عن الوجودية والخوف من الموت… ضحكًا

في الفصل السادس من كتاب “Plato and a Platypus Walk Into A Bar” يقدّم الكاتبان الأمريكيان توم كثكارت ودانييل كليين مدخلًا فلسفيًا للفلسفة الوجودية، لكنهما يقدمانه على طريقتهم الخاصة؛ شرح الموضوعات الفلسفية عبر نكت كلاسيكية تعتمد على مشكلات فلسفية أساسية

عن الوجودية والخوف من الموت… ضحكًا

 

وجودية حتى الموت!- "من يريد العيش إلى الأبد؟"

وجودية حتى الموت!- "من يريد العيش إلى الأبد؟"


|توم كثكارت ودانييل كليين|

|عن العبرية: مجد كيّال|


الوجود يسبق الماهية.” إذا كنت تتفق مع هذه المقولة، فأنت وجودي إذًا. إذا لم تتفق، فأنت موجود، ولكنك… مش فاهم شو السّيرة.


ديميتري : لا بد أن أعترف أمامك يا تاسو، أحيانًا.. أريد.. أن أكون مثلك تمامًا !

تاسو:  ولكن هذا ممكن فعلًا! بحسب الوجودية، مصدر كيانك يكمن في ذاتك. أنت من تخلق ذاتك.

ديميتري: ممتاز! رهيب! دائمًا أردت أن أكون طويل القامة مثلك.

للتعمق في فهم الوجودية، لا بدّ من التعمق أولًا في فهم “المُطلق” لدى هيغل في القرن التاسع عشر. بحسب فلسفته هذه، يمكن أخذ تصوّر حقيقي عن العالم فقط بالنظر من الخارج إلى الداخل. هل يكون صاحب مقولة “أفضل المواد الكوميدية موجودة بمعظمها في التوتر بين المطلق الهيغلي والإغتراب الإنساني الوجودي” هو الكوميديان رودني دينجرفيلد؟ لا طبعًا، ولكنه لو قال هذا لكان استعمل النكتة القادمة لتفسير ما يقصده:

رجل يمارس الجنس مع زوجة صديقه فيسمعان فجأة صوت سيارة الزوج في الموقف. يختبئ الرجل في خزانة الملابس. يدخل الزوج، يفتح الخزانة لتعليق معطفه فيرى الرجل عاريًا فيصرخ: “ليني؟! ما الذي تفعله هنا؟” فيرفع ليني كتفيه بسذاجة ويجيب: “كل شخص يجب أن يكون في مكانٍ ما.”

هذه إجابة هيغلية لسؤال وجوديّ. الزوج يريد أن يعرف لماذا ليني بالذات من بين جميع البشر في هذا الوضع الوجودي؛ عارٍ في خزانته! ولكن ليني، الذي من المفترض أن يكون صديقًا، يختار لأسبابه أن يجيب على سؤال آخر: “لماذا إنسان ما، موجود في مكان ما؟” سؤال يمكن أن يكون منطقيًا فقط إن كنت فيلسوفًا ألمانيا متعاليًا مثل هيغل.

بحسب جيورج فيلهيلم فريدريك هيغيل، فإنّ التاريخ هو تجلي “الروح المطلقة” عبر الزمن. روح فترة معينة (مثلًا، امتثالية سنوات الخمسينيات المتوترة)، تولّد نقيضها (الهيبيز في سنوات الستينيات)، والاصطدام بين النقيضين يولد تخليقًا (سينتيزا) جديدًا (هيبيز الصالونات في سنوات السبعينيات مثل موظفي بنوك وول ستريت بتسريحة شعر “البيتيلز”).

وهكذا تستمر جدلية نظرية-نقيض-تخليق (ويتحول التخليق لنظرية جديدة)، وهكذا دواليك.

يرى هيغل نفسه قافزا إلى خارج التاريخ، وأنه ينظر إلى الأسفل، إلى “كل هذا” من نقطة مراقبة متجاوزة الوجود-إلهية. على نقطة المراقبة هذه يطلق اسم “المُطلق.” ومن هناك، من الأعلى، يبدو أنّ الأمور تسير على ما يرام. حروب؟ خطوة في الجدلية. أوبئة؟ خطوة أخرى. رعب؟ لا تقلقوا. الجدلية مستمرة في الحركة ولا يمكن فعل أيّ شيء بهذا الخصوص.. فقط عليكم باتخاذ نقطة مراقبة والاستمتاع بالمناظر الخلابة.. غيورغ فيليهام فريدريخ يظن أنه يشاهد بنظرة إلهية.

إلى المسرح يصعد معاصر هيغيل، سُرن كيركغور، وبالحقيقة… يظهر كريكغول منكّد أكثر من دايمًا. “ما همني إذا كانت الامور على ما يرام من نقطة “المطلق؟” يسأل سُرن. “هذه ليست، ولا يمكنها أن تكون، نقطة مشاهدة الفرد الموجود.” بهذا الإدعاء، ولدت الوجودية. مبروك… “لست الله” يقول سورن، “أنا فرد، من يهمه كيف سُترى الأمور من الأعلى؟ أنا هنا، تحت، في داخل الوجود النهائي، وأنا مرعوب! أنا في خطر اليأس. أنا. وماذا إذا كان الكون يتحرك من دون توقف؟ إنه يهدد بدهسي في طريقه!”

