عامر شوملي والصهارة المرئية

عامر شوملي، لا يشغله فن الكاريكاتير، ولا البوستر السياسي، ولا الرسوم المتحركة، أو الرسم الواقعي الساخر؛ تشغله تلك المساحة التي تصهر كل هذا وتجعله متمازجًا ومتحدًا باتجاه المقولة؛ السياسية أو الاجتماعية أو غيرها.

عامر شوملي والصهارة المرئية

| أسماء عزايزة |

قد لا يقود التفكير في معنى الحداثة وجدواها وواقعيتها إلى شيء سوى مغط التفكير والاصطدام بحائط الأسئلة الصلب. ولكن من أطلق هذا المصطلح لا بد وسعى إلى تبيان معناه؛ ما وصلني على الأقل: أنها حركة تنويرية تجديدية عقلانية هدفها تبديل النظرة الجامدة إلى الأشياء وتحديث صورة الإنسان والعقل والهوية الخ.. وتحييدها عن السائد المتحجر. إذا ما جئنا ناحية الفنون المرئية، ولو أنه، أيضًا، مصطلح “حداثي”، نجدها خاضت صيرورة حداثية من حيث الشكل والجوهر، على مر العقود الأخيرة، ذات منحى أكثر وضوحًا من ذاك الذي اتسمت به أجناس فنية أخرى. وقد نأتي، محاولين إسقاط هذه النتيجة/ النظرية، على فترات فنية، أعمال فنية، أو فنانين بعينهم، فنجدها حادة وحتمية؛ كلُّ فن “يُنظر إليه” آخذ بتطوير عالمه الخاص وتحديث أدواته وآلياته ومضمونه بفعل تغيرات العصر وحاجاته وما يوفره، أيضًا.

إن النموذج الذي نقف أمامه الآن لم يعمد، فقط، على تطوير العوالم الخاصة بالأصناف الفنية المرئية كل بمنأى عن الآخر، القريب أو البعيد عنه. إنما هو نموذج للـ”صهارة” الفنية؛ ما يعني توسيع الفضاء الفني المرئي حتى استيعاب أشكال فنية حديثة متعددة. أيكون هذا أبعد من الحداثة؟ عامر شوملي، لا يشغله فن الكاريكاتير، ولا البوستر السياسي، ولا الرسوم المتحركة، أو الرسم الواقعي الساخر؛ تشغله تلك المساحة التي تصهر كل هذا وتجعله متمازجًا ومتحدًا باتجاه المقولة؛ السياسية أو الاجتماعية أو غيرها.

نأتي، على سبيل المثال، على تفحّص عمله الذي عنونه بـ”المهرج”،(انظر/ي الصورة)، وهو بورتريه شخصي. نجد كيف تم تبني هذا الجنس- البورتريه- والذي عُرف تاريخيًا بواقعيته وقرب خطوطه إلى الحقيقة- في مساحة كاريكاتورية، حيث عمد عامر، وعن قصد، في رسم خطوطه- معالم وجه المهرج- إلى درجة كبيرة من المبالغة في الشكل والتضخيم المعتمدة في الرسم الكاريكاتوري الساخر. أضف إلى ذلك، المفارقة في أن هذا الرسم “الشبه كاريكاتوري” اعتمد على طريقة رسم دقيقة؛ قد يعتمدها فنان واقعي! من حيث استعمال اللون والمواد- كالطبشور والزيت وغيره. إذن، هذه هي المساحة التي ينبِّش عنها عامر شوملي، تلك الحائرة، غير واضحة الهوية، بفعل البحث ووضعه هدفًا، ولكن واضحة الرسالة في آن. فنجده يرفق الصورة بهذا الكلام: “المهرج لا يخاف رغم أنه ينام في خزانة الملابس. فهو مثل الكشّاف.. مستعدٌ دائمًا. المهرج يفضل شراء أوراق لفّ السجائر على أوراق اليانصيب. فهو لا يؤمن بالقدر، أو النشرة الجوية، أو فتح الفنجان. فالله لا يلعب النرد ولا رماية الأسهم. المهرج لا يشغل باله بسؤال الأزل “من جاء أولا، البيضة أم الدجاجة؟”.. يشغل باله سؤال آخر؛ أيسمع صياح الديك؟ المهرج يرمي الناس بالحجارة رغم أنه هو ذاته من زجاج. فهو لا يخاف.. بل ينتظر”.

