فالتر بنيامين الآن/ حسن الزبارقة

انتحر فالتر بنيامين تاركا وراءه أحد أهمّ النصوص التي تناولت مسألة التاريخ: “أطروحات عن مصطلح التاريخ”. لقد كانت هذه محاولة استثنائية لتفسير وجود النازية، طارحة سؤالا بديهيا لم يتناوله قبله أحد: كيف خرجت النازية من رحم المجتمع الغربي التنويري العقلاني؟

فالتر بنيامين الآن/ حسن الزبارقة


لوحة بول كلي Angelus Novus (الملاك الجديد)


|حسن الزبارقة|

يقال إنّ العرب لديهم إشكال مع التاريخ ، أو بالأحرى أنهم يفتقدون للفكر (والتفكير) التاريخيّ، ولعلها خلاصة عبد الله العروي في كتابه “العرب والفكر التاريخي”، وكذلك فوزي منصور في كتابه “خروج العرب من التاريخ”. ويعود منبع هذه الفكرة، دائمًا، إلى فشل المشروع التنويري العربي، أو ما يُعرف بعصر “النهضة”، وهو أمر إشكاليّ بحدّ ذاته، كونه يطرح سؤالاً أكبر عن منطق التاريخ بين تقبّله ورفضه، وعن أسباب فشل المشروع التنويري العربي.

إلا أنّ العودة دائمًا إلى ابن خلدون مطلوبة، و”العودة” لا تعني بالضرورة خطوة وانتكاسة إلى الوراء، بل لعلها فرصة لطرح السؤال من أوسع أبوابه؛ سؤال التاريخ.

وجهة نظر أخرى طرحها المفكر الألماني فالتر بنيامين. ولعلّ بنيامين يُعرف كناقد أدبيّ أكثر منه فيلسوفًا، إلا أنّ طرح بنيامين الأدبيّ كان في وقته مستغربًا أيضًا، لما فيه من فكر تاريخيّ، ومزيج من صوفية يهودية وفكر ماركسيّ نقديّ. هذه “الغرابة” رافقت بنيامين طوال حياته حتى اللحظة الأخيرة- لحظة النهاية.

على الحدود الفرنسية، هاربًا من الوحش النازيّ (هو وحنا آردنت)، بعد أن أُخبر بأنه لن يستطيع عبور الحدود حيث النجاة من معسكرات العمل والإبادة التي خُصّصت لمن هو يهوديّ وغيرهم ممّن اعتبرهم النازيون غير جديرين بالحياة، انتحر فالتر بنيامين تاركا وراءه أحد أهمّ النصوص التي تناولت مسألة التاريخ، معنونًا بـ “أطروحات عن مصطلح التاريخ”. لقد كانت هذه محاولة استثنائية لتفسير وجود النازية، طارحة سؤالا بديهيا لم يتناوله قبله أحد: كيف خرجت النازية من رحم المجتمع الغربي التنويري العقلاني؟ لم يُتح الأمر للنازية، إلا لكونها في أصلها ظاهرة عقلانية اعتمدت الفكر التنويريّ الأوروبيّ منبعًا لها، ولهذا، فإنّ التاريخ حسب بنيامين هو حلقة مستمرّة من حالة الطوارئ؛  تاريخ المضطهدين هو حالة من الطوارئ  وحالة الطوارئ هذه هي القاعدة، وليست الاستثناء. فالتاريخ ليس إلا عبارة عن مهرجان مُستمرّ من الاحتفال داس فيه المنتصرون على جثث المهزومين. كان بنيامين متشائما إلا أنه لم يترك للمضطهدين حلا  يستطيعون من خلاله إلغاء حالة الطوارئ التاريخية.

التاريخ حسب بنيامين هو حلقة مستمرّة من حالة الطوارئ؛  تاريخ المضطهدين هو حالة من الطوارئ  وحالة الطوارئ هذه هي القاعدة، وليست الاستثناء

بذلك، اقترح بنيامين مراجعة عامة لتراث التنوير العقلاني الأوروبي مُستنتجًا أنّ النازية في أساسها حركة حداثية تكنولوجية بامتياز، اعتمدت المعايير الأخلاقية الأوروبية التي برزت أولا مع عصر التنوير أو ما يُعرف بعصر النهضة الأوروبيّ. وقد بحث بنيامين في السّياق الثقافي للنازية (والنازية اقتديت مثلا للدلالة على غيرها من الأزمات) فيخته وغوبينو وتشمبرلاين والتراث الثقافي الألماني القوميّ، وللتجربة القومية أهمية  في الطرح القومي العام بشقيه الأوروبي وحتى العالمي بمن فيهم العرب (ومعروف تأثر القوميين العرب من الحُصري وحتى عفلق بالتراث القومي الثقافي الألماني).

لقد اعتمد بنيامين على لوحة الرسام بول كلي (Paul Klee) المعنونة باسم “انجلوس نوبوس” (Angelus Novus)، حيث كان الملاك -ملاك التاريخ (ملاك للموت)- ينظر إلى الأمام متأملا في تاريخ حافل من الحروب والكوارث والقتل والإبادة. لكنّ من كان يظن أنّ نظرة بنيامين نفسه  كانت إلى الماضي فقد كان مخطئًا؛ فنظرته كانت إلى المستقبل وما هو مقبل علينا.

طبعا، كان بنيامين استمرارية لمجموعة من المثقفين اليهود (“الضمير الأوروبي”) حاولوا نقد الفكر التنويري الأوروبي ونقد العقلانية الأوروبية التي جرّت العالم إلى ما هو عليه من حروب واستعمار باسم “التنوير والعقلانية”. وقد حاول موشي مندلسون ذلك، أيضًا، وثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتاب “جدل التنوير”، وحاولت ذلك حنا آردنت في “أصول الكُلانية”، وحتى ليو شطراوس من الطرف المقابل للفكر النقدي.

فضل فالتر بنيامين الانتحار على الوقوع في يد النازيين، ولعله أمل بأن يفسد على المنتصرين فرحة الانتصار، لكن سخرية القدر بما فيها من قسوة واستخفاف أبت أن تفارقه حتى في موته؛ ففي اليوم التالي لانتحاره تلقت حنا آردنت والمجموعة التي كانت معها تصريحًا بعبور الحدود، لكنها جمعت أوراق وصية بنيامين معها كي تنشرها بعد وفاته المأساوية.

لعلّ البعض سيقول –حيث أنّ الأحداث السياسية في فلسطين والعراق وسورية واليمن وباقي البلدان العربية  تملي ذلك- إنّ حالة الطوارئ مستمرة إلى يومنا هذا، ممّا يعني أنّ الطرح البنياميني ما يزال إلى يومنا هذا له ما يبرّره. إلا أنّ الطرح البنياميني يتطلب الابتعاد عن منطق التبسيط المتعمد، حيث أنّ التاريخ ليس بهذا التبسيط. وليس بالضرورة أن تكون كلّ عودة هي عودة خلدونية.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. Why you didn’t mention Agamben in your article, as he is the one who developed Walter’s idea on the homo Sacer and the bare life notion and the state of exemption. Also it would be nice to link Walter’s notion on history with the current revolutions in the Arab world.
    Great Article though

  2. مقالة ممتازة جدا
    ربط بين تجارب اخرى وبين ما يحدث الان
    يا رت يا قديتا تكتروا من هالمقالات…

  3. جميل جدا ومحفز على التفكير بما يدور اليوم في العالم العربي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>