حديث في الحُكم والتجربة الجمالييْن: هل الحكم الجماليّ ممكن؟/ رائف زريق

حديث في الحُكم والتجربة الجمالييْن: هل الحكم الجماليّ ممكن؟/ رائف زريق

في التجربة الجماليّة بُعد دائم من الدهشة، لأنها غير متوقّعة، وهي تعبير عن ذلك الالتقاء المثير للحريّة مع الضرورة، لِلعفويّ مع البنيويّ، من دون أن يفرض الأخير نفسه على الأوّل. في هذا السياق قد تكون المقارنة مع الحب مثيرة وبنّاءة، وهو ما يفسّر العلاقة الوطيدة بين فكرتيِّ الجمال والحبّ

Marcel_Duchamp

مارسيل دوشامب، “المبولة”، 1917

.

|رائف زريق|

رائف زريق

رائف زريق

يبدأ التوتر من صيغة السؤال نفسه الذي يجمع بين منظومتين تسود بينهما حالة من الجفاء: الحكم من ناحية، والجمال من ناحية أخرى. فمفهوم الحُكم (Judgment) يفترض وجود المبادئ الكونيّة، وعملية إصدار الحكم تقوم على إدراج الحالة العينيّة المشخّصة تحت القانون الكونيّ المجرّد. عندما يحكم القاضي على المتهم بالسجن لإدانته بتهمة السرقة مثلا، فإنه يُخضع الحقائق الحسيّة والوقائع الماديّة العينيّة إلى المفردات الكونيّة التي تحدّد مخالفة السرقة، ويصدر في النهاية الحكم فيما إذا كانت الوقائع العينيّة الماديّة والحقائق المعروضة أمام المحكمة تندرج تحت إطار المخالفة كما ينص عليها القانون. أي أنّ القاضي يلج الموضوع وهو مزوّد بأدوات معرفية جاهزة، وهو مزوّد بتعليمات القانون ومفاهيمه الصارمة والموضوعيّة، والحكم لا يتعدّى كونه فحصًا عمّا إذا كانت الحقائق العينية تندرج تحت الصيغة العامة للقانون. القانون ينصّ على أن من يسافر بسرعة تزيد عن 50 كم داخل المدينة يكون قد ارتكب مخالفة سرعة؛ دور القاضي أن يفحصَ ما إذا كان الشارع الذي تسير فيه السيارة هو “داخل المدينة”، وعليه أن يتأكّد ما إذا كانت السرعة تجاوزت 50 كم في الساعة. هذا هو جوهر الحكم في الحالة القانونيّة، والذي يفترض وجود المعايير الجاهزة.

إلّا أنّ الجماليّ بجوهره مرتبط بالحواسّ، وهو تعبير حسّيّ. ليس صدفة أنّ الجمال في اللغات اللاتينيّة مرتبط لغويًّا بالحسّ (Aesthetic)، وهي كلمة ذات أصل يونانيّ تعني الحواسّ. إلّا أنه -وكما نعرف- فإنّ الحواسّ تحمل طابعًا ذاتيًّا شخصيًّا، يتجاوز المنطق والمفاهيم العقليّة. الطريقة التي أشاهد فيها منظرًا معيّنًا هي خاصة بي، والطعم الذي استشعره عندما أتناول الشوكولاتة هو طعم خاصّ بي، والأشياء والروائح التي تثير اشمئزازي أو تثيرني، هي ردود فعل خاصّة وذاتيّة جدًّا. يبدو أنّه من الحُمق أن يحاول شخص ما أن “يقنع” شخصًا آخر بأنّ عليه أن يحبّ الكنافة أكثر من الشوكولاتة، أو أنّ الكنافة ألذّ طعمًا من الشوكولاطة. من غير المعقول أن يكون أحدُ الأطراف قادرًا على “تصحيح” “خطأ” موقف الآخر من الشوكولاطة أو الفلافل مثلًا، أو من رائحة الياسمين. وتبدو لنا محاولة تعليل أو تبرير موقفنا من تفضيلنا “الكنافة” على “الشوكولاطة”، أو “الفلافل” على “الكبّة”، نوعًا من العبث الفكري ومن إضاعة الوقت، علما بأنّ ذوقَنا في الأطعمة والروائح هو ذاتيّ بحكم تعريفه، وأيّ محاولة لإخضاعِه لحكم منطقيّ عقلانيّ تبدو كمحاولة فاشلة قبل أن تبدأ.

