صباح عادي/ عدي الزعبي

صباح عادي/ عدي الزعبي

تتمنى مريم للجندي أن يعود إلى أهله سريعًا. تدرك فجأة أنّ ابنها هناك بين هذه الملايين يهتف. تشعر بخواء. تخشى أن يأتي اليوم الذي يسألها ابنها عندما يكبر عن علاقاتها المتعدّدة

كيفين كونور، امرأة حزينة

كيفين كونور، امرأة حزينة

>

|عدي الزعبي|

فتحتِ المصاريع.

علّقتِ الملاءات على عتبة النافذة.

حدّق طائرٌ في عينيها.

همست ” أنا وحيدة”.

دخلت الغرفة.

المرآة – أيضاً – نافذة.

لو قفزتُ منها لسقطتُ بين ذراعي.

(صباح. يانيس ريتسوس)

.

على الشرفة، تصبّ مريم قهوتها الصباحية وتجاس لتتأمل مدينتها. تموء القطة على باب البيت. تذهب إلى المطبخ وتجلب بقايا الطعام. تفتح الباب، تدخل القطة وتتجه إلى طعامها.

“أنتِ كمان ما بدك تحكي معي؟”

لا تلتفت القطة.

تعود إلى الشرفة، تجلس وتتنفس الصعداء. تشرب القهوة، ثم تعود إلى المطبخ. تبحث عن علبة السجائر التي خبّأتها البارحة.

تأخذ العلبة والقدّاحة وتعود إلى الشرفة.

يرنّ الهاتف. تفكر لثوانٍ بألّا تجيب. تدخل كأنها مجبرة على ذلك.

يأتي صوت أمها بعيداً. تصرخ مريم، علّ أمها تسمع. تخبرها الأم بأنها لن تستطيع زياتها اليوم. زوجة أخيها نجوى طلبت منها أن ترعى الأطفال مساءً.

تشعر مريم بالخيبة.

تعود إلى الشرفة، وتتأمل المدينة ببرود.

تفتح علبة السجائر. فارغة، لا سجائر.

تقف في غرفة الجلوس وتكلّم القطة.

“وبعدين، شو الحلّ برأيك؟”

تقف القطة وتنظر إليها باستغراب.

يسود صمت.

تعود القطة إلى جلستها المسترخية، تلحس مؤخرتها بحماسة.

“بتعرفي هي نجوى بدها تجنني. من يومين سألتني عن عمار… شو قلها؟”

تتمطى القطة، وتغادر إلى الشرفة. تلاحقها مريم بعينيها. تتنهّد وتدخل المطبخ.

تبحث عن علبة السجائر الاحتياطيّة. لا تجدها في الدروج، ولا في المزهريّة الفارغة. تبحث بعصبيّة خلف الصواني والمواعين والطناجر.

لا تجد شيئًا.

تقف في المطبخ حيرى، ستبرد القهوة إن لم تشربها الآن.

تذهب إلى غرفة النوم، تبحث في الدروج، في الخزانة. لا شيء.

تقف أمام المرآة مشدودة الأعصاب. أن تعرف نجوى بعلاقتها مع عمار أمر لا تحتمله. تجلس على الكرسي الصغير أمام المرآة. لمريم جسد مثير ونظرات فاتنة. تعرف مريم ذلك. تتأمل صدرها وعنقها وكتفيْها. تصفف شعرها، تأخذ قلم الحمرة وتضع على شفتيها بعضًا منه.

“يلعن أختك عهالصدر. الحيوان يلي طلّقك ما بيفهم بشي.”

يقترب منها عمار، ويدلّك كتفيها ببطء.

“يعني المرة يلّي عندي بالبيت مو مرة قدّامك. “

تصمت مريم. تنظر في المرآة.

تبتسم امرأة المرآة باستهتار عابث.

تعود مريم إلى المطبخ، تفتّش الدروج بعصبية.

يرنّ جرس الباب. تتّجه نحو الباب، وتغطي نفسها بشال موجود قربه.

“مين؟”

“أنا منذر، جبت الظرف.”

تفتح الباب، تأخذ الظرف من يده. تشكره وتتجه إلى المطبخ مسرعة. تفتح الظرف بسكين حادة. تعدّ النقود. المبلغ ناقص ٌ ألفا ليرة.

“لك له يا ابن الكلب. وابنك من وين بدّي أصرف عليه؟”

تعود إلى الشرفة. القهوة باردة.

تجاوزت الساعة التاسعة ولم تغادر البيت بعد.

“يعني أنا كل فترة بساعدك شوي، بس ما فيي أصرف عليكي وعلى ابنك. رح خلي عبد الله يخلي دوامك أقصر ويعطيكي إجازات أكتر، بس ما بدي نق وسق.”

يقبلها من عنقها ويذهب إلى الحمّام، يترك الباب مفتوحاً فيما هو يبول. شعرت مريم بالإهانة من الباب المفتوح أكثر ممّا قاله. لم يفهم عمار أنّ مريم تريد أولاً رجلاً تنام معه، أما المساعدة فتأتي ثانياً. كان عمار، شقيق عبد الله الأكبر مدير الشركة، يحيا حياة باذخة، على العكس من أخيه المقتصد. 

