قراءة في “التقرير الاستراتيجي، العرب الفلسطينيون داخل الخط الأخضر- سيناريوهات مستقبلية”/ هشام روحانا

قراءة في “التقرير الاستراتيجي، العرب الفلسطينيون داخل الخط الأخضر- سيناريوهات مستقبلية”/ هشام روحانا

ما يشكل العامود الفقري للتقرير، وبعد أن تمت إدانة ما يسميه “مشاريع شمولية”، هو تنظير مستتر وظاهر لمقاربة ليبرالية منقطعة عن السياق التاريخي لنشوء القضية الفلسطينية وقضية الأقلية القومية الفلسطينية في إسرائيل

taqreer

.

|هشام روحانا|

هشام روحانا

هشام روحانا

دعا معهد “اميل توما” مشكورا لندوة حول “التقرير الاستراتيجي، العرب الفلسطينيون داخل الخط الاخضر، سيناريوهات مستقبلية” (وسيشار اليه لاحقا تحت مسمى التقرير، وكل ما يتم اقتباسه منه سيكون بالخط المائل). وتأتي هذه الندوة كما عرَّفنا بروفيسور أمل جمال، وهو أحد مُعدّي التقرير، ضمن سلسلة من ندوات حول هذا التقرير جرت في السابق وستجري لاحقا داعيا المهتمين لقراءته والمساهمة في النقاش والنقد. وسأقدم هنا مساهمتي التي قدمت بعضها في هذه الندوة نفسها معلقا بشكل سريع وقبل أن أدرس التقرير بتمعّن. ويأتي هذا تلبية لدعوة واضعي التقرير نفسه لقراءته ومناقشته.

يُعرِف واضعو التقرير أنفسهم على الشكل التالي: “مجموعة من الناشِطات والناشطين والأكاديميات والأكاديميين العرب الفلسطينيين في إسرائيل وأتوا من حقول وانتماءات ومذاهب فكرية مختلفة…”. ولا يفوت معدي التقرير الاشارة الى أنّ: ” تمويل هذه التجربة جاء أساسا من الحكومة النرويجية وبمساعدة مهنية فنية من مجموعة أوكسفورد للأبحاث“. ويضيف التقرير فيؤكّد أنّ “إدارة المشروع … فقد تحددت بأيدي محلية…”. لكن واضعي التقرير لا يبينون فيه من المبادر إلى المشروع ومن الذي صاغ أو حدد موضوع البحث، ولا كيف تم بناء فريق العمل وأية اسس اتبعت لاختيار افراده (1). ونقدنا هنا موجه الى المنتج النهائي نصا مطبوعا وصادرا في أيلول 2016 في كتيب أنيق وبحلة جميلة بدون شك.

ويأتي هذا التقرير بصياغته الراهنة ليشكل تراجعا بينا وخطيرا، لجهة اللغة والتعريفات والمفاهيم والتحليل والتشخيص والاستشراف، إذا ما قورن بما كان قد سبق وتم التوصل إليه حزبيا وجماهيريا وأكاديميا وإذا ما قورن، وتحديدا بالوثائق الأربع للتصور المستقبلي للجماهير الفلسطينية، أي: دستور عدالة ووثيقة حيفا ووثيقة مساواة ووثيقة اللجنة القطرية، ناهيك بوثيقة المؤتمر المحظور في السادس من حزيران 1980 والتي يقول إنه يستكملها ويوسع أفقها.

التقرير لغة بين لغتين

يحاول التقرير استحداث وتوظيف مصطلحات يستحضرها من هنا وهناك مبتعدا عن اللغة المتداولة والمتعارف عليها، ويبدو أن هذا يأتي في مسعى منه لبناء الوهم بأنه يقول أو يقدم معرفة جديدة. فها هو يستحضر، معبرا عن تواضعه، مفهومَ “النص المفتوح وغير المغلق” من النقد الأدبي لكي يشير إلى أنه، كنص، قابل للنقد والنقاش وبأنه نص غير نهائي، أوليس كل نص هو كذلك؟ لكن كيف يتوافق هذا الكم من التواضع مع جلد الذات بخطاب لو أن سعيدا قرأه لضمه لاستشراقه: “ وهذا ما يشكل تفسيرا، وإن جزئيا، لشيوع ثقافة الضحية بين العرب الفلسطينيين في اسرائيل والاكتفاء بخطاب يكرس في مؤداه مفردات التظلم والشكوى والغضب وأفعال القلوب ...”، إلى أن يصل إلى ” وهناك من يدعي (2) أن مجمل الثقافة السياسية للعرب في اسرائيل تقتصر على رد الفعل وعلى المكوث في ظل مزدوج للنخب في اسرائيل وللنخب الفلسطينية أو مراكز عربية في الجوار” (ص 22).