طبعًا يختلف الوضع عند الحديث عن المفاهيم المنطقيّة، إن كان ذلك في العلوم الطبيعيّة أو حتى في الفلسفة. في مثل هذا النوع من المحاججات يحقّ لنا أن نفترض أنّ هناك إجراءً ما يمكننا بمساعدته أن نفحَص صحّة مقولاتِنا، ومن الممكن لطرف من الأطراف أن يظهر للطرف الآخر “خطأه” أو ضعف إدّعائه، أو تناقضاته الداخلية، الخ.

أين يقع الحكم الجماليّ على هذا المسار؟ هل هو أقرب إلى الحكم الذي يستند إلى عالم المفاهيم –وبالتالي فهو حكم موضوعيّ- أم أنّه أقرب إلى كونه تعبيرًا عن مجرّد ميول حسّيّة شخصيّة وذاتيّة ولا تقبل الخضوع لأيّ معايير خارجة عن الذات؟ وهل كونه ذاتيًّا يلغي طابعه الموضوعيّ، وهل كونه موضوعيًّا يلغي طابعه الذاتيّ حتمًا؟ وما المقصود بالقول إنه حكم موضوعيّ؟ أين تكمن موضوعيّته؟

من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة مباشرة، ولذلك سأحاول محاصرة السؤال، أي محاولة معرفة المناطق المجاورة مفاهيميًّا لهذا السؤال، وعن طريق ذلك تحديد الجواب من الخارج، من خلال “محاصرته” معرفيًّا، أي من خلال فهم وتحليل المفاهيم “المجاورة” لمفهوم الحكم الجماليّ.

قد تكون الطريقة الأمثل للتعامل مع الإنتاج الفنيّ الجماليّ هي باعتباره إعادة ترتيب مكوّنات العالم وتنسيقها وترتيبها بطريقة تؤهّلنا لرؤية العالم من جديد، والحكم الجماليّ هو الآخر إعادة تفكيك وبناء لعناصِر المنتوج الفنيّ، بحيث يُضيئه ويمكّننا من رؤية تشكّلات في العمل الفنيّ كانت كامنة فيه

بداية يمكننا أن نسأل السؤال التالي: ماذا يعني أنّنا نختلف في تقييمنا لرواية معينة أو لقطعة موسيقيّة ما، أو لفيلم سينمائيّ؟ كيف نفهم هذا الاختلاف؟ حول ماذا نختلف وما هي دلالات هذا الخلاف؟ هناك نوع معيّن من الخلافات هو خلافات حول حقائق. عندما نختلف أنا وصديقي حول ما إذا كانت هناك غيوم في السماء، أو ما إذا كان المتنبي قد ولد في الكوفة في العراق أم في دمشق الشام، فإنّ الخلاف بيننا هو خلاف حول حقائق معيّنة. في هذه الحالة فإنّ حلّ الخلاف يفترض مرجعيّة معيّنة يمكننا بواسطتها أن نكتشف حقيقة الوقائع. في حالة وجود غيوم في السماء، فإن الحلّ هو أن أخرج أنا وصديقي إلى الخارج وأن ننظر إلى السماء كي نحسِم الخلاف حول ما إذا كانت غيوم في السماء أم لا. في هذه الحالة يبدو الحلّ بسيطًا ويمكنُنا أن نتّفق بسهولة على الإجراء. أمّا في حالة المتنبي فيبدو أنّ حسم النقاش يجب أن يكون أكثر تعقيدا، لأننا لا نستطيع أن نشاهد بأمهات أعيننا أين وُلد المتنبي، ولذلك علينا العودة إلى الموسوعات بأنواعها والتي تشير بالإجماع إلى أنّ المتنبي وُلد في الكوفة. لكنّ الأمور قد تكون أكثر صعوبة مثلا حين نسأل من قتل جون كينيدي، أو هل تمّت كتابة الشعر الجاهلي قبل الاسلام، أم أنّ هناك أجزاء منه كُتبت لاحقًا بعد الإسلام؟ من الواضح أنه لا توجد إجابة سهلة عن هذه الأسئلة، وأن الأمر يحتاج إلى بحث عميق وطويل، وفي كثير من الأحيان سيكون من المتعذر الوصول إلى أحكام واضحة وقاطعة بصدد هذه الأسئلة، لكنّ كلّ ذلك لا يستطيع أن يغيّر الحقيقة بأنّ طبيعة الخلاف بيننا هي خلاف حول الحقائق والوقائع، حتى وإن لم يكن بمقدورنا أن نجد جوابًا قاطعًا. إن السؤال حول عدد قطرات الماء الموجودة في المحيط هو سؤال عن حقيقة معينة والخلاف بشأنه هو خلاف حول حقيقة معينة، مع أنه قد لا توجد طريقة واضحة وأكيدة لحسم هذا السؤال.