تخلع ثوبها وتنتظره بملابسها الداخلية. يأتي متعباً ويستلقي بجانبها. تقبّله بشغف.

يهمس،” قسماً بالله أنا بحياتي ما شفت وحدة عندها كل هالأنوثة والطاقة بالتخت.”  

تعود إلى غرفة النوم. تخبّئ النقود في الخزانة، خلف الملابس الداخلية. يجتاحها غضب لا تستطيع السيطرة عليه. من أين لها أن تجلب المزيد من النقود؟ طليقها يذلّها كلّ شهر بمعاشها ومعاش ولدهما. مرة يتأخر حتى منتصف الشهر، ومرة ينتقص من المبلغ. أحياناً يرسل لها أخاه الوقح، أو يطلب منها أن تأتي إلى مكتبه كي يناقشا بعض الشؤون العالقة.

تموء القطة واقفة على الباب. تذهب إلى الباب وتفتحه. تخرج القطة مسرعةً.

تعود مريم إلى الشرفة. تجلس متعبة.

“عمار، بدك تتركني؟”

“ما بعرف. بس الشهر الجاية أنا مشغول. رح أبعتك عالقاهرة. منلتقي هنيك ومنحكي.”

“عمار، أنا متلك ما كتير فارقة معي الجواز. بس حاسة ما عاد فيني خبّي، وما بدي أنفضح. إزا منتجوز منخلص من كل هالخوف والتخباية. بس هيك.”

“ميشان الله يا مريم بلا هالسيرة. أنا مصاحبك ميشان ما أسمع هالحكي. “

“بس يا عمار هالمرة القصة عنجد. نجوى دريانة من رفيقتها يلي شافتنا بالاسكندرية، وأنا ماني حمل الفضيحة.”

” سكري عالسيرة هلق، أنا بشوف كيف منحلها.”

تأتي الأصوات صادحة من كلّ حدب وصوب.

تجلس مريم متأمّلة الجموع.

“بالروح بالدم نفديك يا بشار.”

نسيت مريم تماماً أنّ اليوم مسيرة البيعة التاريخيّة للقائد الشاب.

قرّرت أن تسترخي. لن تذهب إلى المكتب، اليوم عطلة لها ولجميع سكان دمشق.

تحط حمامتان على الشرفة. تأكلان ممّا تتركه مريم للحمام يوميًّا. تطيران بعيداً مع عودة الهتافات الحماسية.

تدخل مريم غرفة النوم، تغيّر ملابسها سريعًا وتغادر البيت.

تدخل البقاليّة القريبة وتشتري علبتيْ سجائر.

جندي متعب يتهالك على العتبة، يعطيه صاحب البقالة بعض الماء.

يطلب من مريم سيجارة.

تفتح علبة السجائر وتعطيه سيجارة مارلبورو أحمرَ.

يشعلها ويدخّن ساهمًا.

يسأل الجندي صاحب البقالية عن كيفية الوصول إلى شارع بغداد. يأتي صوته خافتاً بعيداً في أذني مريم.

يكاد الجندي يذوب خجلاً في هذا الحيّ الدمشقيّ. تفضحه لهجته الرقاوية، فيقرّر ألا يتكلم إلا للضرورة القصوى.

ينصحه صاحب البقالية بأن ينتظر ساعات، فلن يصل وجهته في هذا الزحام. ربما يتجاوز عدد الناس المليون في الشوارع.

تنسحب مريم وتعود إلى شقّتها.

يقف الجندي متأمّلاً واجهة محل المفروشات الفخم. المرآة الصغيرة تحدّق فيه بتحدٍّ.

يعلو النشيد الوطني من مبنى الحزب المجاور.

تعود مريم إلى المطبخ، تضع القهوة على النار؛ تأخذها إلى الشرفة. تشرب القهوة وتدخن بلهفة. تحط حمامتان على شرفة مريم.

أجواء دمشق الكرنفالية تملؤها بحزن ثقيل غير مفهوم.

تتمنى مريم للجندي أن يعود إلى أهله سريعاً.

تدرك فجأة أن ابنها هناك بين هذه الملايين يهتف. تشعر بخواء. تخشى أن يأتي اليوم الذي يسألها ابنها عندما يكبر عن علاقاتها المتعدّدة.

تدخل إلى غرفة النوم. تجلس أمام المرآة وتتأمّل وجهها الثلاثينيّ؛ تمدّ يدها إلى المرآة.

يمشي الجندي من أمام محل المفروشات الفخم.

تطير الحمامات بعيداً مع عودة الهتافات الحماسية.

يبقى وجه الجندي معلّقاً في المرآة.

تضمّ مريم الجندي طويلاً، في صمت المرآة الأجوف.

(من مجموعة “نوافذ” التي ستصدر قريبًا)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>