ومن ثم، يقرر واضعو التقرير أنهم قادمون إلى مهمتهم الدراسية الاستراتيجية و” قراءة الواقع قراءة موضوعية لا غائية، [بل] علمية لا ايديولوجية” (ص 16). وكيف تمكن هؤلاء الاكاديميات والاكاديميين من قراءة الواقع “قراءة موضوعية” وهم يقرأون واقع مجتمعهم هم،  سياسيا واجتماعيا وقانونيا، وكنا نعتقد بأن لا موضوعية ممكنة في قراءة حتى ما يتم تعريفه علوما دقيقة، فما بالك بالعلوم الانسانية؟ وأنهم، وهم أبناء الأقلية القومية المهمشة التي نزعت من فضائها وهجرت وحوصرت، استطاعوا أن يدرسوا الواقع “دراسة موضوعية غير أيديولوجية” فقد نالوا قصب السبق. ليست الموضوعية في دراسة المجتمع سياسيا واجتماعيا وما إلى ذلك سوى ادعاء ما هو غير مطلوب وما هو غير ممكن، إذ عليك ـحين تقرأ مجتمعك- أن تقرأه علميا وأنت منخرط بهموم أهله ونضالهم، آمالهم وعثراتهم.

ومن أجل إضفاء نوع من اللغة جديد، يستخدم التقرير المصطلح “حيز”، في مكانه الصحيح أحياناً ـ كالحيز العام أو الحيز العمومي (اي public sphere) في إشارة إلى المجال المشترك لعموم المواطنين ولن ندخل هنا لتعقيدات تعريف هابرماس وعلاقة الحيز العام بالمجتمع المدني. ولكن، أن يسمى الاقليم والمحيط العربي الاسلامي حيزا (ص 8) ففي ذلك بعض الغرابة. وخذ، مثلاً، التعبير التالي: ” أفول نجم المسألة الفلسطينية“، الذي يُعنْون به القسم الذي يبحث في الأزمة الراهنة للقضية الفلسطينية. وستكون ركاكة العنوان دليلك على ركاكة التحليل والرؤيا.  أما في فصل “المناخ الدولي” (ص 7)، فنكتشف أن دول العالم تسمى “المحافل الدولية” ونكتشف أيضا أن هنالك “سيرورات [مختلفة]  للعولمة، اقتصادية وتكنولوجية وسياسية“! ويكاد يرتقى دور الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي في التقرير إلى دور “فاعل خير” على أقل تقدير، فها هي الولايات المتحدة بوصفها “محفلا دوليا مستنزفا”، ” تبدو أقل استعدادا للتدخل الحازم… وإرغام إسرائيل على الانصياع للشرعية الدولية” (ص 7).

ويواجه التقرير إشكالية عويصة لا يستطيع أن يقرر فيها كيف عليه أن  يسمي أو يعرف حركات الاسلام السياسي،  فيستخدم صفة “العدمي“، مثلا، ليشير الى “داعش” وإلى الاسلام “الأصولي العدمي” (ص 49)، مرة أخرى، ولكن من دون الإشارة الى “داعش” هنا. والعدمية (أي، Nihilism) هي تيار فلسفي ينفي ضرورة الإيمان بالقيم وبعدم الحاجة إليها من أجل الخلاص الانساني. وعليه، يأتي وصف الاسلام التكفيري بالعدمي وصفا غير موفق وغير صحيح علميا. وفي حقيقة الأمر، عند البحث عن هذه التوليفة الهجينة (الاسلام العدمي) في الشبكة العنقودية وجدنا أنها غير قائمة بالمرة، إلا في مقال لأحد كتاب التقرير الذي نحن بصدده.

