أمور شخصية واغتراب جماعيّ/ سماح بصول

أمور شخصية واغتراب جماعيّ/ سماح بصول

تنسج المخرجة مها الحاج في هذا الفيلم صورة واقعيّة عن المجتمع الفلسطينيّ بقالب من الكوميديا السوداء؛ مجتمع “الدمى” التي تحركها خيوط القوالب الاجتماعية والوضع السياسي، ولا تخلو المفارقات فيه من التأرجح بين نقل الواقع وتلميحات بانتقاده

personal

>

|سماح بصول|

سماح بصول

سماح بصول

“هاتوا البواريد.. اليهود طلعولنا من شرقا”.. يستفيق الجد في الثالثة صباحًا، صارخًا ومردّدًا هذه الجملة، فهي كلّ ما تبقى له في الذاكرة بعد إصابته بمرض ألزهايمر. لقد أطلق المرضُ العنان لكلِّ مخاوفه وأحزانه، فتحدّث عن الإنجليز واليهود والهرب وحماية النساء والأطفال؛ وهي مجتمعة كانت من أكبر التابوهات في حياته. “كان يُنكرها دائمًا ويفتعل ألمًا أو غضبًا كلّما سألناه”، ردّد أحد الأصدقاء على مسامعي هذه القصة عن جدّه أكثر من مرّة، ولا أملك الجرأة حتى الآن لأجيبه بخُبث: “خلّينا نصورُه بدون ما يحسّ!”

لكنّ مها حاج اختارت أن تصوّر “التيتا” وهي تروي قصّة من طفولتها قبل النكبة. قصّة لا تزال غصّة في قلبها، وكم كانت “محظوظة” بالمرض ليكون لها عونًا في إطلاق صرختها المكتومة: “كان عمري 8 سنين، لمّا أبوي أخدني معاه عَ مصنع البلاط بنابلس…” ولتكن هذه قصّتها الشخصيّة.

بين بيوت الناصرة العتيقة الصارخة “بالإتيكيت” وشقق رام الله الشابّة المبعثرة، ينتقل الفيلم بانسياب ورقّة بين القصص الشخصية لأبطاله، تتسلّل إليها شذرات من المشهد السياسيّ فتعطيها بعدًا إضافيًا يمنحنا القدرة على تفكيك الشخصيات في محاولة لفهم الكيان الخاص بكلٍّ منها، ودوره في صياغة شكل الشخصيات الأخرى.

يعيش الزوجان نبيلة وصالح (سناء ومحمود شواهدة) حياتهما الزوجيّة كجنديّيْن في نظام عسكريّ: الكثير من الرتابة والتكرار والوَحدة، ويملآن الفراغ العاطفيّ والإنساني بممارسات وأحاديث سطحيّة وباهتة. هو يقضي وقته في قراءة المعلومات عبر الانترنت، يقرأها بطريقة بليدة لا تترك لنا أو لنبيلة سببًا للاكتراث. أمّا هي فتمارس طقوس “ربّة المنزل” في مساحتها الآمنة -داخل البيت- متسلّحة بحركات ذات إيقاع واحد، تَحيك الصوف وتشاهد المسلسلات التركيّة، بشكل يوميّ ومن دون توقّف، كخطِّ إنتاج في مصنع. ويتّسع تصوير البورتريه العائليّ ليضمّ الأولاد الثلاثة: هشام (زياد بكري) المغترب في السويد، وطارق (دريد لداوي) الفنان الذي يعيش في رام الله هاربًا من الحرب الباردة التي يمارسها والداه، والابنة سمر (حنان حلو) المتزوجة من جورج (عامر حليحل) -وهو من مواليد الضفة الغربية- وتعيش معه وجدّته (جيهان دارميلكنيان) المصابة بالألزهايمر، في بيت عائلته في رام الله.

تنسج المخرجة مها الحاج في هذا الفيلم صورة واقعيّة عن المجتمع الفلسطينيّ بقالب من الكوميديا السوداء؛ مجتمع “الدمى” التي تحركها خيوط القوالب الاجتماعية والوضع السياسي، ولا تخلو المفارقات فيه من التأرجح بين نقل الواقع وتلميحات بانتقاده.

النساء والرومانسيّة واليد الإلهيّة
تدور ثلاثة أجيال نسائية مختلفة في فلك الواقع الذي أفرزته النكبة والنكسة… ممارسات إنسانيّة محكومة لوضع راهن سياسيّ، لكنها لا تمتنع عن مغازلة الانفتاح والمحافظة، الانعتاق والعبودية، التحرّر والتمنّع.

تعيد الابنة سمر مشاهدَ من حياة والدتها، تجمعها بزوجها الكثير من الصدامات، وتخلو علاقتهما من الحوار والرومانسيّة كما علاقة والديها. وتكرّر الطالبة الجامعيّة ميسا (ميساء عبد الهادي) بصيغة أكثر حدّة وقوّة بعضًا من ممارسات سمر في علاقتها مع حبيبها طارق الذي يتعامل معها كصديقة، وهي علاقة تقودنا إلى أحد أكثر المواقف تركيبًا في الفيلم: يغادر طارق وميسا رام الله متوجهيْن الى القدس للمشاركة في مراجعات إحدى المسرحيات، وعند وصولهما إلى الحاجز يبدأ أحد الجنود بتوجيه الأسئلة لطارق فيجيبه، وعندما يصلان مرحلة السؤال “البديهيّ”: ما علاقتك بالفتاة التي ترافقك؟ يجيب طارق: صديقة، a friend. لم تكن هذه الإجابة مستفزّة لميسا، بل كانت ضربة قاضية تجعلها تنسحب من زمكانية الموقف فتفرغ غلّها في الحبيب الذي لا يبادلها المشاعر ذاتها، ليُفضي تعنّت الأنثى المتمردّة بزجّهما في غرفة تحقيق لدى المخابرات الإسرائيلية!

