إلى الجحيم أنتم وعَروضكم!/ مرزوق الحلبي

إلى الجحيم أنتم وعَروضكم!/ مرزوق الحلبي

من أصحاب العروض في ثقافتنا مَن يتواطأ الآن مع نماذج فكرية عقائدية متقادمة يصفونها لنا خلاصا وطريقا إلى الجنة. فلا غرابة أن نرى بعض هؤلاء ينشطون على خط موازٍ للأصولية الدينية، وإن انتحلوا الشعر تضليلا

saaah

>

|مرزوق الحلبي|

مرزوق الحلبي

مرزوق الحلبي

العروض كهف الشعر وقفصه- هذا ما يبدو لي الآن وأنا أتابع ما ينشره البعض تحت عنوان “شعر” في صفحات الفيسبوك أو في منتديات وروابط شبكية.

هذا، ما يبدو لي واضحا من إصرار البعض على تسجيل اسم البحر الذي اختاروه لنصّهم في مكان بارز في أسفله ومن فائض العروض والتغني به!

هذا، ما يبدو لي من مغالاة البعض في التنظير للعروض والادعاء أنهم يُضيفون إلى أوزان ابن أحمد الذي يجلس مكتئبا في زاوية مكتبه متحسّرا، يندب سوء حظه أنه لم ينتبه لما أضافوه وكان على مسافة تفعيلة أو تفعيلتين منه!

هذا، ما يبدو لي من الكسر والخلع والتطبيش في “موزون” هؤلاء حين ينثرون كلامهم أمامنا كأنه الورد تحت أقدام العروس فإذ به لوثة طين!

هذا، ما أراه جليا في الوجوه المهشّمة للمفردات المحشورة في زوايا الشبلونات العروضية إكراها بلا أيّ معنى!

هذا ما أراه من ضحالة هذه النصوص ويُبسها وابتذالها و”دبقيتها” ـ إذا صحّ التعبير! هذا، علما بوجود نصوص عروضية راهنة فنية وجميلة وإن كانت قليلة، خاصة تلك التي ذهبت في خيار التفعيلة الحرة والإيقاع النسبي. ومع هذا أعتقد أن المبنى العروضي بشكل عام تقادم وصار عبئا على حركة الشعر، وصار لدى البعض هاجسا مَرَضيا يستدعي تدخل غير النُقاد.

أقدّر أنه يُمكن لهذه للظاهرة أن تكون محصّلة اعتقاد بأن العروض شرط الشعر الأول والأخير، وأن لا شعر خارج العروض وما يستتبعه من وزن وقافية وتفعيلة! أو أنها قد تكون ثمرة الجهد الذي يبذله كثيرون لإثبات كونهم شعراء غير مهموزي النسب يتحدّرون من صُلب عروضي، فتُقبل عضويتهم في هذه الرابطة الخشبية أو ذاك المنتدى الشبكي دونما أسئلة وأجوبة! أو قد تكون ثمرة اختلاط مفهوم الشعر على مُريديه الحاليين فانكفأوا إلى نقطة نظام يؤسسون عليها العروض! لكن قد يكون في الظاهرة نكوص أعمّ وأشمل إلى بدايات مُفترضة في الشعر كما هي العودة إلى بدايات وذُرى في الفكر والهوية والسياسة والوجود. وأعتقد أن العودة الزفافية إلى العروض تفترض نوعا من استعادة طمأنينة شعرية وعامة مفقودة. كأنهم بالعروضِ أو فائض العروض يُعيدون للشعر ما تعطّل في مسيرته وفي نصوصه. أو كأنهم يقولون: اكتب عروضا والتزم به صحّ شعرك واستقام. كأن العروض هو الحلّ!

فرض بعض المحدثين من قبل تحديا لافتا على الشعر العمودي وعلى العروض بنثر العروض إلى تفعيلات متوترة وإيقاعات خارج العروض، ثم بإبداع القصيدة الحرة وصولا إلى تلك المسماة “قصيدة النثر”. كأنهم أرادوا للشعر مثلما لبقية المعارف والمرافق، أن يقوم على التعددية في الحقائق الشعرية والتأكيد على ضرورة أن ينمو الشعر ويتطور ويتسع للكون. تطوّر يستدعي التحرر جزئيا أو كليا من قيود الوزن والقافية والبحور كلهاـ بحور ابن أحمد وتلك التي أضافها “جماعتنا” مشكورين! ربما هذه الحالة تحديدا من فرضية “تعدد النماذج الشعرية” وإمكانية أن يعيش الشعر خارج بحوره وعروضه وتفعيلاته المكرّسة ناموسا وأطواقًا ومبانيَ، قد استنفرت سدّنَة العروض بوصفه عهدا شعريا قديما وهيكلا لطقوس الشعر وتعميد الشعراء. وفي الشعر كما في السياسة والاجتماع- هناك مَن يحاول إعادة الشعر إلى نموذج من الماضي يشكّل الذروة تماما كما تفكّر حركات الإسلام السياسي الجذرية التي تريد إعادة الزمان إلى ماض مضى وانقضى من 1450 عاما، وإلى نص وموروث مقدّس يمثّل بالنسبة لهم ذروة المعرفة والإشراق والخلاص. يتّضح أن في الشعر حركة مشابهة لما هو في الاجتماع والسياسة، تريد أن تعود بنا وبه إلى الطهارة التي في العروض.