ويسبح التقرير في بحر من جمل لا نستطيع أن نفهم معناها الدقيق. خذ، مثلا، هذه الجملة التي تخص ” العرب الفلسطينيين في إسرائيل” بتعبير التقرير:” وهذا [أي "الاصطفاف الطائفي"] ما  يُضعف بالضرورة نضالهم المشروع ضد سياسات الحكومات الاسرائيلية ويصعب التموضع المريح وجوديا ضمن خارطة القوى المعقدة ذات السياسات العنفيّة أو تلك المعتدلة، وتجاذبات وتنافر المَحاور الجيو- سياسية والسوسيو- اقتصادية ذات العلاقة” (ص 20). كيف علينا ان نفهم هذا؟

وللحقيقة، فإن التقرير يتمتع بغنى فائق وإبداع قل نظيره في اجتراح اشتقاقات لغوية لا بد لنا أن نذكر بعضها. فحين يصف مساهمة التقارير المستقبلية السابقة له يشير، مثلا، إلى أن هذه التقارير أكدت على :” الناحية الثقافية الهُويّاتيّة التاريخية” (ص 11)، ونفتش عنها فلا نجدها، ما هذا؟ ما المقصود؟ وهنالك أيضا الاشتقاق التالي في وصف طبيعة النظام في اسرائيل بـ “النظام الاستحواذي“، ما المقصود هنا؟ وما المقصود بـ ” الإرادة الجامعة المعقولة” (ص 60). ولكن قمة القمم هي أن تقوم “مجموعة من الناشِطات والناشطين والأكاديميات والأكاديميين العرب الفلسطينيين في إسرائيل…” بوصف الحراك الشعبي المدني السلمي المحق ضد نظام الحكم العائلي الملكي المتخلف لآل خليفة في البحرين بـ ” التململ الشيعي“(ص 50).

كيف يُنظر معدو التقرير إليه؟

يحاول معدو التقرير الإجابة على ضرورة القيام بالعمل على هذا التقرير فيوردون في البند المعنون بـ “تفكيكات لمنظومة معقدة” الفقرة التالية:” في ضوء ما استجد وتطور على كل المستويات، يجد العرب الفلسطينيون أنفسهم في مرحلة من التحولات تقتضي أن يحددوا خياراتهم التاريخية فيها من جديد، وأن يقولوا بوضوح أين هم متجهون وما الذي يريدونه أو لا يريدونه. لم يعد بالإمكان تأجيل القول الصريح والايضاح في هذا المستوى الوجودي ومن هذا الادراك يأتي هذا التقرير” (ص 21). إننا، إذاً، أمام مهمة باتت ملحة لا نستطيع تأجيلها! الآن الآن وليس غدا، ويجب أن نقول ما نريد بوضوح! وسيساعدنا التقرير على ذلك. ولكن في البند الذي يليه مباشرة وهو بعنوان “مواضع الضعف والقوة“، وبفارق صفحتين ونصف الصفحة، يسجل معدو التقرير الأمر التالي:” لأن العرب الفلسطينيين في إسرائيل يعيشون وينشطون ضمن وضعية معقدة تتقاطع[؟] مع الصراع الاسرائيلي الفلسطيني  والاسرائيلي العربي ولأنهم ينشطون أحيانا وفي عرف الدولة اليهودية كجزء من هذا الصراع واسقاطاته من المهم التريث في اختيار استراتيجيات العمل المحدثة للتغيير وتحقيق التطلعات” (ص 24). طيب، اذا كنا أمام مهمة ملحة إلى هذا الحد في تحديد أهدافنا واعلانها على الملأ، بينما علينا أن نتريث في اختيار استراتيجيات العمل لتحقيق هذه الأهداف، فما حاجتنا إذاً إلى الإسراع، بل الهرولة، لتحديد الاهداف؟ وما حاجتنا إلى هذا “التقرير الاستراتيجي” من أصله؟

لكن معدي التقرير يقررون، قبل ذلك ببضع صفحات، الأمر التالي: “غاية التفكير الاستراتيجي كما خضنا فيه هنا هي تمكين مجتمعنا وتحقيق نوع من الاقتدار والانتقال من ردة الفعل الى الفعل والمبادرة لاستعادة زمام أمره والتحول الى جماعة لها صوت وإرادة وتطلعات واضحة تشارك على قدم المساواة مع الجماعات الاخرى في تسوية الصراع التاريخي في فلسطين التاريخية” (ص 17). ألسنا بحاجة ماسة وملحة من أجل المساهمة في تسوية الصراع التاريخي في فلسطين التاريخية الى استراتيجيات سنُنصح بالتريث في اختيارها في فقرة أخرى؟

