إعادة الحياة إلى مراكز المدن الفلسطينية

بين برشلونة والناصرة كمثالين: علينا بلورة أفكار واستراتيجيات تخطيطية خلاقة، تهدف إلى إعادة الحياة والحركة إلى مركز المدينة كما نعهده من سنين خلت، وذلك من خلال العمل على إعداد مشروع متكامل

إعادة الحياة إلى مراكز المدن الفلسطينية

|هناء حمدان-صليبا وبن ثابت صليبا|

خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين قامت المؤسسات الرسمية في المدن الأوربية بإعداد إستراتجيات تخطيطية مختلفة ومكثفة لتطوير مراكز المدن التاريخية التي أهملت على مدى عقود. هذا التطوير بالإضافة إلى أنه أعاد الحياة الطبيعية إلى تلك المراكز من الناحية الاقتصادية والاجتماعية فقد ساهم بتقوية تلك المدن محليا وعالميا. بعض هذه المخططات بدأ العمل بها مع بداية القرن الماضي، وذلك كرد فعل للاضرار التي أنتجها التطور الصناعي في المدن الأوروبية، ولسياسة التخطيط الحديثة التي أهملت مراكز المدن القديمة وبالمقابل عملت على إقامة أحياء ومناطق سكن جديدة وحديثة. مع إستمرار تراكم الإهمال لمراكز المدن الأوروبية القديمة، قامت مجموعات السكان الشابة وصاحبة الإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية المتوسطة والمرتفعة بترك تلك المراكز، بحيث زاد من تدهورها اجتماعيا واقتصاديا وبنيويا. بهذا إنتقل للسكن في تلك المراكز، مجموعات سكانية فقيرة، مهمشة، ومجموعات مهاجرة. وهذا ما حصل أيضا لمركز برشلونة التاريخي، التي سيسلط الضوء من خلالها على موضوع المقال.

من الممكن اعتبار مركز البلد القديم لمدينة برشلونة الاسبانية إحدى التجارب الناجحة لسيرورة تطوير مراكز المدن التاريخية. مع أنه بداية كان التفكير على أهمية تطوير مركز المدينة في بداية القرن الماضي، من خلال التخطيط العام للمدينة، لكن العمل بشكل مكثف وجدي بدأ في سنوات الـ 80 للقرن الماضي وكانت البداية عند الإعلان في 1986 عن المركز التاريخي (Ciutat Vella) كـ “منطقة ترميم”. من أجل تسحين وتطوير المركز القديم والتاريخي لبرشلونة، ليس فقط ماديا، إنما أيضا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، عملت السلطة المحلية بإعداد وتطوير آليات وإستراتيجيات تخطيط مختلفة، منها: ترميم المباني التاريخية؛ تحديث شبكة المواصلات؛ إقامة مناطق خضراء؛ مؤسسات خدمات محلية؛ مؤسسات تعليمية وأكاديمية مختلفة، مثل أقسام من جامعة برشلونة؛ مباني ثقافية عامة وخاصة؛ معارض، مسارح ومتاحف مختلفة؛ بإشراك السكان في سيرورة التطوير والتخطيط.

بالانتقال من المدن الأوروبية إلى المدن الفلسطينية، التي قد تم تدميرها وتهميش ما تبقى منها منذ قيام الدولة وما زال، نؤكد هنا على الاختلاف بين الحالة الأوروبية والحالة الفلسطينية عامة. ما زالت تمتاز تلك المدن بتاريخ وثقافة وتراث حضاري ومعماري، بآثارها الرومانية، البيزنطية والعربية، ومعالمها التراثية الدينية. سوف نركز في هذا المقال على مدينة الناصرة كمثال، فهي بالإضافة إلى أهميتها التاريخية الدينية، يتميز مركزها التاريخي القديم بإرث حضاري وثقافة معمارية عربية-فلسطينية، التي من الممكن استغلاله لتطوير الإنسان الفلسطيني في المدينة اقتصاديا، اجتماعيا، وثقافيا، والحفاظ على الإرث المعماري والحضاري للمدينة. لن ندخل هنا في التفاصيل البنيوية (الحضارية، الثقافية والتاريخية) فليس هذا هدف المقال وليس هنالك متسع في هذا السياق. الهدف هو عرض الموضوع على الجمهور الواسع والمختلف، من مثقفين\ات واقتصاديين\ات، ومخططين\ات مدن ومعماريين\ات وشابات وشبان ورجال ونساء المدن الفلسطينية، من أجل التفكير بشكل آخر لتطوير استراتجيات تخطيطية واقتصادية وثقافية التي بإمكانها أن تؤدي إلى إعادة الحياة إلى مراكز المدن التاريخية الفلسطينية. بما يهدف بالتالي الحفاظ على ما تبقى من ارث معماري وحضاري في بلداتنا العربية.

