رواية النكبة وسياسة الصدمة/ مصطفى قصقصي

نشهد في السنوات الأخيرة توظيفاً شبيهاً للذاكرة، ليس بهدف التحرّر من سطوة الماضي والاستثمار في المستقبل، وإنما “وفاءً” لصدمة جماعية مؤسِّسة للهوية القومية، أي أن الهويّة تعرّف، على نحو رئيس، بجرحها

رواية النكبة وسياسة الصدمة/ مصطفى قصقصي


"كثيراً ما يؤول المطاف بهذا السرد النكبويّ إلى ما يشبه العويل الفيتشيّ"- كاريكاتير بريشة أمية حجا

"كثيراً ما يؤول المطاف بهذا السرد النكبويّ إلى ما يشبه العويل الفيتشيّ"- كاريكاتير بريشة أمية حجا



|مصطفى قصقصي|

في إحدى قصائده الأخيرة، “على محطّة قطار سقط عن الخارطة”، يكتب محمود درويش:

“وقفت على المحطّة، لا لأنتظر القطار

ولا عواطفي الخبيئة في جماليّات شيء بعيدٍ،

بل لأعرف كيف جنّ البحر وانكسر المكان

كجرّةٍ خزفيّة، ومتى ولدت وأين عشت،

وكيف هاجرت الطيور إلى الجنوب أو الشمال.”

(درويش، 2009)

يحاول الشاعر القوميّ، “في السّتين من جرحه”، أن يفهم ما يستعصي على الفهم وأن يتأملّ الأنقاض التي خلّفتها الحربُ في عالمه الداخلي وفي المشهد المتداعي لطفولته، مواصلاً ما عكف عليه الأدب الفلسطينيّ بعد حرب 48 من استرجاع متكررّ لصدمة الفقدان والتهجير ومحاولات شفاء الهوية الفردية والجمعية من جراحها.

الأدب الفلسطينيّ هو جوهريًا “أدب صدمة” و”أدب هويّة”. وقد انشغل ما اصطلح على تسميته “شعر المقاومة”، على ما يغلب عليه من خطابية ورومانسية ثورية، بإنجاز مهمة الترميم النفسي للذات الجمعية المحطمة جراء ما ألمّ بها من فقدان وخسارات، في حين عكست رواية “المتشائل” لإميل حبيبي، عبر صياغة إبداعية محكمة النضوج وغير مسبوقة فلسطينياً وعربياً، ما أنتجته صدمة الحرب من تخبّط هويتيّ، واضطراب نفسي جمعيّ مؤسَّس على آليات دفاعية بدائية، ومحاولات الذات الجمعية التصالح مع الجوانب الأقل إشراقاً من تاريخها وهويتها.

شكلت النكبة حدثاً فارقاً في التاريخ الفلسطينيّ الحديث؛ الانهيار المروّع لبنيان مُجتمعيّ نامٍ والفقدان الصّدميّ الصاعق لمرتكزات الهوية الشخصية والجمعية من أرض وعلاقات وذكريات، أرخيا ظلالهما على سرد وفهم هذا التاريخ. ولكن رغم تراكم الجهود التاريخيّة الدراسيّة والتوثيقية، لا تزال تجربة النكبة غارقة في تلك الظلال التي تحول دون تفكيك وتركيب معانيها.


ضحية التاريخ

تغلغلت النكبة بوصفها حدثاً صدميّاً إلى النسيج السرديّ الشخصيّ والجمعيّ للفلسطينيّين وصبغته بألوانها المرئيّة منها وغير المرئيّة، الحاضرة والغائبة، من دون أن تتيح الإمساك بها أو التعرّف إلى وجوهها المختلفة. في الوقت الذي ترتقي فيه المعاناة الإنسانيّة الهائلة خلال النكبة وما بعدها إلى مصافّ العذابات الإنسانية الكبرى، تعاني رواية النكبة من سردٍ ناقص ومبتور بل وسطحيّ وتمويهيّ أحياناً. أي أنها خضعت في فترات تاريخيّة مختلفة لقراءات تعميميّة يغلب عليها التوتّر بين النبرة الفجائعيّة أو الاحتفاليّة الثوريّة، إضافة إلى التوتّر المابعد-صدميّ بين الذاكرة والنسيان، بين السّرد والصمت، بين الحدث وتأريخه وتأويله. أهملت هذه القراءات جوانب أخرى في هذه التاريخ، بما فيها الجوانب الأكثر حصانة وصحّة في التجربة الجمعية قبل وخلال النكبة وما بعدها: البقاء والصّمود المجتمعيّ للفلسطينيين في اسرائيل الذي يعتبر فعل الانتصار الأولّ على مفهوم النكبة، انطلاق الثورة الفلسطينية من مواقع الشتات، الإشعاع الثقافي الاستثنائيّ في بعض منجزه، والمقاومة بكافة أشكالها ومواقعها التي ثابرت، في الوصف البليغ لمحمود درويش راثياً عرفات، في “الانتقال من الدور الذي تحتلّه ضحيّة التاريخ إلى المشاركة في صناعة التاريخ” (درويش،2007).