بين بيوت الناصرة العتيقة الصارخة “بالإتيكيت” وشقق رام الله الشابّة المبعثرة، ينتقل الفيلم بانسياب ورقّة بين القصص الشخصية لأبطاله، تتسلّل إليها شذرات من المشهد السياسيّ فتعطيها بعدًا إضافيًا يمنحنا القدرة على تفكيك الشخصيات في محاولة لفهم الكيان الخاص بكلٍّ منها

يتسّم الفيلم بالتغريب عندما تتجلى أطياف الرومانسية في أكثر المواقف انعدامًا للعواطف، فتحظى سمر بمعانقة زوجها بعد نقاش حول جدوى الاستهلاك وفراغه من أيّ بُعد عاطفيّ بالنسبة لجورج- الزوج. ويتكئ صالح على كتف زوجته التي تبتسم للمرّة الأولى وهي تجتمع به على متن قارب خشبيّ صغير وسط بحيرة محاطة بالغابات بالغة الخضرّة بعد اتفاقهما على الطلاق!

وعلى محور واضح تتحرك فيه الشخصيات المركزية بتسارع بطيء، تظهر بين الحين والآخر شخصية “التيتا” وجارة الزوجين، ولو تخيلنا السيناريو بلا هاتين الشخصيتين لبقي التسلسل الروائي قائمًا، إلا أنّ وجودهما يمنحنا وجهة نظر إضافيّة على الشخصيّات المركزيّة، ويكوّن طبقة تعزل المشاهد عن التسلسل الروائيّ بنوع من العبثيّة.

يمكنني الإدعاء بأنّ الفيلم بكيانه المتكامل يحاكي مدرسة الكوميديا السوداء الأكثر نضوجًا وتفرّدًا في السينما الفلسطينية- مدرسة المخرج المبدع إيلي سليمان. الغربة والوحدة والاغتراب التي ظهرت أكثر من مرّة في العلاقات البارزة والمبطّنة للشخصيات لم تأخذ حيزًا منصفًا من الإطار الواسع للفيلم والذي ابتغى تقديم صورة عن الواقع الفلسطينيّ. فنحن في الداخل والضفة كما الشتات نعيش حالة اغتراب يفرضها الواقع السياسيّ والحالة الهلاميّة التي نمارس فيها يومنا، حيث الدولة التي لا تحتوينا، والأخرى اللا-دولة، وبقاع الأرض الأخرى التي لا تربطنا بها عاطفة أو ثقافة. تبقى الأمور شخصيّة، والمشاكل شخصيّة وفرديّة حتى وإن تقاسمها شعب كامل؛ فالذوات الفاعلة في الفيلم -كما الواقع- منشغلة بذاتها حدّ الهذيان، ولعلّ أصدق ما قدّمه الفيلم من تجسيد لحالة الهذيان هذه هو لحظة اللقاء الأول مع البحر، عندما تنزع أمواج صغيرة عن المشتاق لرؤية البحر همومَه وجسده وتبقيه مع روحه بفطرتها التي تتلذّذ بنسيم البحر.

في قلب الهامش

حتى وإن لم يأت الفيلم بالجديد الحصريّ على صعيد المضمون، إلا أنّ إخراجه ولغته السينمائيّة وحبكته الدرامية وموسيقاه الرائعة التي تخلق معنًى إضافيًّا للمشاهد، لا يمكن لها توفير ما يعين المشاهد على توقّع ما تخبّئُه الدقائق التالية، ولربما كانت هذه نقطة قوّته: قدرته على المفاجأة،

لكن… مع وعي كاملٍ لحبّ المخرج لعمله وعدم رغبته باقتطاع أجزاءٍ كبيرةٍ خلال عمليات المونتاج، إلّا أنني كنت أرغب بوجبات أقلّ مع الحوارات الصامتة بين نبيلة وكمال.

أمّا على صعيد اختيار الممثلين- الكاستينغ- فإنّ وجود الممثلين غير المحترفين في الأفلام الفلسطينية بدأ منذ سنوات، وربما فيه من الإضافة للشخصيات إذا أًحسن المخرج الاختيار، لكن ليكن المخرج حريصًا كلّ الحرص على عدم المبالغة فيه، لأنّ الممثل المحترف بمقدوره أداء دور أيّ شخصية، بصورة مقنعة للمشاهد.

>

إخراج: مها حاج ● إنتاج: باهر إغبارية ● منتج شريك: إيهاب أبو العسل ومنذر حاج ● منتجة منفذة: لورا حوا ● تمثيل: ميساء عبد الهادي، دريد لداوي، عامر حليحل، حنان حلو، زياد بكري، سناء شواهدة، محمود شواهدة وجيهان ميرملكونيان ● مدير تصوير: إلعاد ديبي ● موسيقى: حبيب شحادة حنّا ● مكياج: رشا سليمان ● مصمم ملابس: حمادة عطا الله 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. من المقالات القليلة التي قرأتها بالعربية والتي تتعامل مع الأفلام بجدية ومهنية. حبذا لو نرى المزيد من هذه المقالات لديكم!

  2. تحليل ضعيف جدا ومتملق

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>