ماذا يعني كل ذلك؟

أسوق هذا المثال كي أعود إلى السؤال حول الحكم الجماليّ: هل خلافاتنا حول الحكم الجمالي هي خلاف من هذا النوع؟ هل نختلف بصدد الوقائع والحقائق؟ هل خلافنا في تقييم أعمال شكسبير أو طه حسين أو المتنبي هي خلافات حول وقائع وأحداث يمكننا حسمها بشكل أمبيريّ، أي تجريبيّ؟ لا أعتقد ذلك، وليس هناك من يعتقد ذلك. إنّ خلافاتنا حول تقييم شعر المتنبي ليست كخلافاتِنا حول سِنّه أو مكان ولادته. إنّ سنة ومكان ولادة المتنبي هما حقيقتان تحظيان باستقلالية عن الذوات الباحثة، والمختلفة، ونحن كذوات فاعلة نخرج “لنبحث” عن الحقيقة، ونجدها خارجنا، وخارجًا عن وعينا وارادتنا. إنّ وجود غيوم في السماء، أو مكان ولادة المتنبي، هما حقيقتان لهما نوعيّة تختلف عن حقيقة جماليّة شعر المتنبي، لأننا كذوات متذوّقة وفاعلة نساهم في بلورة وتشكَّل مفهوم “جماليّة الشعر”. إنّ “جمالية الشعر” ليس حقيقة ناجزة، كما أنّ الغيوم في السماء هي حقيقة ناجزة. إنّ “جمالية الشعر” نوع من الحقيقة نحن شركاء في صنعها وتطويرها وتشذيبها.

إعادة ترتيب

هنا قد يكون الإغراء كبيرًا للانتقال إلى الموقع المقابل المضادّ. المقصود بذلك هو التعامل مع خلافاتنا حول جماليّة شعر المتنبي باعتبارها خلافات في الذوق الذاتيّ، تمامًا، كما نختلف حول مدى حبّنا أو تفضيلنا “للكنافة” على “الشوكولاتة”، أو “الفلافل” على “الكبّة”. طبعًا من الصعب إغفال الجانب الذاتيّ، لكن لنراقب طبيعة الخلافات الجماليّة علّنا نستطيع أن نستنتج من طبيعة الخلافات حول الحكم الجماليّ شيئا ما حول طبيعته.

إذا راقبنا الذين يختلفون حول تقيمهم الجماليّ سنجد بالعادة أنهم لا يكتفون بالقول إنّهم يفضّلون أبو العتاهية على أبي التمام، أو المتنبي على امرؤ القيس. بالعادة فإنّ طبيعة الجملة التي يقولونها لا تكون تعبيرًا عن حبّهم لهذا وتفضيله على غيره باعتبارها مسألة شخصيّة محضة. هناك دائمًا إدعاء مُضمر، وكثيرًا ما يكون صريحًا: ففي العادة لا نتوقف عند الادعاء “أنا أحبّ المتنبي أكثر من أمرئ القيس”، بل تسعى لأن تكون مقولتك موضوعية ولسان حالها يقول: “أنا أعتبر المتنبي شاعرًا أفضل من امرئ القيس. لكنّني أعتقد أنّك لو كنتَ ذا نيّة صافية وقرأتَ شعر المتنبي بتمعّن فسوف تجدَه شاعرا أفضل من امرئ القيس”. وفي كثير من الأحيان فإنّ الذي يقدم هذا الادعاء يواصل حديثه معلّلا ومُبرّرا موقفه محاولا أن يدعمه بأبيات من الشعر تظهر قدرات المتنبي البلاغيّة والنحويّة والمجازيّة، وقدرته على تبصّر النفس البشرية بطريقة تفوق بقيّة الشعراء. وليس غريبًا أنّ المؤيّد لشعر امرئ القيس قد يقوم من طرفه بتقديم مُرافعاته هو الآخر داعمًا موقفه حول جماليّات شعر امرئ القيس. وليس غريبًا أن نجد بعد فترة أنّ أحد الأطراف قد غيّر موقفه باتجاه معيّن، وأنه اكتشف جماليّات معيّنة لم يكن منتبهًا لوجودها، وأنها اليوم أصبحت جزءًا من حساسيّته الجماليّة وذائقته الفنيّة. من الصعب جدًّا أن نتخيّل حوارًا من هذا النوع بين مؤيّدي “الفلافل” مقابل مؤيّدي “الكبة”. في هذه الحالة الأخيرة، هناك عامل ذاتي غير قابل للصياغة ضمن عالم من المفاهيم التي تتيح التواصل والتفاعل الفكريّ والجماليّ.