في العقود الثلاثة الأولى بعد النكبة غُيبّ الخطاب الصدمويّ لصالح فعل ثوريّ لا يحتمل التعبير عن الضعف، ولا التعبير عن ألم وخوف الضحيّة

لقد تحوّلت النكبة إلى مرجع تأريخيّ وتأويليّ لما سبقها وما تلاها من أحداث وتجارب جمعية، وإلى رحمٍ عنيف ومؤلم لهويّة جماعية، لكن رغم مكانتها التأسيسيّة والمحورية، تظلّ ملامحها أسيرة صورة نمطيّة تحكمها اعتبارات سياسية وإعلاميّة تسميها آن كابلان “سياسة الصدمة” Politics of trauma: لا يمكن، كما ترى كابلان، فصل ديناميكة الذاكرة والنسيان المولودة من صدمة جماعيّة عن السياق الاجتماعي-الثقافي لجماعة ما وعن السياق المركّب للعلاقة بين الجلاّد والضحيّة. خطاب النكبة باعتبارها حدثاً صدمياً في المجتمع الفلسطينيّ مثلاً هو خطاب متأخر نسبيًا. في العقود الثلاثة الأولى بعد النكبة غُيبّ الخطاب الصدمويّ لصالح فعل ثوريّ لا يحتمل التعبير عن الضعف، ولا التعبير عن ألم وخوف الضحيّة.

كان النسيان ضرورياً للمشروع التحرّري، ولبناء الهوية القومية، وبالطبع أيضاً للديناميكيّة النفسيّة البقائيّة الما بعد – صدميّة للجماعة والمتسّمة بالاجتناب وانشطار الوعي Dissociation. في حين نشهد في السنوات الأخيرة توظيفاً شبيهاً للذاكرة، ليس بهدف التحرّر من سطوة الماضي والاستثمار في المستقبل، وإنما “وفاءً” لصدمة جماعية مؤسِّسة للهوية القومية، أي أن الهويّة تعرّف، على نحو رئيس، بجرحها.


الحداد

يمكن القول استطراداً إنّ خطاب النكبة استولى تماماً على الرواية الفلسطينية وعلى الهوية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، من دون أن ينتج معرفة إضافيّة حولها، أو أن يوسّع آفاقها في ضوء ما استجدّ في السيرة الفلسطينية في الستين سنة الأخيرة. تمّ تسليم الحدث، بدءاً من تسميته الحاسمة في معناها، إلى سرد أحاديّ، يُعفي الضحية من مسؤوليتها وينفي عنها أيّ فعل مقاوم في خضمّ ذلك الحدث المأساويّ العظيم. ثمة بذور عصابيّة كامنة في اسم “النكبة”، لا يسمّي الفاعل ويحيله إلى مصدر غير مسمّى للفعل الصادم، كما هو الحال في الكوارث الطبيعيّة، في شرعنة مبكّرة وشاملة لعجز يُراد به مطلقاً ومفصوماً عن الذات المصدومة، وعن السياق التاريخيّ المحددّ الذي انطوى أيضاً على مواجهة ومقاومة. وكثيراً ما يؤول المطاف بهذا السرد النكبويّ إلى ما يشبه العويل الفيتشيّ، الذي يستمدّ لذة ملتبسة من جلدٍ تثبيتيّ fixative للذات واستحضار ماضٍ فردوسيّ متخيّل يشيح النظر عن الواقع بتمامه أو بأجزائه ويعيق التفاعل التطّوري معه. أي البكاء القهريّ والنكوصيّ على أطلال اتخذت صفة القداسة ولا تجوز مساءلتها أو إعادة النظر فيها أو استدماجها في سيرورة تاريخيّة أكثر إمتداداً واتساعاً للكيانية القومية. وكـأنّ الهوية القومية الفلسطينية هي أو ما بعد صدمية أو لا تكون، نتاج حصريّ لصدمة مجرّدة من تاريخيتها وموضوعيتها، وطالعة من عمق اللاوعي الجمعي البدئيّ ومن غياهب تاريخ غيبيّ. النكبة هي بهذا المعنى “صدمة مختارة”،”Chosen trauma”.