زراعة الوهم

لا نسعى هنا الى التقليل من أهمية مطالبة المجتمع الدولي بالقيام بواجبه وبدعم نضالنا العادل، ولكن يظهر في التقرير منحى موجه يتكرر في عدة مواضع إلى تعظيم دور الاتحاد الاوروبي المرتقب أو المحتمل. فيرِد مثلا في الصفحة 22: ” تستند قضيتنا الى مفاهيم وتطبيقات العدل… التي تتصل بحقوق الانسان والاقليات القومية… وعليه، فنحن مسنودون تماما من خطاب الحقوق والعدالة الذي تنشئه وتتابعه محافل ومنظمات دولية… ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي…“.  وفي الصفحة التالية: “… ويمكننا أن نحول هذا التفوق [الاخلاقي]… الى تفوق سياسي اذا عرفنا كيف نطور استراتيجيات العمل بالتعاون مع المحافل الدولية...”. وصفحة 38: “سيجد العرب الفلسطينيون في اسرائيل عونا لهم في المحافل الدولية، ولا سيما أوروبا ودول OECD“.

لكن، والى جانب أهمية هذا، يُغيّب التقرير خلاصة التقرير الذي أعدته مؤسسة “عدالة” حول هذا الموضوع بالذات(3). ومن المستغرب ألا تؤخذ استنتاجاته أو توصياته بالدراسة من قبل مُعدي “التقرير الاستراتيجي” قبل الخلوص إلى استنتاجاتهم المذكورة أعلاه.

وسأقدم في ما يلي بعض النقاط المهمة من هذا التقرير، تظهر مقتبسة كما هي في النص الاصلي (ص 11):

1)   ” يعي الاتحاد الاوروبي بشكل قاطع المشاكل التي يواجهها المواطنون العرب في اسرائيل… الا أن الاتحاد الاوروبي لم يستغل الوسائل المتاحة له والتي تجعله أكثر تأثيرا بشكل كامل“.

2)    ” لم يشترط الاتحاد الأوروبي أبدا، ضمن علاقته الثنائية مع إسرائيل، اجراء تحسينات ملموسة على وضع حقوق الانسان في اسرائيل… بما ذلك حقوق الاقلية العربية الفلسطينية“.

3)    ”إن جميع مؤسسات الاتحاد الاوروبي، بما في ذلك البرلمان الاوروبي، قد أخفقت في استخدام دبلوماسية التصريحات في التعاطي مع التمييز الممارس ضد المواطنين العرب في اسرائيل“.

4)   “لقد حاول الاتحاد الاوروبي تعويض عجزه عن توفير الدعم السياسي للأقلية العربية الفلسطينية عن طريق ضخ الاموال…”

والخلاصة الاهم هي التالية: “أن حقوق الأقلية [كل أقلية وليس فقط الفلسطينية] غير محددة في المبادئ التوجيهية الخاصة بالنشاط الخارجي للاتحاد الاوروبي، الامر الذي جعل الاتحاد الاوروبي حذرا للغاية في الضغط على دول العالم الثالث بشأن حقوق الاقلية“؛ و”علاوة على هذا، فإن الغموض يكتنف موقف الاتحاد الاوروبي ازاء التوتر القائم بين تعريف اسرائيل كدولة يهودية وتعريفها كدولة ديمقراطية“. وكل ما تقدم يشكل “حصيلة أوجه القصور في سياسات الاتحاد الاوروبي تجاه الاقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل“.

اسئلة التفكير الاستراتيجي

ويضع التقرير أمامه أسئلة عديدة ليحاول الاجابة عليها ولكننا نعتقد أن أسئلة لا تقل أهمية عنها قد تم تغيبها. فبما أنه، وكما جاء في التقرير، علينا ” تفكيك المنظومة المعقدة التي  نعيش وسطها، على مركباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية بكل دوائرها ومستوياتها“. فهل جرى هذا حقا؟ على ما يبدو فإن مصطلح “التفكيك” يقدم لنا تفسيرا لماذا تغيب عن التقرير  المعطيات الكمية والمعلومات الدقيقة والتعريفات الدقيقة وتغيب الاحالة الى المصادر العلمية والاشارات العينية الدقيقة البعيدة عن لغة المجاز. إنه تقرير استراتيجي تغيب عنه الارقام والمعطيات والحقائق، رغم أنه توخى ” قراءة الواقع قراءة موضوعية“.