القيم الفنيّة والجماليّة هي الأخرى منتجات اجتماعية تخضع لعلاقات القوى داخل المجتمع، وضرورات التمييز والتفرّد الاجتماعيّ والاحتفاء بالذات والتماهي الطبقيّ. وأكبر دليل أو مثال على ذلك هو سلطة المتحف في تقييمنا الجماليّ

عليه، هناك فرق بين الحقيقتيْن: حقيقة وجود غيوم في السماء وحقيقة جمالية شعر المتنبي. إذا كانت الحقيقة الأولى ناجزة بمعزل عن الشخص الذي يُقرّ بها، فإنّ حقيقة جمالية شعر المتنبي ليست ناجزة، وغير مُعطاة مباشرة لحواسنا بنفس الطريقة التي تفرض فيها حقيقة وجود الغيوم على وعينا. إنّ حقيقة جمالية شعر المتنبي هي حقيقة لا نكتشفها تمامًا، ولكننا لا نخترعها أيضَا، فهي ليست كالغيوم والجبال (حيث أن هناك عالمًا خارجيًّا نقوم باكتشافه وهو المرجعيّة لأحكامِنا)، وهي ليست ذاتيّة لدرجة أنّ مرجعيّة أحكامنا لا تتعدّى كونها تقريرًا عن رغباتنا.

إذا لم يكن هذا ولا ذاك، فماذا يكون؟ قد تكون الطريقة الأمثل للتعامل مع الإنتاج الفنيّ الجماليّ هي باعتباره إعادة ترتيب مكوّنات العالم وتنسيقها وترتيبها بطريقة تؤهّلنا لرؤية العالم من جديد، والحكم الجماليّ هو الآخر إعادة تفكيك وبناء لعناصِر المنتوج الفنيّ، بحيث يُضيئه ويمكّننا من رؤية تشكّلات في العمل الفنيّ كانت كامنة فيه، لكنّ المراجعة النقديّة للعمل جعلت هذا المكنون الجماليّ يطفو إلى السطح، ليبرز حضوره ويُصبح مرئيًّا وحاضرًا.

15 أم 50 نقطة؟

يمكننا تصوّر دور عملية الاستنطاق الجماليّ لعمل معين من خلال مثال يعتمد على حاسة البصر. لنأخذ المثال الأول من عالم الرسم، والذي نعرفه جميعًا من طفولتنا. المقصود هو ذلك النوع من اللعب بالرسم والذي نقدّم فيه للطفل ورقة مرسوم عليها 100 نقطة موزّعة بشكل عشوائيّ على الورق، مع تعليمات تقضي بتوصيل خط معين بين النقاط بترتيب معيّن. ما أن ينتهي الطفل من توصيل الخطوط ليتضح له أنه قام برسم معيّن تتجلى معالمه كلما اقترب من توصيل الخط الأخير. لنفرض الآن أنّنا لم نعطِ هذا الطفل الترتيب الذي يجب بموجبه أن يصل الخطوط، لكنه قام بوصلِها بنفسه واتضح له الشكل الذي كان مضمرًا في ترتيب النقاط، لكنه أصبح جليا بعد أن قام بوصل النقاط عبر خط، فهل يمكننا القول في هذه الحالة إنّ الطفل قد اكتشف الشكل، أم أنه اخترعه؟