إذن، إذا وجدك كيركغور في خزانته وسألك “شو بتعمل هون؟”.. إوعك تقول “كل شخص يجب أن يكون في مكان ما.” نصيحتنا: إرتجل.

الفيلسوف الفرنسي، ابن القرن العشرين، جان بول سارتر تبنّى فكرة كيركغر بشأن وحدة الفرد المُرعبة، وغزل منها تداعيات على فكر الحرية والمسؤولية الإنسانية. وبحسب صياغة سارتر، “الوجود يسبق الماهية.” وبهذا، قصد أن يقول إنّ البشر معدومو الماهية (..وهدف جوهري واضح) محددة مسبقا، كتلك الموجودة في ذهن صانع عامود لتعليق المعاطف. نحن لسنا مبرمجين سلفًا، نحن أحرار لاختراع أنفسنا من جديد.

إذا استوعبنا أنفسنا فقط ككائنات ذات هويات محددة، سنتوقف عن الوجود. وإحدى الطرق التي خلالها نستوعب أنفسنا ككائنات ذات هويات محددة، هي القبول بالدور الذي يفرضه علينا المجتمع، ما يعتبره سارتر احتيالاً على الذات، وبحسب علمنا، هذا ليس بالأمر الجيّد.

سارتر ينظر إلى نادل في مقهى، ويرى أنه “أن تكون نادلًا” هو أن تمثّل دور أنك نادل. النُدل يتعلمون أن يكونوا ما هم عليه عبر تقليدهم للـ “نادل”. فهم يمشون بطريقة معينة، يظهرون تعاملا معينا، يتواجدون في نقطة معينة على سلم الحميمية والابتعاد، وما إلى ذلك. وهذا جيد لطالما يعرف النادل أن يلعب الدور، ولكننا كلنا نعرف شخصًا واحدًا على الأقل يؤمن بأنه نادل، وأن هذا ما يكوّنه ويجعله “هو”… هذا هو الاحتيال على الذات.

نكت كثيرة تسخر من رغبة التماهي من دون تفكير مع قيم وتصرفات مجتمعاتنا حين تعرض علينا مواقفَ مبالغًا بها. هذه بذاتها خطوة انطلاق تسمى “ردوكتيو آد أبسوردوم” أي “مؤدية للعبث.” في نكتة الـ “ردوكتيو آد أبسوردوم” القادمة يعطي “سول” معنى جديدًا للاحتيال على الذات بالتماهي مع المجموعة:

إييب وصديقه سول يخرجان للتنزه، يمران بجانب كنيسة كاثوليكية عليها لافتة: “ألف دولار لمن يحوّل دينه للمسيحية.” يتشجع سول، بما أنه ليس مسيحيًا، ويقرر أن يفحص الموضوع، إييب ينتظره في الخارج. تمر الساعات حتى يخرج سول من الكنيسة.

-”ها؟”، يقول إييب، “خبّرنا…”

-”صرت مسيحيًا.”

-”شو بتقول!… وأعطوك الألف دولار؟”

-”مال؟ هذا فقط ما يهم الناس في أيامنا…؟”

ومع هذا، فالاحتيال على الذات هو أيضًا أن نرى أنفسنا أصحاب إمكانيات غير محدودة أبدًا، من دون أية حدود لحريتنا.

بقرتان تقفان في المزرعة. تقول الأولى: “شو رأيك بمرض جنون البقر؟”… ترد الثانية: “هه، ولماذا أهتم؟ أنا أصلا هيليكوبتر.”

بالنسبة للفلاسفة الوجوديين، ليس الخوف عارضًا يدلّ على مرض يجب معالجته بالأدوية. لا أبدًا، بل أن الخوف هو تجاوب بشري أساسي مع شروط الوجود الانساني نفسها: أن نكون بشرًا، يعني أننا سنموت.. وأننا لا  نملك القدرة على تجسيد كامل القدرات الكامنة فينا. وأننا مهددون دائمًا بغياب المعنى من حياتنا. هذا كله يكفي لتقرّر أن تصبح فيلسوف “نيو إيج” بدلا من فيلسوف وجوديّ.

الوجوديون يرغبون دائمًا بالتمييز بين “الخوف الوجودي”، مثل الخوف من الموت النابع من كوننا بشرًا، وبين الخوف العادي، العصبي.. مثل حالة نورمان:

نورمان يستصعب التنفس في الآونة الأخيرة، ذهب لاستشارة الطبيب: “دكتور، أنا متأكد من أنني مصاب بمرض في الكبد.”

- “هذا سخيف، لا يمكنك أن تعرف إذا كنت مصاب بمرض في الكبد. لا يوجد لأمراض الكبد عوارض غير مريحة.”

