الأدب يوثّق الاحتلال: رؤية ما لا يُرى / رائف زريق

الأدب يوثّق الاحتلال: رؤية ما لا يُرى / رائف زريق

قراءة في كتاب “مملكة الزيتون والرماد” الذي صدر لمناسبة خمسين على الاحتلال الإسرائيليّ ■ الكتاب يصف ما هو أبعد من الاحتلال وأسوأ منه. يصف احتلالًا لم يعد مجرّد احتلال وذلك لأسباب ثلاثة: أولًا لأنّه لم يعد عسكريًّا فقط وإنّما أصبح مدنيًّا أيضًا؛ وثانيًا لأنّه لم يعدْ مؤقّتًا؛ وثالثًا: لأنّه لم يعد أيديولوجيًّا

Kingdom_cover.indd

.

|رائف زريق|

رائف زريق

رائف زريق

ينجح كتاب “مملكة الزيتون والرماد” في مهمّة لم يرسمها لنفسه أبدًا، ولَم يخطّط لها إطلاقا. ولدت فكره الكتاب -كما يُستدلّ من عنوانه- ليكون شاهدًا على الاحتلال وبشاعته وجرائمه، وذلك في الذكرى الخمسين للاحتلال الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة وغزّة. إلّا أنّ من يقرأ الكتاب ينتبه إلى أنّ الكتاب لا يصف الاحتلال، وإنما شيئًا آخر يشبه الاحتلال، لكنه يختلف عنه: الاحتلال يوحي بمنظر الجنود والعسكر وهاجسه الأمن؛ إلّا أنّ الكتاب مليء بالمناظر والشواهد والشهادات على ما هو  أكثر من احتلال: على منظومة تحكّم وسيطرة في كلّ شيء تقريبا: في السير على الطرقات وفِي الحواجز، والهويات، وتقسيم المناطق وفصلها وتجزئتها، وفِي مناهج الدراسة وحياه سائقي التكسيات (“سامي”، لرجا شحاده)، وعلى منظومة تعمل على إشاعة القلق الدائم ما يُلزم الفلسطينيّ على أن يكون جاهزًا دائمًا وأبدًا مع أوراقه الثبوتيّة (“سام”، لمايكل شيبون)، وعلى منظومة تلزم الفلسطينيّ بالوقوف بالدور يوميًا على الحواجز، والاحتلالً كمظومة تحرم الفلسطينيّ من قدرته على التحكّم في الوقت (مقالة علاء حليحل)، وغيرها.

يشعر القارئ بأنّه أمام منظومة تجثم على صدر الفلسطينيّ، تدخل أنفاسه وتنظّم حواسّه، تعيد ترتيب مشاعره، تدخل غرفه نومه، تشقّ الأُسَر، وتهدم العائلات وتحوّل وجوده إلى وجود عرضيّ قلِق، عصبيّ، دائم التوتّر، يسير على خيط رفيع من الوقت فوق أرض تتحرّك دائما من مكانها.

بهذا المعنى فإنّ الكتاب يصف ما هو أبعد من الاحتلال وأسوأ منه. يصف احتلالًا لم يعد مجرّد احتلال وذلك لأسباب ثلاثة: أولًا لأنّه لم يعد عسكريًّا فقط وإنّما أصبح مدنيًّا أيضًا؛ وثانيًا لأنّه لم يعدْ مؤقّتًا؛ وثالثًا: لأنّه لم يعد أيديولوجيًّا.

الأوّل: الاحتلال يقوم طبعًا بقوّه العسكر، لكنّ العسكر يقوم بما هو أكثر من الاحتلال العسكريّ؛ فهو يبني المستوطنات والسكك الحديديّة والجامعات والمعاهد. العسكر أصبح في الخلفية لكن واجهة الاحتلال اليوم هي المستوطنات والحياة المدنيّة “العاديّة”. اليوم يجلس في المحكمة العليا وفِي الحكومة الإسرائيلية مستوطنون.

ثانيًا: للاسباب أعلاه فإنّ الاحتلال يدير نفسه باعتبار أنه ليس مؤقتًا، وإنّما جاء ليبقى وليجثم فوق صدور الفلسطينيّين. هذا لا يعني أنّ مصيره أن يبقى، لكنّ هذا يشير إلى فهمه لذاته وطريقه إدارته لنفسه. اهتماماته تشمل كلّ شيء، من الماء وحتى الهواء، وخططه طويلة الأمد وشاملة.