لا شكّ بأنّ الطفل لم يخترع الشكل تمامًا، كما أنه لم يكتشفه تمامًا؛ الطفل اختار أن يربط الخطوط بطريقة معينة، وربط الخطوط بهذه الطريقة المعينة جعلنا نرى في ما بدا لنا وكأنه مجموعة عشوائيّة من النقاط شكلا معينا أو رسما معينا ذا ملامح مميّزة. الآن يمكننا أن نطوّر هذا المثال بعض الشيء. لنفترض أنه لا يوجد شكل واحد كامن بين النقاط، بل ثمة عدد من الأشكال، بحيث أنّنا إذا وصلنا الخطوط بطريقة معينة فإنّها تعطينا شكلا واحدًا، ولكن إذا وصلناها بطريقة أخرى فإنّها تعطينا شكلًا آخرَ، ولنفرض أنّ وصل النقاط في الحالة الأولى يعطينا شكلًا مكعّبًا، وهو بحاجة كي يتشكّل إلى 15 نقطة، لكن في الحالة الثانية فإننا أمام شكل هو عبارة عن مكعب موجود داخل طابة والطابة نفسها داخل مكعب، وهذا الشكل يحتاج كي يتشكّل لاستعمال 50 نقطة بدلًا من 15 نقطة. إنّ الهدف من هذا المثال هو توضيح فكرة إعادة البناء -وهي ليست اكتشافًا وليست اختراعًا- والتي تقوم على قدرة المشاهد/ القارئ على التقاط مكوّنات من العمل الفنيّ ووضعها في المقدّمة وإعادة صياغتها بشكل تبرز للقارئ ما كان مُضمَرًا في العمل الفنيّ ليصبح حاضرًا وجاهزًا. وأما الحديث عن 3 أشكال متداخلة مقارنة بشكل واحد، واستعمال 50 نقطة بدل 15 نقطة فما هي إلّا مجرد إشارة إلى إمكانية إجراء تقييم للقراءات المختلفة للعمل، والمقارنة بينهما، وإمكانية إجراء تقييم للأعمال المختلفة على أساس مكنون الأشكال الفنية والقيم الجمالية الكامنة فيها، والتي تنتظر الحكم الجمالي كي تطفو إلى السطح المرئي.

ليس الهدف من كلّ ما سبق البرهنة على وجود حقيقة فنيّة، أو إمكانية إجراء حكم جماليّ، بل إغراء القارئ بالتأني قبل إصدار حكمه المعاكس بأنه لا توجد حقائق فنيّة، وأنّ الأمور لا تتعدّى كونها أذواقًا ذاتيّة مزاجيّة وغير قابلة للتعليل، وأنّ القيم الجماليّة لا تقع ضمن منطق التعليل أصلًا.

إلا أنه من الممكن تقديم اعتراض أكثر وجاهة أمام الادعاء بوجود حقائق فنيّة جماليّة، وهو إدّعاء جدّيّ جدًّا ولا أعرف ما إذا كان من الممكن الإجابة عليه بإجابة مقنعة. هذا الاعتراض يقبل حقيقة أنّ هناك “حقائق” فنيّة جماليّة “موضوعيّة”، لكنه لا يقبل الإدعاء بأنّ موضوعيّتها تكمن في جماليّتها، ولا بأنّ جماليتها أو فنيتها هي قيمة كامنة في هذه الأعمال، إنما هي عبارة عن نوع من تطابق أو تماهي الأذواق الفرديّة الذاتيّة لتصنع حالة من الإجماع داخل المجتمع على قيمة فنيّة معيّنة؛ أي أنّ موضوعيتها تكمن في كونها حقيقة اجتماعية، تقع خارج الذات، ويمكن قياسها ودراستها. وأما الأسباب من وراء هذا الإجماع فقد تكون اجتماعية أو اقتصادية أو طبقية؛ فالحديث عن شكسبير قد يمنح المتكلّم عنه مكانة اجتماعيّة مرموقة واحترامًا في أعين المجتمع، والذي يذهب لحضور كونسيرت لأعمال بيتهوفن مثلا، فإنه يموقع نفسه اجتماعيًّا باعتباره ينتمي إلى أصحاب الذوق الرفيع، وعلى هذا قِسْ. ضمن هذه الرؤية فإنّ القيم الفنيّة والجماليّة هي الأخرى منتجات اجتماعية تخضع لعلاقات القوى داخل المجتمع، وضرورات التمييز والتفرّد الاجتماعيّ والاحتفاء بالذات والتماهي الطبقيّ. وأكبر دليل أو مثال على ذلك هو سلطة المتحف في تقييمنا الجماليّ. فما يُوضَع في متحف مرموق يصبح محطًّا لإعجابنا الجماليّ، وعندما وضع دوشامب كرسيّ الحمام في متحف اللّوفر أخذ العالم يتعامل معه باعتباره عملًا فنيًّا. من الواضح أنّه لو لم يكن دوشامب هو الفاعل، لما قبل اللوفر بوضع مثل هذا العمل عنده، ولو كان متحفا غير اللوفر لما انتبه أحد أصلا لهذا العمل الفنيّ ولم يناقش أحدٌ جماليته. في هذا السياق، فإنّ القيمة الفنية الجمالية هي قيمة ذاتية أصلا، ولكنها حصلت على إجماع وتماهٍ اجتماعيّيْن لا أكثر ولا أقلّ، وبالتالي لا توجد قيمة فنية متأصّلة كاملة في الأعمال الفنيّة، وما الحكم الجماليّ سوى تعبير أيديولوجيّ عن هذا الإجماع الحاصل داخل المجتمع وصياغته بلغة منمّقة وجميلة تبدو نقديّة في شكلها، لكنها اعتذاريّة تبريريّة في جوهرها.