فإذا كانت هذه الهوية وليدة فقدان صدميّ فولادتها لا تزال مستمرة عبر الجدليّة غير المنتهية بين التاريخ، والتأريخ والحياة والأدب

وفقاُ لفولكان، قد يحفل تاريخ الجماعات القومية بالعديد من الأحداث الكبيرة، إلاً أنها تنزع إلى “اختيار” حدث صدمّي من خلال التشارك بين أفرادها في تمثيلات نفسيّة لذلك الحدث الصدمة. “تمثّل “الصدمة المختارة” عجز الجيل السابق المصدوم عن إنجاز الحداد على الفقدانات المتصّلة بالحدث الصادم بالإضافة إلى الفشل في ترميم الجرح النرجسي الجمعي والإذلال من قبل جماعة قومية أخرى (فولكان، 1997، 2004).

أي أن الهويّة القومية لجماعة هي نتاج تجربة صدمية دون غيرها، يتوارث الأفراد مضامينها النفسية، اللاواعية في معظمها، من جيل إلى جيل. ما تعانيه الحالة الفلسطينية في إسرائيل وخارجها من استمرار الاضطهاد بأشكاله التقليدية وغير التقليدية يلقي بثقله على مصير الهويّة القوميّة وعلى إمكانيات تخفّفها من الميراث النفسيّ الصدمة وتبلورها كهوية جمعية ناضجة بعيدًا عن ثنائية النكوص أو السيطرة المطلقة. لكن يظلّ السؤال مفتوحًا: هل تعفي هذه الخصوصية السياسية للهوية الجمعيّة للفلسطينيين في اسرائيل من واجب متابعة ولادتها من دون توقّف قسريّ عند صدمة النكبة؟

فإذا كانت هذه الهوية وليدة فقدان صدميّ فولادتها لا تزال مستمرة عبر الجدليّة غير المنتهية بين التاريخ، والتأريخ والحياة والأدب. بين سيرورات اللاوعي الجمعيّ واستحقاقات الواقع القمعيّ. بين النكبة وتمثيلاتها. لا بدّ إذن من رواية ديناميكية وقادرة على استيعاب هذه الحركة وترشيدها وتثميرها على صورة طاقة هويتيّة خلاّقة لا تتحالف مع الماضي، صدمياً كان أم مجيداً، على حساب الحاضر والمستقبل.

(عن مجلة “جدل”، إصدار مدى الكرمل)

_________________________

مراجع:


Kaplan E. Ann, (2005), Trauma Culture: The politics of trauma and loss in the media and litrature, Piscataway,New Jersey, Rotger University Press,

Volkan, Vamık D. (2004.) Chosen Trauma, the Political Ideology of Entitlement and Violence, Berlin Meeting, Germany.

Volkan, Vamik D. (1998), Transgeneretional transmission and chosen trauma, Opening Address XIII International Congress International Association of Group Psychotherapy, London, UK.

درويش محمود، (2009)، لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، لندن، رياض الريّس للكتب والنشر

درويش محمود، (2007)، حيرة العائد، لندن، رياض الريّس للكتب والنشر




المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. شئ جميل وعلمي يجمع مابين الواقع السياسي والاجتماعي ,والتاريخي ويربطة بتحليل نفسي للشخصية الفلسطينية المصدومة عبر عشرات السنين ولازالت لم تفق من حدة صدماتها المختلفة والمستمرة في تكرارها
    شكرا على التحليل

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>