عن مدينتي العامودية وهربي الأفقيّ/ مايا أبو الحيات

عن مدينتي العامودية وهربي الأفقيّ/ مايا أبو الحيات

كان ذلك في نهاية 1998 أيّام كان الصيف كأنه لا ينتهي. لكنه انتهى مرة واحدة وإلى الأبد مع بداية الانتفاضة الثانية: في يومها الأول وفي مدخل المدينة في شارع عمان حيث دخلت المدينة أول مرة، استشهد الشاب الذي أحببتُ برصاصة في الرأس في مظاهرة طلابيّة، لتنطفئ المدينة في عيني إلى الأبد

نابلس: "كبروا الصغار يا جبل النار صاروا ثوّار..."

نابلس: “كبروا الصغار يا جبل النار صاروا ثوّار…”

|مايا أبو الحيات|

مايا أبو الحيات

مايا أبو الحيات

لم أملك يومًا صورة رومانسية عن المكان؛ كانت نابلس طوال السنوات الأولى من حياتي عبارة عن عمّاتي وأعمامي وأولادهم، الذين يأتون في زيارة من هناك إلى بيت عمّتي في عمان (الذي كنّا ندعوه الفندق)، يحملون معهم قصصَ الجسر وتنكات الجبنة والزيتون والزلابيا. كان بيت عمتي  الضيّق يضيق فجأة فيصير أكثر ازدحامًا.

حين كبرت قليلا وانتقلت للعيش مع أبي في تونس، أصبحت نابلس المكان المقدّس لذلك الرجل المهووس بطبخات وأكلات المدينة، فيأخذنا من مطعم لبنانيّ إلى آخر في تونس ليجد مكانًا يأكل فيه الكنافة، أو قرص العجّة، أو الزلابيا، كلّ تلك الأشياء التي ارتبطت فجأة في رأسي بذلك المكان الأسطورة الذي صنع أنواعًا غريبة من الحلويات لا توجد في مكان آخر.

ومع حمى اتفاقيات أوسلو والحديث عن العودة المحتملة، بدأت أسمع من أبي أحلامًا وآمالًا واسعة وأمنيات بالعودة إلى مزبلة من مزابل نابلس، على العيش في أجمل مدن العالم. بالنسبة لي لم أملك خيارًا بحبّ تلك المدينة أو كرهها بعد، لقد انتزعوني من الأشياء التي أحببتُها، من غرفة نومي وكتبي، والصور الملصقة على جدران غرفة نومي في تونس، لنعود إلى فلسطين، تلك الجملة الغريبة نوعًا ما بالنسبة لي؛ فالعودة تعني أنك كنت هناك وستعود، وأنا لم أكن، لذا فإنّ أبي يعود بينما أنا أعود معه. حتى تلك اللحظة تشكّلت نابلس في عقلي من تقارير أخباريّة عن الانتفاضة الأولى، أطفال يستشهدون، وشباب يكسر الجنود عظامهم. نابلس “كبروا الصغار يا جبل النار صاروا ثوّار…”[1] ونابلس الخرافات وقصص المدينة القديمة عن العوامير والأشباح وحارة الياسمينة وسوق البصل. تخيّلت مدينة بلا شوارع أو عمارات ربما، حتى أنّني تخيّلتها مدينة من خيم وطرق ترابيّة.

كان الجو حارًّا حين وصلنا أريحا أوّل مرة بعد اتفاقيات أوسلو يوم 7 تموز 1995، أنا وشقيقتي غير الرّاضيتيْن تمامًا عن كلّ القرارات التي تؤخذ عنا. أتذكّر انبهاري الكبير في الطريق التي ظننتها لن تنتهي من الجسر في أريحا إلى نابلس، عبر طريق وادي الباذان، الذي نزلنا عنده وشربنا من ينبوعه البارد. كنت قد غفوت في الطريق وحين فتحت عينيّ كانت هناك خضرة أبهرتني: خضرة لشجر لم أره من قبل. شققنا الطريق عبر مخيم بلاطة ومخيم عسكر في مدخل المدينة لأجد شوارع مرصوفة وأبنية كبيرة وسيارات كثيرة.

مدرسة العائشية التي أكملت فيها دراستي الثانويّة تقع في شارع عمان في المنطقة الأقلّ حظًّا في المدينة، قريبة من بيت أعمامي الذين انتقلوا من البلدة القديمة (مسقط رأس والدي) إلى منطقة الضاحية القريبة من نقطة عسكريّة على مرتفعات جبل جرزيم.

الجامعة أخذتني إلى نابلس الغربيّة. أصبحت نابلس الآن مكانًا خصبًا لذكريات مختلفة أكثر رومانسيّة، بمراهقات دوّار المدينة وشارع الجامعة حيث بيت الشاب الذي أحببته. أصبحت مدينة نابلس بشعر قصير وجبهة عريضة وكتفين عريضتين وسماء خضراء. كان ذلك في نهاية 1998 أيّام كان الصيف كأنه لا ينتهي. لكنه انتهى مرة واحدة وإلى الأبد مع بداية الانتفاضة الثانية: في يومها الأول وفي مدخل المدينة في شارع عمان حيث دخلت المدينة أول مرة، استشهد الشاب الذي أحببتُ برصاصة في الرأس في مظاهرة طلابيّة، لتنطفئ المدينة في عيني إلى الأبد.

نابلس المبنية على جبلي عيبال وجرزيم، المدينة الحجريّة التي كانت ممرًّا تجاريًّا جعلها يومًا العاصمة الاقتصاديّة لفلسطين، ما زالت تحتفظ بذلك الغموض الذي يشكّل المدن العريقة: أكلات وخرافات وعائلات إقطاعيّة وأخرى فقيرة ومتهالكة. مجانين كُثر وقصائد وشعراء؛ بيوت تفوح بروائح زهر الياسمين والليمون والجوري والمقلوبة والكنافة والصابون البلديّ؛ عادات وتقاليد كثيرة جدًّا ضاغطة ومفرحة في نفس الوقت.

جلس أبي على كرسي مقابل بيته في البلدة القديمة لسنواتٍ. شرب شايًا كثيرًا وتذكّر شعره الكثيف وبدلاته التي فصّلها لتلائم موديلات بدلات عبد الحليم حافظ، في الأفلام التي كانت تعرضها السينما الوحيدة في المدينة أيام الجّمع. عاد أبي إلى نابلس كأنه لم يخرج يومًا، لم يتغيّر ولم يصبح شخصًا آخر، لم يكن راضيًا دائمًا ولا سعيدًا جدًّا، لكنه كان في مكانه. وضع حقيبة سفره في الخزانة ولم يرغب في رؤيتها ثانية.

بالنسبة لي أصبحت المدينة بعد الجامعة مدينة عامودية، دفعتني دائمًا للتفكير في السماء قبل التفكير بالأرض.. لم تسمح لي برؤية أفقيّة صافية، المدينة التي ضمّت قبر أبي في المقبرة الشرقيّة، وقبر الشاب الذي أحببته في المقبرة الغربيّة، كان لا بدّ أن أهرب منها دائمًا إلى مدن أفقيّة مجاورة كي أتنفّس.

أصبحت المدينة بعد الجامعة مدينة عامودية… لم تسمح لي برؤية أفقيّة صافية، المدينة التي ضمّت قبر أبي في المقبرة الشرقيّة، وقبر الشاب الذي أحببته في المقبرة الغربيّة، كان لا بدّ أن أهرب منها دائمًا إلى مدن أفقيّة مجاورة كي أتنفّس


[1]  أغنية كانت مشهورة في الانتفاضة الأولى يبثها التلفزيون الأردني

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>