صُنع عام 76 في 48/ هشام نفاع

يكتسب يوم الأرض في عين الحلوة معنى العودة؛ وفي جنين هو اسم حركيّ لمواجهة الاحتلال والاستيطان، بينما في العراقيب هو رديف لمعركة البقاء في الوطن. وهو في الوقت نفسه يجب أن يتجاوز رمزيّته. فيما يلي بعض الأسئلة الملحّة

صُنع عام 76 في 48/ هشام نفاع

تصميم: عبد طميش- خاص بـ "قديتا"


|هشام نفاع|

خلال زيارة الى قرية العراقيب في النقب، مطلع العام، رحت أعدّ الأغراض التي امتلأت بالغبار تحت الرّكام: ملابس بمختلف الألوان اختلطت بمقاعد بلاستيكية وطاولة خشبية مهشّمة ومصابيح كهربائية مكسّرة وألعاب أطفال برزت بينها دراجة هوائية انشطرت من الوسط وقد التوت عجلتها الأمامية حتى انسلخ مطاطها الذي فرغ من الهواء عن الاطار المعدني.. كنت منحنيًا بجانب صاحب البيت، بعد يوم واحد على إحدى جرائم هدم بيوت القرية التي تكرّرت ما يقارب العشرين مرة حتى الآن.

هنا يجب أن نسأل بالطبع: كيف سمحنا بأن تتكرر جريمة الهدم المرة تلو الأخرى مقتربة من العشرين؟ أين أخطأنا؟

لننفلت في التفكير قليلا ونفترض أن مؤسسة دولة اسرائيل أرادت من جرائمها هذه، ليس فقط إرهاب الأهالي لنهب أرضهم واقتلاعهم منها – بل كانت تقوم عمليًا بتجربة في الترانسفير.. لقد فشلت، من جهة، بفضل صمود وبسالة رجال ونساء وأطفال العراقيب. لكن المؤسسة نجحت، من جهة أخرى، لأنها كرّرت جرائمها وسط فشل قياديّ في تجنيد بلداتنا جميعًا لصدّ مسلسل الهدم في إحداها. هنا، من غير المسموح لأية قيادة التغنّي بالصمود. هذا الصمود هو شهادة مسجّلة بأحرف من نور لأهالي العراقيب وحدهم. أما الشهادة “الجماعية” فهي تعجّ بالعلامات “الحمراء”، وليس بالمفهوم الثوري طبعًا.

بيوت هذه القرية التي ترفض مؤسسة اسرائيل “الاعتراف بها”، قائمة منذ سنوات تزيد عن عمر الدولة. ولكن باسم مزاعم الـ “بدون ترخيص” يتواصل الهدم فيها وفي غيرها من بلداتنا العربية. فالقانون الجاف تطابق مع الادعاء السياسي السلطوي. لكن القانون، كلّ قانون، غير بريء وغير حيادي ولم ينزل من أية سماء. انه يخدم الأقوياء أو من يظنون أنفسهم أقوياء حاليًا.. هم الذين يسنونه. صحيح، في المجتمعات التي تحترم نفسها يفترض أن يأتي القانون لخدمة الصالح العام، أما في اسرائيل فالوضع مختلف تماما. هكذا هي الاوضاع في الدول العنصرية تاريخيًا.
القانون والسياسة هما عنصرا قوّة. ومقابل هذه القوة سنحتكم الى المنطق ومنه الى الارادة: من هو ذلك الذي يقرر باختياره بناء بيت بدون ترخيص، هكذا، من أجل المناطحة فقط؟ من لديه الاستعداد لبناء بيت في ظروف يعرف مسبقا انها تهدد بيته الجديد الى حد هدمه؟ لا أحد طبعا. لا أحد. بل ان من يقدم على هذه الخطوة يجب الافتراض انه لم يعد لديه مفر. ولم يجد أية بارقة أمل في أن يحظى بما يفترض أن يتمتع به أي فرد بشري في الالفية الثالثة: أن يكون له بيت.