في سنوات التسعين قامت بلدية الناصرة بإعداد مشروع الناصرة 2000، معتمدة بالأساس على التاريخ الديني للمدينة الذي هو بحد ذاته كنز لاستقطاب السياحة العالمية والمحلية، والذي من خلاله قامت بالعمل على تحسين البنى التحتية لمركز المدينة (السوق)، وهذا بحد ذاته جيد وإلزامي لبداية العمل على إعادة إحياء مركز المدينة، ولكنه ليس بالكافي. وبالتالي علينا بلورة أفكار واستراتيجيات تخطيطية خلاقة، تهدف إلى إعادة الحياة والحركة إلى مركز المدينة كما نعهده من سنين خلت، وذلك من خلال العمل على إعداد مشروع متكامل، يشمل، استكمال ترميم البنى التحتية؛ ترميم المباني القديمة لتصبح قابلة للسكن؛ العمل على تحسين شروط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتمكين سكان الناصرة والمنطقة بالعودة إليه (للمسكن وللمشتريات واستعمال الخدمات الاجتماعية والثقافية وغيره). والآن، وقد تحولت فيه السياحة إلى صناعة (تدرس حتى في الجامعات) يحتم علينا، في ظروفنا السياسية الخاصة، العمل على تحويل المركز القديم من مجرد طريق مرور للسائح إلى الأماكن الدينية إلى حيز سياحي بحد ذاته، يمكّن السائح من زيارة الأماكن الدينية والثقافية والتاريخية المختلفة؛ ويستعمل الخدمات المختلفة، مثل المطاعم والمقاهي والفنادق المحلية، وبالتالي يمكنه من استكشاف والتعرف على المدينة بسكانها وتاريخها وارثها الحضاري والديني. وفي هذا ما يساهم في  إعادة الانتعاش الاقتصادي إلى المدينة بحيث يؤثر إيجاباَ على الجميع .

نلحظ في السنوات الأخيرة وجود عدد من المبادرات الفردية في أطراف البلدة القديمة مثل مطاعم ومقاهي وأماكن لبيع الإعمال اليدوية منها الفلسطينية، وهذا يدل على وجود إمكانيات، رغبة وجاهزية للتطوير من قبل سكان المدينة. لكي تتحول هذه المبادرات إلى مشروع متكامل يتجاوز النوايا، من المفيد دراسة الحالات والتجارب العالمية، برشلونة كمثال، واستخلاص ما يلائم مدننا، وبالتالي خلق وتطوير استراتيجيات عمل شاملة ومتكاملة بإمكانها إعادة الحياة والحركة إلى مركز المدينة. بالإعتماد على الطاقات المحلية من شابات وشبان، معماريين\ات، ومخططات\ين واشراكهم\ن في العمل على هذا المشروع وفي اتخاذ القرارات، بما يغني عملية التطوير المرجوة. سنحاول سرد بعض الأفكار، بالاعتماد على التجارب الأوروبية، ومن خلال الواقع المحلي:

  • إعداد مشروع ترميم للمباني القديمة في مركز المدينة. على أن يشمل هذا المشروع على ميزانية تنفيذ وإمكانيات مساعدات مالية ومهنية للسكان؛ تحويل مركز المدينة إلى موقع إرث عالمي، وذلك لأهمية الإرث الحضاري والمعماري داخل المركز (حسب خبر من موقع بلدية الناصرة من تاريخ 1\2010، إنها تعمل على تقديم ترشيح الناصرة كمدينة إرث عالمي لليونسكو، لكن لم نجد أية حتلنة حول هذا الموضوع)؛ برامج تعليم للمهنيين والمعماريين والمهندسين حول طرق الترميم والمحافظة على المباني القديمة؛ والعمل على إعداد قوانين محلية تحمي المباني التاريخية وحماية الممتلكات الثقافية.
  • إعداد مشروع لتسويق مركز المدينة، محليا وعالميا -Marketing .
  • إعداد مشروع لتسهيل الانتقال داخل البلدة القديمة، وإقامة مواقف عامة للسيارات.
  • استغلال الموارد المحلية، مثال على ذلك إقامة مشاغل حرفية في قلب المركز، مثل “فاخورة مسمار”، أواني نحاسية، أعمال تطريز، ومعارض فنية وحرفية أخرى.
  • تقديم تسهيلات تحث على إدخال مشاريع اقتصادية ( مثل Zara و\أو Mango وغيرهما) تشجيع إقامة خدمات ترفيهية، مثل المطاعم والمقاهي والفنادق الصغيرة والأماكن الثقافية داخل مركز المدينة، التي بإمكانهم جذب سكان المدينة والمنطقة إلى المركز من جهة، ومن جهة أخرى خلق فرص عمل.
  • العمل على إعادة بعض الأقسام الخدماتية التابعة لبلدية الناصرة إلى مركز المدينة، من خلال استغلال المباني التاريخية القائمة (مبنى السرايا) بالإضافة إلى مراكز ثقافية عامة وخاصة. حيوية هذه المؤسسات وضرورتها، ستعيد المواطن إلى إرتياد البلدة القديمة للحصول على الخدمات بما يساهم بالتالي إلى إعادة الحركة إلى المكان.
  • إشراك مجموعات اقتصادية محلية في العمل على تطوير مركز المدينة.