هنا يكون العمل شخصيًا، وضيّق المنابع، وذاتيًا. إنما ذاك ليس الفضاء الوحيد الذي يسبح فيه عامر. بل نجد ذاك العام، واسع المنبع والمصب، اللاهث وراء أعين الناس وعقولهم. نتفحّص مجموعة من البوسترات- اللوحات التي تحمل عنوان “إكس ريه- x ray”، (انظر/ي الصورة)، ولا أسميها البوسترات من منطلق قناعتي بالصهارة الفنية التي أولتها آنفًا. نجد أولا خطوطًا واقعية؛ اليد والأصابع والكف تبدو طبيعية جدًا. ولكنها تمتد إلى مساحات خيالية كامتداد الأرجل أو الأيدي الكاملة من الإصبع. إنها ليست السريالية بمفهومها الفني التقليدي الذي يظهر الخيال والواقع، معًا، على السطح. لا. ما يظهر على السطح هو واقعي بامتياز، إنما الإكس ريه هو ما جعل الخيالي ظاهرًا. وما يجعل الخفي الذي فينا ولا نراه بيّنًا. إذن هي أشبه بـ”سريالية مبطنة”؛ أعتبره تطويرًا ذكيًا لطريقتي التعبير المتبعتين. عامل إضافي أدخله عامر إلى هذه الصهارة المرئية؛ إنه الجانب الشعبي الذي صار أن اكتسبه البوستر وحده، اختيار الشارع وواجهة البناية كمكان لعرض هذه الأعمال. أعمال فيها من التعقيد ما يجعلنا نسرح وقتًا طويلا فيها، كتلك التي توضع، طبقيًا، في المتاحف وصالات العرض الأنيقة، إلا أننا نمر عنها في طريقنا إلى العمل أو الدكان. جميع هذه العوامل، المعقدة، البسيطة، الواقعية، السريالية، تنصهر في إناء واحد، أسميه الفن الحديث. ليس ذاك المنتمي إلى “الحداثة” (المطوِّرة والمتعالية)، إنما ذاك المتمرد عليها وصاهرها.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

5 تعقيبات

  1. شكراً أسماء على المقال الجميل.
    عزيزي “فنان”, مع احترامي لرأيك, إلا أنني أعتقد أن عامر أولاً ودائماً في الشارع. لم يتركه يوماً حتى يتعالى عليه. وبرأي الشخصي أنه لو كان ممن يبحثون عن الأضواء, لكان أول من ينتج الأعمال بالجملة ليغرق بها الإنترنت وغيره. يكفي أنه فنان بشهادة الشارع, إطار أو اسم لطلما وجد حرجاً في أن يطلقه على نفسه أصلاً.
    الناس اللذين “يرسم لهم” هم الناس نفسهم الذين تطالبه أن يلازمهم, يعني الناس اللي في الشارع.
    أخيراً أود أن أعبر مرة أخرى عن احترامي لرأيك, رغم معارضتي له, وشكراً.

  2. من التقائي بهاذا الفنان ولاكثر من مره . اريد اليوم ولانه ليس هناك اتصال مباشر معه كي يتسنى لي ان اقول له رايي مباشره
    انصحه ان يخرج من سلوكه الغير مرتبه بالناس الذين يرسم او يصمم لهم
    الفنان ابن الشارع لا يتعالى عليه ولا يتنافر معه ولا اعتقد ان عامر الشوملي خير من يمثل الشارع الفلسطيني اولا ثانيا اعتقد ان الزخم الاعلامي لا يخلق فنان يا اخت اسماء

  3. لست مطلعاً على الفنون المرئية أو التشكيلية، لكن تماسك الرؤية الفنية في المقال واستنادها إلى فكرة “الصهارة”، إضافة إلى الأسلوبية، هي التي لفتت انتباهي وأعجبتني لأنها تشي عن اطلاع وحدة في وجهة النظر
    تقديري

  4. اضفت يا اسماء الى هذة التحف الفنيه من نوع وجمال آخر تحفه ادبيه تدخل القارئ الى روح اللوحه واحاسيسها فيراها بعينه ووجدانه يعطيك العافيه .

  5. معرض جميل جدا وذكي ونص سلس ويضيء على بعض النقاط.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>