هذا ادعاء منطقيّ ومتماسك جدا وفيه الكثير من الحقيقة، ولا انوي أن احاول ضمره على الاطلاق، إنّما محاورته، لأنّه يُبقي -باعتقادي- بعض الأسئلة عالقة وغير واضحة.

الحبّ أيضًا

إنّ الصورة التي يصوّرها هذا التوجه تفيد بأنّ الحقيقة الفنيّة ما هي إلّا لحظة إجماع نابعة عن تضافر واشتباك قوى خارجيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، وليست الجملة الفنيّة سوى ظلٍّ لهذه العلاقات القائمة والمتشكّلة خارج الحيّز الفنيّ.

الملاحظة الأولى التي من الممكن أن نسوقها إزاء هذا التوجّه هي ذات طابع دائريّ، بمعنى أن يفرغ الحيّز الفني من خاصيّته، ويلقي بالثقل إلى ما هو خارج العالم والحيّز الفنيّ. أي أنّ الداخل فارغ في الحقيقة، وليس الداخل إلّا انعكاسًا للخارج. لكن ما هو هذا الخارج؟ ما هي هذه القوى الموجودة في الخارج وكيف تحدّد ذاتها وماذا يتحكّم فيها هي الأخرى؟ إنّ بحثًا من هذا النوع سوف يقودنا إلى الاستنتاج بأنّ أيّ مجال آخر سنحاول أن نرصده، سيوصلنا إلى نتيجة بأنّه فارغ من الداخل وبأنّ جوهره يقع خارجه.

لنأخذ القانون مثلا: الكثيرون الكثيرون يعتقدون مثلًا أنّ الحقيقة القانونيّة هي مثل الحقيقة الفنيّة، بمعنى أنّ القانون ما هو إلا مجرد انعكاس لعلاقات القوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وأنه من الداخل ليس إلّا انعكاسًا لعلاقات قوة تقع خارجه. إلّا أنّ هذا يعني أنّ القانون والفنّ كلاهما مجالان فارغان من الداخل وأنّ جوهريْهما يقعان خارجهما. إذا استمرّرنا بهذا المنطق فسنجد أنّ جميع مجالات الحياة جوهرها يقع خارجها؛ أي ننتهي إلى حقيقة أنّ جميع الحقائق القانونيّة والفنيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ما هي إلّا انعكاس لشيء ما خارجيّ عنها، من دون أن تكون لدينا قدرة للقبض على هذا الشيء المبهم. أعتقد أنّ هذه النتيجة غير مقبولة على الكثيرين، وتقود إلى استنتاجات غير متماسكة.

إذا كان دور العقل أن يحرّرنا من الطبيعة ومن الغرائز الجسديّة فنصبح قادرين على التحكّم بها، فإنّ الجمال والفنّ قادران أن يعيدا مصالحتنا مع الطبيعة

الملاحظة الثانية تقوم على مراقبة سلوكنا وتجربتنا الذاتيّة. لا شكّ بأنّ أذواقنا الفنيّة متأثرة بالأجواء الاجتماعيّة التي نعيشها، لكن هل يمكن القول إنّنا نشعر بأنها مجرد انعكاس ليس إلّا لحالات الإجماع في الذائقة الفنيّة والتراتبيّة الاجتماعيّة؟ ألا يوجد منتج فني “بحدّ ذاته”؟ لا شكّ بأنّ القيمة الفنيّة تكتسب جزءًا من دلالاتها وموقعها وقيمتها بتأثير علاقات القوى السائدة في المجتمع، لكن يمكننا أن نسأل السؤال العكسيّ: ألا يمكن أن نقول إنّ علاقات القوى في المجتمع نفسه متأثّرة بالقيم الفنيّة وقدرة مُنتجي هذه القيم على التأثير على وعي وذائقة الجمهور وتحويل هذه الذائقة إلى جزء من علاقات القوى داخل المجتمع؟

لا أعتقد أنّ هذا الجواب وافٍ لكنه كافٍ لإنارة بعض النقاش.