في إسرائيل، يكتسب هذا الكلام أهمية مضاعفة أمام مزاعم “البناء بدون ترخيص عن قصد”. وكأن الأمر هواية عربية نحب إنهاك أنفسنا وجيوبنا من أجل ممارستها! هذه مهزلة طبعاً. مهزلة للقانون وللقائمين عليه ولمن يستغلونه لتنفيذ المآرب التي باتت واضحة لأصغر طفل فينا: هناك من يصرّ على مواصلة الحرب على الأرض مع من يفترض انهم مواطنون. سيقال لنا مثلا: حتى بلدية “عربأباد” المتخيّلة ستهدم اذا أضاف أحد المواطنين ربع غرفة بدون ترخيص! حسنًا، فهمنا. ولكن في حالة العربي هنا تهيّئ السلطات الاسرائيلية الأرضية والظروف حتى يضطر العربي الى بناء بيت مهدد بالهدم مسبقاً. إنها جريمة منظّمة فعلا. فبعد أن صادرت المؤسسة ونهبت واستوطنت الأراضي، راحت تحاصر بلداتنا داخل مساحات خانقة تحوّلها الى ما يشبه السردين المعلّب، وحين يمارس أحدنا الحق الاساس (حسب معاهدة جنيف) في السكن على أرضه، يتم الإعلان عنه مجرمًا – بينما يُعيّن المجرم حاكمًا.

هذه المسألة متعلقة بحبل سرّي مع قضية الأرض. ولا حاجة لإسهاب طويل. الأرض تتجاوز الزراعة والفلاحة. إنها البناء والتطوّر والتطوير والتخطيط والتمتع بفضاء عام وأفق مادي ورمزيّ نحو المستقبل. قضية الأرض راهنة جدًا وحاسمة جدًا. يوم الأرض بمعانيه الواسعة لا يزال حاجة كفاحية ملحّة.

لقد فهمت القيادات مرة هذه التركيبة وأبدعت الممارسة المترتبة عليها. هكذا كان إضراب 1976 الذي سجّلت فيه الجماهير الباقية في وطنها تاريخًا جديدًا على التقويم  الفلسطيني الحديث. فصار يوم الأرض قطعة من فسيفساء ذاكرة تاريخية وفعل سياسي يجمع عين الحلوة بسخنين وجنين. هذا اليوم النضاليّ لم يتحدّى فيه المواطنون الفلسطينيون سلطات الدولة التي جاءت الى وطنهم، فحسب، بل هو يوم فلسطينيّ “صُنع في 1948″. إنه يكتسب في عين الحلوة معنى العودة؛ وفي جنين هو إسم حركيّ لمواجهة الاحتلال والاستيطان، بينما في العراقيب هو رديف لمعركة البقاء في الوطن. هذا ما يجب على القيادات جميعها فهمه والعمل بروح معانيه.

في أحد خطاباته اللامعة، يروي المناضل الذي رحل عنا مؤخرًا، القس شحادة شحادة، كيف فُرض الاضراب على رؤساء مجالس عربية عام 1976. وهو يقول: “قالوا لنا انتم غير منتخبين. انتم في لجنة الدفاع عن الأراضي لا تمثلون الناس. الرؤساء هم من يقرّرون الاضراب ام لا.. فقلنا لهم: من اتخذ قرار الاضراب هو من يحق له الغاءه. الرؤساء الموالون للسّلطة لم يتخذوا القرار. القرار اتخذه هؤلاء المحتشدون في الخارج، حيث كان المكان يعجّ بالصبايا والشباب.. أما الرؤساء الذين عارضوا الاضراب فقد خسروا كراسيهم جميعًا”. الراحل توفيق زياد صاغ الأمر بثلاث كلمات: “الشعب قرّر الاضراب”، وهو ما حدث.