النصوص الأدبيّة في الكتاب التزمت بما تراه، ونجحت باقتناص الواقع بتفاصيله الحياتيّة اليوميّة… ووثقت ما هو أبعد وأثقل وأبغض من مجرّد الاحتلال. قد يكون في ذلك تفوّق للأدب على القانون، لأنّ لغة القانون وحقوق الإنسان تقوم على مفهوم “الخروقات” الذي يرى لحظات “النشاز” الخارجة عن المألوف وعن الإطار، لكنّه عاجز عن رؤية الإطار أو الخلفيّة ذاتها

ثالثًا: لم يعد مشروع الاستيطان مشروعًا لغُلاة المستوطنين من اليمين الدينيّ- القوميّ المتزمّت كما كان منذ عقود. المستوطنات والاستيطان هي مشاريع تبادر إليها من أعلى حيتان المقاولين التي تركض وراء أرض رخيصة لتبني عليها مشاريعها العمرانيّة، ولتسوّقها إلى فئات شعبيّة تسعى إلى مستوى معيشيّ جيّد على بعد نصف ساعة من تل أبيب. تُضاف إلى كلّ ذلك التسهيلات الضريبيّة والدعم الحكوميّ السخيّ في الخدمات الاجتماعيّة: فإسرائيل تقيم نظامًا نيوليبراليًّا داخل حدودها ودولة رفاه اجتماعيّ في المستوطنات. عليه، فإنّ الفئات المستفيدة من الاستيطان لم تعد حصرًا على المجموعات الأيديولوجيّة اليمينيّة الدينيّة.

نتيجة لكلّ ذلك، فإنّ الاحتلال والاستيطان ينتقلان إلى مراحل البداهة. الاحتلال يخرج من الواجهة وينتقل إلى الخلفيّة، بحيث أنه لم يعد هو الحدث إنما ليصبح خلفية للحدث: إطلاق نار على حاجز، حمله مداهمات في مخيم ما، مصادرة أراض، إغلاق مؤسّسة. هذه كلها أحداث على خلفيّة الاحتلال، وشأن كل خلفيّة أن تصبح شفافة مع مرور الوقت، لأنّها تصبح الإطار الناظم والذي بداخله تجري الحياه وتنتظم، ليصبح التفكير حول كيفيّة إحداث تغيير داخل الإطار- لا على تغيير الإطار نفسه.

هذه البداهة، وهذه العاديّة للاحتلال، هما التحدّي الذي واجهه الكتاب: كيف تكتب حدثا عندما يكون الحدث هو الحياة اليوميّة العاديّة والتي هي غير عاديّة؟ كيف يمكن القبض على لا عاديّة الروتين؟ كيف تكتب عمّا يبدوعاديًّا بصفته استثنائيًّا؟

النصوص في الكتاب، بكونها نصوصًا أدبيّة، التزمت بما تراه، ونجحت في اقتناص الواقع بتفاصيله الحياتيّة اليوميّة. وفي التزامها بالتجربة المُعاشة فإنّها “خانت” المفهوم والمهمة التي التي أوكلت بها، وهي مهمّة توثيق الاحتلال، فإذا بها توثق ما هو أبعد وأثقل وأبغض من مجرّد الاحتلال. قد يكون في ذلك تفوّق للأدب على القانون، لأنّ لغة القانون ولغة حقوق الإنسان تقوم على مفهوم “الخروقات”. ومفهوم الخروقات هو مفهوم خطير لأنّه يرى لحظات “النشاز” الخارجة عن المألوف وعن الإطار، لكنّه عاجز عن رؤية الإطار أو الخلفيّة ذاتها. قد يكون من ميزة الأدب أن يرى ما قد لا يراه القانون، وأن يرصد الرتابة القاتلة باعتبارها حدثا وذلك كي لا نقع في بلادة الإحساس، وكي لا ندير ظهورنا لآلام الإنسانيّة عمومًا وشعبنا الفلسطينيّ خصوصًا.

_________________________

“مملكة الزيتون والرماد”. إصدار الطبعة العربيّة: “كتب قديتا”. تأليف 26 أديبًا وأديبة من العالم وفلسطين وإسرائيل لمناسبة 50 عامًا على الاحتلال الإسرائيليّ في الضفة وغزة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. لهذا ومنذ 30 عام اقول للفلسطينيون اننا لا نواجه حالة ابارثيد على النمط الجنب افريقي ولكن لا حياة لم تنادي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>