الآن أريد أن أنتقل إلى مساحة تخلط بين التجربة الجماليّة وبين الحكم الجماليّ الذي بدأت فيه مقالتي. كنتُ قد أشرتُ إلى أنّ مفهومنا الأوّليّ لمقولة “الحُكم” تقوم على إمكانيّة وجود قوانين كونيّة نقوم بتطبيقها على الحالة العينيّة، لكننا نعرف من تجربتنا أنّه لا وجود لمثل هذه القوانين الصارمة التي تتيح مثل هذا النوع من الحكم. الحكم الجماليّ في هذا السياق يمتاز بأمريْن: أولًا، أنه يأتي بأثر رجعيّ، وثانيًا، أنه حُكم على الكلّ وليس حكمًا على الجزء. ما المقصود بأثر رجعيّ؟ يمكننا أن نفهم ما هو المقصود بالحكم بأثر رجعيّ إذا ما قارنّاه بالحكم المنطقيّ الذي ينطلق من المفاهيم المجرّدة ويسير ضمن تسلسل منطقيّ. مثلًا، إذا قلنا إنّ الفيل حيوان، ثم قلنا إنّ كلّ الحيوانات تتنفس، فإنّه يمكننا أن نحكم ونقول إنّ الفيل يتنفّس. إنّ هذا الحكم الأخير هو نتيجة مباشرة للقوليْن الأولييْن ويمكننا جميعًا أن نتّفق عليه. الحكم الأخير بأنّ الفيل يتنفّس هو حكم كامن في المقولتيْن اللتيْن سبقتاه وبالتالي فهو لا يحمل أيّ مفاجأة، لكننا لا نتعامل كذلك مع الحكم الجماليّ. الحكم الجمالي لا يأتي كحُكم تسبقه مقدّمات منطقيّة تقودنا إلى الاستنتاج الحتميّ بأنّنا نقف أمام لوحة أو رواية جميلة. نحن نصدر حكمنا الجماليّ على المنتج ككلّ بعد أن نراه ونلمسه. لا توجد أي قانونيّة واضحة تقول لنا متى يمكننا أن ننظر إلى السماء ونعتبر الشكل الذي يكوّنه سربٌ من الطيور شكلًا جميلًا، لكنّنا نستطيع بأثر رجعيّ أن نصدر حكمًا حول جماليّته.

في هذا السياق، فإنّ أفضل مثال لاستيعاب الفرق بين الحكم المنطقيّ والحكم الجماليّ هو مقارنة عزف الأوركسترا لسيمفونيّة معروفة الألحان، مقارنة بمتعتنا وتجربتنا الجماليّة عندما نشاهد عرضًا للجاز يقوم على الارتجال بين عدّة عازفين. في حالة الجاز فإننا ندخل نسبيًّا مجرَّدين من أدواتنا التحليليّة ومن معاييرنا الجاهزة، لكننا بالرغم من ذلك نستطيع أن نقيّم المعزوفة وطبيعة التجانس والتناغم والحوار بين الآلات الموسيقية، فيبدو لنا بأثر رجعيّ أنّ هناك نوعًا من المبنى المتناغم للمعزوفة، أي كأنّه جرى تصميمها مع أنها مرتَجلة، وتصبح محاولة تقصّي هذا المبنى الهارمونيّ وسبر غوره واكتشاف تعرّجاته جزءًا من متعتنا الجماليّة. لكن يجب ألّا نخطئ هنا: نحن لا نعتبر الكونسيرت جميلًا لأنّ له مبنًى، وأنّ العازفين استجابوا لمبنى معيّن، إنما قد يكون العكس هو الأقرب إلى الصواب: حدسنا الجمالي يسبق قدرتنا على استيعاب المبنى، وقد يكون هو الحافز لمحاولة سبر غور المبنى. لكن لا توجد هناك أي إمكانية لأن “نفرض” على أنفسنا الشعور بتجربة جماليّة نظرًا لكونها تستجيب لمبنى معيّن. المبنى ينبثق انبثاقا، ضمن المحافظة على حرية الحركة للأدوات الموسيقيّة، وحريّة المشاهد أن يتعاطى مع المقطوعة الموسيقيّة. الأدوات الموسيقيّة -والمستمع أيضًا- يعثرون على المبنى وهم يلعبون معه، من دون أن يرغموا على ذلك منطقيًّا. لذلك فإنّ المبنى الهارمونيّ الذي يبزغ، أشبه بالشكل الذي يبزغ بعد انقشاع الضباب عن مشهد لم نعرفه من قبل. بالتالي، في التجربة الجماليّة بُعد دائم من الدهشة، لأنها غير متوقّعة، وهي، أيضًا، تعبير عن ذلك الالتقاء المثير للحريّة مع الضرورة، لِلعفويّ مع البنيويّ، من دون أن يفرض هذا الأخير نفسه على الأوّل. في هذا السياق فإنّ المقارنة مع الحب قد تكون مثيرة وبنّاءة، وهو ما يفسّر العلاقة الوطيدة بين فكرتيِّ الجمال والحبّ.

