. أليوم أنا على قناعة: لا حلّ على هذه الأرض.

وقفت مع الناس عند الطريق المؤدي لبيت خالتي، حر شديد جداً ووجوه عابسة. دخلت سيارة الإسعاف، الكل يبدأ بالتصفيق والبكاء والزغردة في الوقت ذاته. فرحة، حزن، حسرة، كبرياء، غضب؛ هكذا يستقبلون الشهداء.

تجرأتُ للمرة الأولى في اليوم التالي أن أقترب كثيراً من بيت خالتي حيث كان جميع أقاربي متواجدين، كلهم بدأوا بتقبيلي وأنا أبكي. ربما كانوا يريدون القول إنهم مستمرون، وانا كذلك… وربما كانوا يعزونني على فقداني الطفولة التي انتزعها أكتوبر الأسود.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. جامدة

  2. ذكرياتكم لا تشيخ …

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>