خذ، مثلا، مسألة ما يدعوه التقرير بـ ” السياسات الرسمية الاسرائيلية …[الهادفة] إلى تحسين مستوى المعيشة والبنية التحتية وزيادة انخراط الفلسطينيين في العملية الاقتصادية“. فهو لا يستطيع أن يقدم لنا فهما علميا واقعيا لمسببات ولأهداف هذا التوجه، بينما يقدم لنا رئيس سلطة تطوير الاقتصاد العربي في مؤتمر هرتسليا 2010 تفسيره: يخسر الاقتصاد الاسرائيلي عشرات مليارات الدولارات نتيجة تدني الاوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في اسرائيل. وتجري هذه السياسات الاقتصادية لتعميق ارتباط اقتصاد الفلسطينيين بالاقتصاد الاسرائيلي ووفق حاجاته هو ولإبقائه اقتصادا تابعا، ولتحسين شروط انضمام اسرائيل لمنظمات اقتصادية عالمية(4).

وسنترك جانبا ما نراه أمرا ملحا لمعالجة منفردة لاحقة، حول التنظير للطبقات الوسطى الظاهر في التقرير دون ريب.

ما هو تعريف التقرير لدولة اسرائيل؟ وكيف يحدد علاقتها مع “العرب الفلسطينيين“؟ أليس هذا الأمر مهما في تقرير استراتيجي يعالج علاقتنا مع الدولة؟ فمرة  يقولون لنا إن النظام “في طبيعته نظام استحواذي” (ص 24) ومرة ثانية هو “مجتمع مهاجر استيطاني” (ص 24 أيضا). وما هو مشروع هذه ” الحركة الصهيونية التي أحدثت النكبة واستحوذت على فلسطين التاريخية كوطن للفلسطينيين وبقاء الصراع مفتوحا مع دولة اسرائيل حتى يومنا هذا” (ص 18)؟ وهل القول بأن هذه “الدولة باعتبارها تعبيرا عن إرادة المجتمع اليهودي وسيادته القومية (دولة يهودية)”هو قول صحيح؟ ولنقتبس هذه الفقرة التي تدل على أن التقرير لا يستطيع أن يحزم أمره بالنسبة لطابع الدولة: “ تقوم سياسات الدولة تجاهنا على الاضطهاد والتمييز والإقصاء على اساس قومي أو إثني أو ديني“. هل هو خطأ مطبعي نتمنى ذلك. لنقارن الآن هذه التعابير الكسيحة مع  التعريف الذي تقدمه لنا “وثيقة حيفا”، مثلا: “… بدأت الحركة الصهيونية مشروعها الكولونيالي الاستيطاني في فلسطين ولاحقا قامت بتساوق مع الاستعمار العالمي وبتواطؤ الرجعية العربية معها، بتنفيذ مشروعها الرامي الى احتلال وطننا وتحقيق هدفها وتحويله الى دولة لليهود…” (“وثيقة حيفا”؛ ص 11). ويفشل التقرير فلا يحدد السياسة الرسمية للدولة والحركة الصهيونية بدءاً من النكبة والتطهير العرقي ومنع عودة اللاجئين والتهجير الداخلي ومواصلة سياسة القمع ومصادرة الأرض وتهويدها وهدم المسكن وتقليص الحق في التعليم والعمل والمسكن وإقصاء اللغة العربية ومشروع التجنيد والخدمة المدنية وغير هذا. وعندما يجيء على بعضها فإنه يغيب طابعها العضوي والبنيوي للمشروع الكولونيالي الصهيوني. إن غياب كل هذا سيؤدي بالضرورة الى أن يجيء في التقرير ما يلي: ” ضمن التنوع في الأطر والتيارات الصهيونية الفكرية والسياسية دأبت أوساط في النخب اليهودية والصهيونية في إسرائيل على دعوة العرب الفلسطينيين في الدولة الى الاندماج فيها وقبول خيار الانفصال…”(ص 20). فالمشروع الصهيوني الممارس على أرض الواقع وغايته إبقاء الأقلية القومية الفلسطينية معزولة في هامش التبعية والدونية وسلخها عن هويتها وتاريخها وفضائها الوطني والقومي ليس سوى “دعوة” للاندماج. وإذ نكتشف أن هنالك “تنوعا في الاطر والتيارات الصهيونية…“، فما هي طبيعته؟ هل هو حقيقي وثابت؟ أم هو لحظي عابر؟ والى أي حد يمكن استغلاله؟