الحبّ، كذلك، عبارة عن جمع سحريّ بين الحرّيّة والضرورة؛ فلا حبٌّ حقيقيٌّ من دون الحريّة، لأنّ الحبّ شعور داخليّ نابع من الذات ولا يمكن فرضه عليها فرضًا. وعليه، الحرية هي شرط الحبّ. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن اختزال الحبّ بحرية الاختيار. فمثلًا، لو كان هناك شاب معيّن وقال لامرأة ما: “أنا أحبّك واخترتك من بين الكثير من النساء بعد أن قارنت بينهنّ جميعًا ووجدتُ أنّك أفضل النساء”، فإنّ تلك المرأة ستصاب بخيبة أمل حقيقيّة. لماذا؟ لأنّ الحريّة لا تكفي للحبّ، كما أنّ عازفي الجاز إذا عزفوا بحريّة فقط فإنّ ذلك لا يضمن جماليّة المقطوعة الموسيقيّة. حتى تنام تلك المرأة مع شعور بأنّها معشوقة حقًّا، عليها أن تشعر بأنّ حبيبها لم يكن حُرًّا بأن يحبها، فحسب، بل أنّه لم يكن لديه مفرّ من حبّها. “ليس لديه مفرّ” لا يعني أنّ أحدًا أرغمه على حبّها، بل يعني أنّه تحت سطوة الحبّ نفسه، وهو عبد لهذه السطوة. بمعنى أنه اختارها، لكن كان قدرُه بأن يختارها، وبالتالي فإنّ فعل الاختيار هو فعل تحقّق المشيئة، أي أنّه اختيار طوعيّ للقدر المحتّم. أي أنّه مجرّد صدفة لكن كان مقدّرًا لها أن تصل، وكأنّ الحرية تلتقي بالضرورة والصدفة تلتقي بالقدر.

بهذا المعنى فإنّ الحبّ والجمال كلاهما يفاجئاننا حقًّا ويثيران الدهشة دائمًا، لأنّ قانونيّتهما لا قانون لها، وعليه نقول إنّ الإنسان “وقع” في الحبّ وكأنّه تعثّر، لكنّه نوعٌ من التعثّر الذي يوصل الإنسان إلى المكان الصحيح.

بهذا المعنى فإنّ التجربة الجماليّة تصالحنا مع الطبيعة من جديد. إذا كان دور العقل أن يحرّرنا من الطبيعة ومن الغرائز الجسديّة فنصبح قادرين على التحكّم بها، فإنّ الجمال والفنّ قادران أن يعيدا مصالحتنا مع الطبيعة. لكننا لا نعود حيث كنا غرائزيًّا، بل نعود لنتصالح مع طبيعتنا الحسّيّة، من دون أن نحكمها ومن دون أن تحكمنا. وعليه فإنّ للجمالية الفنيّة -كما للحبّ- طابعًا سحريًّا، لأنّها تزيل الاغتراب، وتشعرنا بأنّ الكون قد انتبه إلى وجودنا، والتفت إلى حضورنا المتميّز فيه، وتشعرنا وكأنه اختارنا ليخاطبنا. وحين نشعر بأنّ الكون يستوقفنا ليخاطبنا يصبح العالم مكانًا يستحقّ أن نعيش فيه.

(يستند نصّ هذه المقالة إلى محاضرة ألقيت بدعوة من اتحاد الجمعيات الثقافية قدّمت في الناصرة، والنص حافظ على الطبيعة المرتجلة للمحاضرة. الأفكار الواردة في المقالة مستقاة من ثلاثه نصوص: نقد الحكم الجماليّ لإمانويل كانط؛ الوجود والعدم لجان بول سارتر؛ والقانون بصفته نصًّا أدبيًّا لرونالد دفوركين)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>