يحاول كثيرون تكبيل أيدي وأرجل الحركة الشعرية بقيْد العَروض مدّعين ضرورة الحفاظ على عفّة الشعر وطهارته من الدخلاء غير المؤمنين بالعروض وطقوسه وقواعده وصلواته وفروضه. هذا بعد عقود على قيام مبدعين مجددين بتكسير قوالبه ورميها في وجه السجّان والتفرّغ للإبداع خارج جدران العروض. العودة إلى العَروض شعريا تشبه وتطابق ربما العودة إلى مجد مفقود وذروة ضائعة في الخواء الفسيح. النكوص إلى ذروة الشعر المفترضة –العروض- هو نكوص عن الإبداع والاتجاه ناحية الاتباع، وهو نهج قاتل في الثقافة العربية بمجملها وفي الشعر الذي يفضّل الشعر العيش حرّا. والعودة القسرية به إلى العروض قد تعني إعادته إلى قُمقمه أو الحدّ من فنيته وقدرته على الحياة الكريمة.

لا أستطيع هنا الإفلات من إغراء التشبيه؛ فإعادة الشعر إلى حبسه توازي تطلّع الأنظمة المستبدّة إلى حبس الشعوب ومحاصرتها وقمعها. في السياسة والأنظمة يقمعون الناس والإنسان وفي الشعر يحاولون ضبط الحالة الشعرية وتقويمها عنوةً من خلال قمع اللغة الشعرية وتعليب المُفردات. وهم يدعون أنهم يُعيدون الشعر إلى مرحلة الطهارة أو الطهارة إلى الشعر فيلبسونه حزام العفّة الشعرية المؤلّف من طبقات عروضية فوق طبقات. ومن هنا، ليس صُدفة أن تبدو مُعظم النصوص العروضية الحالية مجرّد نظم عسفي للمفردات داخل شبلونات جاهزة مُسبقا. وهذا ما يجعل مفرداتها كالسمك المسموم المتراص بفعل الموج –الإيقاع- على رصيف الميناء. منحى يُفضي، إذًا، إلى حالة موت لا إلى حالة شعر.

هناك دائما، مَن ينشد الحرية في الحياة وفي الشعر وفي الإبداع عموما ويجرّب حظه منها. فلا يتردّد في كسر الإيقاع أو العزوف عن فكرة أو مبنى أو نسق متقادم. وأرجح أن هؤلاء مسكونون بالشك والسؤال والقلق الوجودي والإبداعي لا باليقين ولا بالمثالية أو الطوباوية الشعرية وهندسة الكلمات وتعليب اللغة. على الضفة الأخرى يربض مَن يُخيفهم مثل هذا الوضع من انتفاء وجود حقيقة شعرية واحدة مُطلقة أو حقيقة وجودية مُطلقة يفترضون العَروض ـ ولا شيء غيره ـ أداة لاصطيادها وامتلاكها. وهنا اقدّر أن بعض المشتغلين في ورشة العروض فعلا أو تبجحا إنما يُريدون في آخر النهار أن “يتميّزوا” و”يبرزوا” شعريا مقابل آخرين من شعراء لا هوية شعرية واضحة لهم. وهنا يصير العروض هوية الشاعر. فإذا أنشأ نصا عروضيا أو اثنين -مع انكسارات وانهيارات عروضية واضحة- حتى يعتقد أنه استصدر بطاقة هوية شعرية لا سيما من لدن “سلطات العروض” في الروابط الشبكية الافتراضية، أو من أستاذ جامعي من الجيل القديم أو من أستاذ جامعي حديث العهد علّمه أستاذ من الجيل القديم وأغواه إلى أن أدخله “جنة العروض” ولمّا يبرحها معتقدًا أنّ لا شعر خارجها!

أقدّر بناء على المعرفة الشخصية بتجارب العديد ممّن يخوضون تجربة الشعر بالاتجاهين أن اعتماد خيار العروض إنما يأتي من فُقدان الثقة بالنفس المُبدعة شعرا، ومن غياب كل دراية ومعرفة بجوهر الشعر والشاعرية. أو بكلمات أخرى، لعدم قُدرتهم على إدراك مواضع وجود الشعر وماهيته، فيخبئون وراء العروض شرطا للشعر أو صِلَة به. وكلامي هذا ينطبق حرفيا على كثيرين ممَن يخوضون في الشعر من باب مضادة للعَروض. فبين هؤلاء أيضا مَن لا يربطه بالشعر إلا اعتقاده أنه يكتب الشعر بينما هو يصفّ أو ينشر كلاما مائعا أو إنشائيا أو تقريريا متخشبا تماما، لا فرق بينه وبين “السمك المسموم” في الشبلونات العروضية- كلاهما يلد ميتا!

من أصحاب العروض في ثقافتنا مَن يتواطأ الآن مع نماذج فكرية عقائدية متقادمة يصفونها لنا خلاصا وطريقا إلى الجنة. فلا غرابة أن نرى بعض هؤلاء ينشطون على خط موازٍ للأصولية الدينية، وهم وإن انتحلوا الشعر تضليلا، كانوا يريدون إشغال وظائف اجتماعية أمنية أخرى: ضابط مباحث أو جلّاد مثلا أو السيّاف؛ وظائف الضبط والتنشئة وهندَسة البشر. ومن هنا فإن خطابهم العروضي يُشبه في أحيان كثيرة خطبة الحجاج وأن “المحاكمات” الشعرية التي يُقيمونها لا تقلّ عُسفا عن محاكمات الأنظمة الشمولية!

وختاما، إلى الجحيم أنتم وعروضكم!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>