التقرير والتجارب السابقة

يدعي التقرير أنه استفاد من التجارب السابقة في “التفكير المستقبلي” ويعددها لكن هذه الاستفادة غير ظاهرة لنا، لا باستخدام المفردات ولا المصطلحات ولا التعابير. وإذ قارنا التقرير بأية وثيقة من تلك الوثائق، فسنجده يراوح بين هنا وهناك يبدأ بالفكرة فلا يستطيع انتشالها ووضعها في صيغة  تُقرَأ وتفهم حتى يكاد يبدو لنا انه يحاول نسف ما قد تمت صياغته في التجارب السابقة؛ خذ مثلا:

… لأننا نرفض مبدأ الاقتلاع أو التطهير العرقي من أي طرف، قد لا تظل الشراكة اليهودية العربية آلية التغير، بل هي غاية التغير المرتجى. وهذا ما يفترض الانفتاح على المسألة اليهودية ورؤيتها من خلال نفس المعايير ذاتها التي نعتمدها في النظر الى انفسنا وحقوقنا. بل قد يكون التغيير كامنا في ثورية [؟] تسعى إلى تكريس مبادئ العيش المشترك والندي والمتكافئ كغاية لنا نحولها الى ممارسة في خلفية التفكير والفعل الاستراتيجيين” (ص 65-66). وضع مقابلها ما جاء في “وثيقة حيفا” في هذا الصدد: “نحننتطلعإلىمستقبلتتحققفيهالمصالحةبينالشعباليهوديالإسرائيليوالشعبالعربيالفلسطيني. هذهالمصالحةتتطلباعترافدولةإسرائيلبالغبنالتاريخيالذيأوقعتهبالشعبالفلسطينيجرّاءقيامها،وبمسؤوليتهاعنالنكبةالتيحلتبجميعفئاتشعبناالفلسطيني،وعنجرائمالحربوجرائمالاحتلالالتيتقترفهافيالأراضيالمحتلة. كذلكتتطلبالمصالحةالاعترافبحقالعودةوالعملَعلىتطبيقهوفقاًلقرارالأممالمتحدة رقم 194، وإنهاءَالاحتلال،وإزالةَالمستوطناتمنجميعالأراضيالعربيةالمحتلةمنذالعام 1967،والاعترافَبحقشعبناالفلسطينيفيتقريرمصيرهوإقامةدولتهالمستقلةوذاتالسيادة،وبحقوقالمواطنينالفلسطينيينفيإسرائيل،المستندةإلىكونهمأقليةوطن. كماأنهذهالمصالحةالتاريخيةبينالشعبينتندرجفيإطارتغييرشاملللسياسةالإسرائيلية،بحيثتكفإسرائيلعنالقيامبدورهاالهدامتجاهشعوبالمنطقة،وبخاصةفيإطارسياسةالهيمنةالأميركيةالتيتؤازرأنظمةعربيةفيقمعمواطنيها،وسلبمواردها،وإعاقةتطورها، وعرقلةالعمليةالديمقراطيةفيالعالمالعربي . وتتطلبمناهذهالمصالحةالتاريخية،نحنالفلسطينيينوالعرب،الاعترافبحقالشعباليهوديالإسرائيليبتقريرمصيره،والعيشمعالشعبالفلسطينيوسائرشعوبالمنطقةبسلاموكرامةوأمان. نحننعيتاريخاليهودالمأساويفيأوروبا،والذيبلغذروتهفيإحدىأفظعالجرائمالإنسانية،وهيالمحرقةالتيأحلّتهاالنازيةباليهود، ونعيالمآسيالتيعاشهاالناجونمنها. نحننتعاطفمعضحاياالمحرقة،مَنأُبيد ومَننجا”.