في حال تم تطوير استراتيجيات تخطيطية بما يتماشي مع ورد أعلاه، مع التأكيد على إجراء دراسة أوسع وأعمق وبإشراك مختصين\ات من مختلف المجالات، لا بد أنه سيعيد الحركة والحيوية إلى مركز البلد (السوق) وهذا سيساهم من جهته في تطوير حقيقي للمدينة وسكانها، وهو ما يكفل الحفاظ على الإرث الحضاري والمعماري للبلد.

بالرغم من أن الحديث تناول مدينة الناصرة، إلا أنه قد يصح لباقي البلدات العربية.

(هناء حمدان مخططة مدن وباحثة ما بعد-الدكتوراة في جامعة برشلونة؛ بن ثابت صليبا مصمم داخلي)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. عزيزي الياس
    بالانتقال من المدن الأوروبية إلى المدن الفلسطينية، التي قد تم تدميرها وتهميش ما تبقى منها منذ قيام الدولة وما زال، نؤكد هنا على الاختلاف بين الحالة الأوروبية والحالة الفلسطينية عامة.!!!
    كان هذا مقتطف من النص !
    السؤال هو : أننا نعي تماما البنية المجتمعية لشعبنا وتركيبته، بالمقابل هذا لا يمنع من البحث عن الوسائل التي تلائم واقعنا والتي من خلالها نستطيع اعادة الحياة والحيوية الي مراكز المدن .بالأساس الهدف منه الحفاظ على التاريخ والهوية الأنسانية والمعمارية لما تبقى من هذه الأحياء القديمة وذالك من اجل الحفاظ علي وجودنا في ظل واقعناالسياسي الأقتصادي في البلاد !؟
    بما أننا لم نعطي الحلول (سلطنا الضوء على بعض الوسائل )
    من جهة ، شددنامن جهة اخرى على عدم نسخ الآليات من الغرب !! بل الاستفادة من التجارب الناجحة هناك. بينناالعديد من الكوادر (الا تعتقد ذالك ؟)التي بامكانها بتفكير معمق ودراسة موسعة من إيجاد الوسائل والآليات الملائمة، اذا صدقت النوايا !!
    على كل حال يمكن اعتبار تعليفاتك جزء من عملية الدراسة ،البحث والتفكير من أجل الوصول الى الهدف ! وهذا من اهم أهداف عملية الكتابة والنشر ، ألا تعتقد ذالك ؟؟