- “تمامًا، من قال إني غير مرتاح؟”

الفيلسوف الوجودي، ابن القرن العشرين، مارتين هايدجر كان سيجيب “هل هذا ما تسميه خوفًا يا نورمان؟ أنت لم تعش حتى الآن! وحين أقول كلمة “تعش” أنا أقصد “التفكير الدائم بالموت”.” هايدجر استرسل في الوجودية إلى أن قال إنّ الوجود الإنساني هو “وجود لأجل الموت”. لكي نعيش الحياة بما تحمل الكلمة من معنى، علينا الوقوف بشجاعة أمام فكرة أننا سنموت، وأن نتولى مسؤولية حياة ذات معنى في ظلّ الموت. حذارِ أن نحاول الهرب من الخوف الذاتي، ومن المسؤولية الذاتية عبر تناسي حقيقة الموت وتجاهلها.

ثلاثة أصدقاء يموتون في حادث طرق، ويصلون إلى نقطة التجمع في السماء. الموجّه السماوي يسألهم عمّا يريدون أن يُقال عنهم أثناء تشييعهم.

قال الأول: آمل أن يقولوا إني كنت طبيبًا رائعًا، ورجل عائلة ممتازًا.

قال الثاني: كنت أريد أن يقولوا إني كمعلم تركت أثرًا كبيرًا في حياة الطلّاب.

قال الثالث: كنت أريد أن أسمع أحدهم يقول: “أنظروا! إنه يتحرك! “

بالنسبة لهايدجر، الحياة تحسُبًا للموت ليست فقط حياة أكثر شجاعة، إنما هي الأكثر أمانًا، لأن رقم اليانصيب الذي في أيدينا قد يفوز بالقرعة في أي وقت…

يسأل رجل بصّارة كيف تبدو الجنة. تنظر في كرة الكريستال وتقول:

“هممم، هناك خبر جيد وخبر سيء. الخبر الجيد هو أنهم، كما تحب، لديهم ملاعب غولف رائعة…”

- ” رائع”، يقول الرجل “وما الخبر السيء؟”

- “لديك مباراة غدًا صباحًا.”

لا زلت تتناسى موتك !؟ جرّب هذه…

الرسّام: ما وضع مبيعات لوحاتي؟

صاحب المعرض: حسنًا، يوجد خبر جيد وخبر سيء. أتى شخص وسألني إذا كنت أعتقد أنّ قيمة لوحاتك سترتفع بعد وفاتك، وعندما قلت نعم، اشترى كل لوحاتك.”

الرسّام: هذا رائع، وما الأخبار السيئة؟

صاحب المعرض: هذا الرجل هو طبيبك الخاص.

ومع هذا، من حين إلى حين، نسمع قصصًا عن موت يتجرّأ على التحديق في وجه الرعب.. والضحك. تحلّت الكوميديان غيلدا ريدنير بالجرأة للوقوف أمام الجمهور بعد أن شخّص أطباؤها سرطانًا فتّاكا في جسمها، ورَمَت هذه النكتة…

مصابة في سرطان فتاك تلتقي بطبيبها. يقول لها الطبيب: “حسنًا، أعتقد أننا وصلنا إلى نهاية الطريق. لديك فقط ثماني ساعات للعيش. إذهبي إلى البيت واستغلي الوقت قدر المستطاع.”

تذهب إلى البيت، تبلغ زوجها بالخبر وتقول له: “حبيبي، بديش إشي، بدي أنام معك وبس.”

يرد الزوج: “بتعرفيني كيف، أحيانًا بيجي عبالي سكس، أحيانًا لأ، الليلة بديش.”

- تتوسل الزوجة: “بليز! هاي آخر أمنية في حياتي حبيبي.”

- الزوج: “بقلّك مش جاي ع بالي…”

- الزوجة: “عم بترجاك حبيبي…”

- الزوج: “إلا شو.. طبعًا.. شو هامّك.. سهل الحكي.. إلا.. مأنتي مش فايقه ع الشغل بكرا الصبح.”

التشديد الوجودي على التعامل مع الخوف من الموت أطلق في القرن العشرين صناعة جديدة: “الهوسبيس”- بيوت معدة لتجهيز المقبلين على الموت لموتهم- التي تأسست على فلسفة المعالجة النفسية، د.إليزابيث كبلر-روس، الداعية للتكامل النفسي الصادق مع الموت:

زبون في المطعم: كيف تجهزون الدجاج لهذه الوجبة؟

النادل: يعني… لا شيء مميزًا… عادي.. منقول لهم إنهم رايحين يموتوا.


تاسو: لماذا تضحك؟ أنا أكلمك عن الخوف من الموت، هذا غير مضحك.

ديميتري: هناك ما هو أسوأ من الموت…

تاسو: أسوأ من الموت؟ مثلًا؟

ديميتري: هل قضيت وقتًا مع فيثاغوروس؟


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. انصح كاتب المقال والمترجم أن يقرأ لأبن سينا
    التّفرقة بين الماهية والوجود في فلسفة ابن سينا.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>