ودعنا نواصل فنقتبس هذه الجملة من التقرير ونتفحصها :” [يثمن فريق العمل التجارب السابقة] وإن كان لها شرطها الزماني والسياسي وفرضياتها المحدودة. فغالبية ما أنجز من محاولات استشراف المستقبل انطلق من فرضية المستقبل المحكوم بحل الدولتين، أو تمحور في علاقة الدولة بمواطنيها العرب بمعزل عن حل الصراع…“، بينما يقدم بروفسور نديم روحانا(5)  تقييما مختلفا لهذه الوثائق فيقرر: “وتشترك الوثائق كلها في رفض فكرة الدولة اليهودية من ناحية وطرح بديل ديمقراطي وثنائي القومية (…) أو دولة متعددة الثقافات وثنائية اللغة (…)”. هنالك إذا فرق بين حل الدولتين، ومركزه دولتان لشعبين، وبين ما تطرحه “الوثائق المستقبلية” كما يراها واحد من معدي “وثيقة حيفا” والباحث في الشأن الفلسطيني.

وفي ظل غياب أي تذويت ومراكمة للجهود السابقة وفي ظل غياب أية قراءة علمية لواقع الأقلية القومية الفلسطينية وغياب تقدير لاحتياجاتها، تلك الملحة والأنية وتلك المستقبلية وفي ظل تغييب طبيعة المشروع الصهيوني ودولته  تأتي الاستراتيجية في التقرير على شكل لعبة النرد.

ما الاستراتيجي في التقرير؟

يضع التقرير احتمالات تتقاطع مع بعضها في مسارات أو سيناريوهات كبرى كما يسميها. وتنشأ هذه السيناريوهات نتيجة للمصالحة/ أو في غياب المصالحة على شكل حل تقوم فيه دولتان أو دولة ثنائية القومية وفي كل من هذه الاحتمالات هنالك احتمال للتصعيد أو للتهدئة بين الدولة والاقلية القومية الفلسطينية في البلاد. ووفق التقرير فإن كلا من هذه الاحتمالات له حظوظه المتساوية إذ يحظى في “التقرير الاستراتيجي” الاحتمال الحاصل فعلا على أرض الواقع هنا والآن، بالتفاتة عابرة تستمر بعضاً من صفحة واحدة بينما تحظى سائر الاحتمالات بلغو ورطانة تستمر على عشرين صفحة. وفي نظرنا أن الاحتمال الواقع فعلا والأخذ بالتكون رويدا رويدا والذي يراكم لحما وجلدا هو دولة الابرتهايد في المناطق المحتلة عام 67 ودولة الفاشية المقنعة في 48. وهو ما لا يتعامل معه التقرير بالجدية الكاملة في رأينا وعلى ما يبدو في رأي قيادات اجتماعية وسياسية أوصت “بالعزوف عن السيناريوهات الكبرى بعد تشخيصها والبدء فورا بالعمل على المجتمع العربي في اسرائيل…” كما جاء في التقرير (ص  55) وحسنا فعلت هذه القيادات.

إن ما هو استراتيجي في هذا التقرير هو أولا، ادانة الشكل الذي اتخذه العمل السياسي ومخاض التجربة السياسية الطويلة للأقلية القومية الفلسطينية الباقية بعد النكبة أقلية ضئيلة مقطوعة محاصرة  حتى صارت الى ما صارت عليه فيصف سياستها كالتالي: ” من خصائص السياسة العربية الفلسطينية داخل اسرائيل  أنها ارتبطت من حين لحين بمركز عربي أو بوصاية ايديولوجية خارجية أو أنها استظلت بمشروع خارجي مثل العروبة  أو المعسكر الاشتراكي أو الاسلام السياسي…”(6)  ويرفق هذه الإدانة بالتوصية التالية: “يرى فريق العمل الى الضرر الكبير في الارتباط بمشاريع شمولية ترفض اليهود وإسرائيل من حيث المبدأ وتتعامل معهم بعنصرية مضادة… وضرورة الامتناع عن ربط نضالاتنا هنا… والعنف الواقع على إسرائيل كدولة أو مواطنين من خارج الحدود” (ص. 68). نعم هذا كلام  يصدر باسم أكاديميات وأكاديميين عرب. وفيه تبني للمقولة الصهيونية التي توازي بين اليهود واسرائيل، هذا أولا وفيه ثانيا تبنى خطاب صهيوني غير بعيد عن القول باننا وباختصار طابور خامس محتمل أو فعلي.