قيادة الجماهير العربية اليوم ليست كأولئك الرؤساء بالطبع. إنها قيادة وطنية. ولكن يجب أن تسأل نفسها: هل بات الشعب يتجاوزها بمطالبه؟ هل فاقتها لهجة الشباب؟ هذه أسئلة مهمة لنا جميعًا. فاليوم، من الواجب تكرار الأسئلة النقدية التي ترافق احياء هذه الذكرى/القضية منذ سنوات – والتي لم تلقَ إجابات، ولا حتى النظريّ منها:

أين تذهب الألوف التي تشارك كلّ سنة في نشاطات إحياء ذكرى يوم الارض؟ هذا سؤال موجه للقيادات، ليس مناطحة، بل إقرارًا بمسؤوليتها. فالمظاهرة قد تتحوّل الى عكس المطلوب منها. وبدلا من أن تكون تعبيرًا احتجاجيًا زخمًا يجسد ذروة حالة تراكمية من العمل والتسييس، قد تتحول الى مجرد متنفس. يساهم في هذا ذلك الإفراط في الشعارات التي تبدو تصعيدية ولكن من دون الخوض في السؤال الأهم: ما هو مردودها؟ ما هو الهدف منها؟ أوليست هذه هي أسئلة السياسة: سلوك محدد من أجل تحقيق هدف؟
ربما أن المشكلة ترتبط بالطابع الطقوسي للحدث. فالطقوس والتقاليد قد تطغى على فعل حكّ الدماغ الضروري من أجل الإتيان بفعل مخطط ومحسوب ذي وقع. من غير المجدي الاكتفاء بالتحديد المسبق لليوم والتاريخ على التقويم السنوي، بغية القول لاحقا بشكل استرجاعي:  لقد أحيينا الذكرى وعلى الدنيا السلام.. كلا، لا سلام في هذا، ولا مساواة. هذا مؤشّر على كسل في التفكير وفي الفعل.
إحياء الذكرى مطلوب من ناحية أخلاقية ووطنية وسياسية.  ولكن من المهمّ السؤال عن كيفية التخطيط لنشاط منظم لا يحوّل الذكرى الى يوم يتيم. بل يجعلها نقطة فاصلة بين عمليتين مترابطتين: تكثيفٌ لنشاط تصاعدي نحو يوم الذكرى من جهة، وأن تلعب الذكرى دور الحدث الذي يؤجج النشاط نحو السنة القادمة، من جهة أخرى. ولأن يوم الأرض ليس مجرّد حدثٍ وقع في الماضي، فمن المهم التمعّن في ما يمكن للقوة الجماهيرية أن تنجزه طيلة أيام السنة، تلك السابقة وتلك اللاحقة ليوم الذكرى. هنا علينا التنبّه من المغالاة في الترميز الفوقي. لأن مسألة الأرض ليست منظومة من الرموز فحسب. إنها ليست رمزًا للهوية” والانتماء والكرامة فقط. لا. إنها ذات تجليات انسانية ملموسة ومُعاشة. إنها قضية الزوجين الشابين اللذين يبحثان عن مكان يبنيان عليه (أو يستأجران) بيتًا. إنها الفضاء الذي يجب أن يتطور عليه مصنع، حديقة عامة، ملعب، مكتبة، مسرح، دار سينما أو منطقة سياحية. هذه أمور ملموسة جدًا، مادية جدًا، وهي تحتاج بالتالي الى ممارسة ملموسة جدًا.

بين كل 30 آذار و 30 آذار، هناك وقت كاف لوضع برامج عملية، غير فوقية، من أجل تحديد قضايا محددة وإثارة النضال حولها. ليس كرد فعل على خطوة سلطوية محتملة قادمة فقط، بل من خلال إجراء مسح ما، يتم من خلاله تحديد عدد من الاهداف القابلة للتحقيق والعمل على انجازها، وبمشاركة شعبية أولا.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. اخ هشام

    كيف نفكر بالارض و هموم الدنيا تملاءنا والعيش ضمن كلم مربع و فرض هاجس امني عليك ما هو مطلوب هو نسيان ان لنا ارض و وطن ان ننسى حكايات و قصص قراناان ننسى اننا من ارض اسمها فلسطين.
    لاننا فقط اصبحنا نرى ان مخيم عين الحلوة هو فلسطين الحاضر و الماضي لان كل ذكريات و قصص هذه الارض رويت في هذا المخيم ومات روتها فيه و دفنت معهم كل ذكرياتهم.

    هذا هو مخيم عين الحلوة

  2. هذا الشبل من ذاك الاسد

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>