  2. عزيزي ثابت
    التكلم عن الخليل او بير زيت او غيرهم من المحاولات العديدة في العالم العربي والمحلي والتي لم ينجحوا حتى اليوم باعادة الاحياء لهذه المراكز كنسيج اجتماعي وعمراني متكامل وليس كأشلاء او اجزاء منهاربما يعود بالاساس لعدم وضع علاقة السكان مع مبانيها كهدف اساسي في ادبيات الترميم .
    يقول الدكتور خالد القواسمي(رئيس لجنة اعمار الخليل) في احدى المحاضرات بأننا اخطأنا عندما منحنا هذه العائلات البيوت جاهزة ومرممة من دون تعب ودون مقابل مادي ومعنوي وبهذا فشلنا في اقامة احساس مشترك بالانتماء لمدينتهم ومسؤليتهم عنها ..فكان ان تحسنت ظروف احدهم المعيشية يترك البلدة القديمة ويختار السكن بالخارج. فالشكلة ليس انهم فقراء فمعظم مدننا القديمة اليوم تسكنها الطبقة الفقيرة من ضمنها الناصرة والمشكلة ايضا ليست فقط سياسية والا كيف نفسر تمسك اهل البلدة القديمة في القدس مع العلم ان معظمهم من الطبقة الفقيرة فالبعكس ممكن ان يتحول العامل الديني والسياسي الى سبب اقوى للتمسك بالمكان علما ان للخليل قيمة دينية وسياسية قوية ايضا.
    اذا نظرنا اليوم الى البلدة القديمة بالناصرة بتمعن نرى ان هنالك بعض الحارات التي ما زالت تقوم بوظيفتها بشكل جيد مقارنة مع معظم الاحياء الاخرى وذالك لان هذه الاحياء ما زالت محفافظة على نسيجها الاجتماعي المبني على اساس العائلات وشعورهم القوي بالانتماء لهذا التاريخ. اقصد بذلك الاحياء المحاذية للجامع الابيض.
    لا اظن ان النسيج العمراني في برشلونة مبني على نسيج اجتماعي مترابط كمدننا العربية. السؤال هل ما زال بمقدرتنا بناء نسيج اجتماعي متراط او اعادة نسج ما تمزق!
    يقول ناصر الرباط اننا ما زلنا بحاجة لخلق المواطن الواعي بمواطنيته والمقدر لواجبتها وحقوقها. فيقول ان المجتمع المدني هو نفسه الشرط الاول والاساسي للحفاظ على مدننا التاريخية ومبانيها المهمة وكل حل عدا ذالك لن ينتج لنا سوى حدائق ديزني لاند تاريخية فيها بعض المباني الجميلة واللافتة التي ربما جذبت بعض الزوار اليها ولكن لا حياة فيها ولا روح عمراني او مدني . وبرأيي هذا ينطبق ايضا على باقي اجزاء مدننا.
    ما اريد ان اقوله هو ان المشاريع والخطط التجارية والسير وترميم الحجر لن ينجح بجعل مواطنينا يعي بان هذا العمران هو هويتنا وتاريخنا . فيجب تنمية المؤسسات الاجتماعية الفاعلة بهذا المجال والذي تفتقر اليه مجتماعتنا.

  3. لقد سنحت لي الفرصة زيارة البلدة القديمة في الخليل !! الحديث هنا لم يتناول عملية الترميم !؟ الموضوع يتحدث عن اعادة الحياة بكل معانيها الي تلك المراكز .ان ما جرى بالخليل وهو ليس بمقياس لعدة اسباب أهمها معيقات الأحتلال ، ان ما حصل هناك هو عملية ترميم للمباني بداية ومن ثم تم منحها للعائلات “الفقيرة” للاقامة فقط ! بالتالي تحولت الى حي معدوم مهمل ، رمادي اللّون لا مشهد حياتي به ….!!

  4. يكثر الحديث في الاونة الاخيرة على موضوع اععادة احياء القديمة في العالم العربي وحتى داخل فلسطين من الخليل الى بيت لحم الى كل المشاريع التي قامت بها رواق ولكن لللاسف حتى اليوم لم نرى عملية اعادة احياء لمركز واحد مع العلم ان كل هذه المحاولات قد وضعت في خطط عملها هذه البنود المذكورة.
    ممكن ان يكون السبب هو انهم جميعهم حاولو الانطلاق من هذه النقاط هذا ما جرى ايضا في دمشق وما تبقى من مركز بيروت..
    لا يمكن مقارنة مراكز مدننا بالمراكز في اوروبالانها تختلف تماما.
    مراكز مدننا كانت مبنية على توازن اجتماعي وتخطيطي متقن ومتوازن,مبني على قبائل وعائلات وحارات ومع تخلخل هذا التوازن انهارت هذه المراكز
    يجب العل اولا على اعادة توازن اجتماعي وبالذات في مركز الناصرة والتي تتميز عن باقي مدننا العربية الاخرى انها ما زالت تحتفظ ببعض هذة الحارات العائلية الاصلية ..
    لا يمكن وضع خطط عمل من دون معرفة عميقة لهذا الجهاز المحكم اي المدينة الاسلامية التقليدية.
    السؤال كيف يمكن اعادة هذة العلاقة بين هذه المباني وسكانها واعدة الشعور بالانتماءوهل هذا ممكن اصلا؟
    ممكن يكون اكثر ناجع دراسة مدن الاندلس بطبيعة تشابه نسيجها الاسلامي التقليدي المشابه لمدننا وبالذات انهم نجحوا في ربط سكان هذه المراكز اقتصاديا ومعيشيا بهذه الاحياء.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>