وإن ما هو استراتيجي ثانيا هو تبني خطاب يدعو الى: “… قد لا تظل الشراكة اليهودية العربية آلية للتغير بل هي غاية التغير المرتجى وهذا ما يفترض التوجه الى الصراع بصورة منفتحة على المسألة اليهودية وحق الجماعة اليهودية ورؤيتها من خلال المعايير ذاتها التي نعتمدها في النظر الى أنفسنا وحقوقنا“، شراكة نعم ولكن ما هي أسسها ومتطلباتها؟ ماذا مع معاداة الصهيونية، والانفتاح على “المسألة اليهودية” نعم ولكن ماذا مع الاعتراف بالغبن التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني؟ وماذا مع حق العودة؟

وإن ما هو استراتيجي في هذا التقرير هو غياب الحديث مطلقا عن حق العودة وحقوق مهجري الداخل، أو حتى أخذه بعين الاعتبار عند الحديث على السيناريوهات التي يقترحها، وكأنهما قد ماتتا بالتقادم.

وعموما فإن ما يشكل العامود الفقري للتقرير، وبعد أن تمت ادانة ما يسميه “مشاريع شمولية” هو تنظير مستتر وظاهر لمقاربة ليبرالية منقطعة عن السياق التاريخي لنشوء القضية الفلسطينية وقضية الأقلية القومية الفلسطينية في اسرائيل (وبالمناسبة للمسألة اليهودية ايضا بما أن التقرير ذكرها مرتين على الأقل)(7).

(الكرمل حيفا)

_____________________________________________

ضمت “المجموعة الاستشارية” كلاً من: غادة أبو جابر ـ نجم، المحامي حسن جبارين، المهندس رامز جرايسي، شرف حسان، علاء حليحل، المحامي علي حيدر، بروفيسور نداء خوري، د. هالة خوري ـ بشارات، بروفيسور مروان دويري، ظاهر زيداني، وليد طه، بكر عواودة، د. رامز عيد، بروفيسور أسعد غانم، د. هنيدة غانم، النائب مسعود غنايم، د. خالد فوراني، المحامي علاء محاجنة، فتحي مرشود، د. جوني منصور وهبة يزبك؛ بينما ضم “طاقم العمل” عليه كلاً من: بشير بشير، أمل جمّال، مرزوق حلبي (وهو أيضا “مركّز مشروع التفكير الاستراتيجي”)، راسم خمايسي، رائف زريق، مرام مصاروة وعرين هواري.  والأسماء، جميعها، كما ثُبّتت في التقرير وحسب ترتيبها هناك.

(1)            في حقيقة الأمر إن من يدعي هذا ليس سوى واضعو التقرير نفسه، خذ مثلا:”  من خصائص السياسة العربية الفلسطينية داخل اسرائيل  أنها ارتبطت من حين لحين بمركز عربي أو بوصاية ايديولوجية خارجية أو أنها استظلت بمشروع خارجي مثل العروبة  أو المعسكر الاشتراكي أو الاسلام السياسي…” (ص. 68).

(2)            صدر تقرير عدالة هذا في عام 2010 بعنوان ” الاتحاد الأوروبي والاقلية الفلسطينية العربية في اسرائيل“. وهو تقرير يمتد على 64 صفحة وعلى مستوى كبير من الأهمية من حيث عمقه في تناول جوانب التمييز المتعددة التي تتعرض لها الاقلية الفلسطينية واستنتاجاته وتوصياته. يمكن الحصول عليه مجانا في موقع عدالة الاليكتروني.

(3)            ينظر، إمطانس شحادة:” تطوير اقتصاد العرب؟ نعم ولكن”؛ 15\07\2010.

(4)            يُنظر نديم روحانا؛ وثائق تتحدى الدولة اليهودية تموز 2010.

(5)            بل إن ما نشاهده في العقود الأخيرة هو العكس، أي تراجع الانتماء الايديولوجي وهو ما يمهد في الحقيقة لتزايد الشخصنة والعمل الفردي وغير المنظم أو المدروس.

(6)            وسيكون هذا مكر التاريخ حقا، اذا ما تطلب حلُ المسألة اليهودية حلَ القضية الفلسطينية والعكس بالعكس بالضرورة.

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>