مروان عبادو: “تعبيري عن فلسطين من خلال الموسيقى هو تعبير جمالي وليس سياسي”

الفن الفلسطيني إن كان موسيقى، فيلماً، لوحة، مسرحية، رقصة أوكتابا يتيح لقاء آخر مع فلسطين، لقاء جماليا يضع الإنسان الفلسطيني وأحلامه في المركز ويفتح بابا جديدا لتعريف المقاومة والحياة لشعب فلسطين

مروان عبادو: “تعبيري عن فلسطين من خلال الموسيقى هو تعبير جمالي وليس سياسي”

نعيد هُنا في “موسيقديتا” نشر الحوار الذي أجراه الكاتب الفلسطيني سليم البيك مع الموسيقي الفلسطيني مروان عبادو في عدد حزيران/ يونيو 2011 لمجلة “رمّان” الثقافية الفنّية الفلسطينية.

مروان عبادو: الفنّ الفلسطيني يتيح لقاءً آخر مع فلسطين مروان عبادو: الفنّ الفلسطيني يتيح لقاءً آخر مع فلسطين


| أجرى الحوار: سليم البيك|

لمروان موسيقى وأسلوب غناء خاصين. قد يكون هنالك ما يميّز الغناء الفلسطيني عامة، وهو ابتعاده عن الاستهلاك وأنه بأغلبيته ضمن ما يعرف بالفن البديل أو المستقل. الآن، وضمن هذا الفن المستقل، هنالك التجريبي، التجديدي (سأضطر يا مروان إلى ذكر “التجديد” حتى في المقدمة)، وهو الأصعب. وهنا قد نجد روحاً لهذا الفن، وهنا بالذات، ضمن هذه الروح، أول ما يخطر على البال ستكون موسيقى وأغنيات لمروان عبادو، والذي سيحكي في الحوار التالي عن موسيقاه، وعن أمور عدّة. كما ستتعرفون، بعد ذلك، على مروان الكاتب، المثقّف، الساخر..


1. يكفي أن يسمع أحدهم موسيقاك مرة واحدة، ثم ينساها، ثم يسمعها بعد فترة ليقول بأنه يعرف هذه الموسيقى جيداً، قد ينسى اسمك وينسى أين ومتى وكيف سمعها، لكنه لن يضيع عن موسيقاك نفسها، وهو بالمناسبة ما يندر حدوثه في “التضخّم الموسيقي” الذي نعيشه، حتى في تلك التي تسمى بالمستقلة أو البديلة، وقد باتت في معظمها متشابهة، ما الذي يجعل أحدهم إذا سمعك تعزف وتغني، لا يخطئك؟ لا يضيع عنك؟

كما تعرف ان انطلاقتي كموسيقي كانت في النمسا المنفى الثاني ، وأنا أغني في لغتي الأم العربية وأعزف على آلة العرب العود، ولكن المحيط الذي أعيش فيه لا يمت بأية صلة للثقافة العربية. أي أصبحت موسيقاي متجردة عن محيطها الطبيعي، وأصبحت ذو لون وطابع شخصي: النص بعيد عن الخطابية واللحن بعيد عن فعل التطريب. أما من ناحية بنيوّية الموسيقى عندي فلا أحب تكرار الجمل الموسيقية، وأبتعد عن النص المباشر كونه يستعطف المتلقي، وأستخدم القفلات الموسيقية المفتوحة حتى لا يضيّع التصفيق حالة الشجن الموسيقي. هذه التركيبة، والتي هي انعكاس شخصي لي، هو ما يجعلها ذو نكهة خاصة في ظل ما سميته التضخم الموسيقي.

2. أغنياتك (موسيقى وقصائد)، يمكن أن تُصنّف ضمن الفنون المعاصرة، لكن ليست هنالك قطيعة مع المقامات والتقاسيم العربية، وفي الوقت نفسه هنالك تجديد يكاد يوحي بهذه القطيعة، ما الذي أتى بك إلى هذه الطريق الوعرة التي يصدر عنها موسيقى سهلة الرفض، رغم أن أسباب رفضها لدى الكثيرين (وقد يحسب هذا لها) هي نفسها أسباب تميّزها عند آخرين؟

بداية انا ابن هذا الوقت والمكان. والموسيقى هي تفتق لهذه اللحظة التي نعيش. لا يمكنني الاستغناء عن المقام والإيقاع الشرقيين طالما إعتمدت على اللغة العربية. كما لا يمكنني قطيعة أمور هي مكونة لي. إذا أخذنا مثلاً موضوع التقاسيم وهي شكل بنيوّي من أشكال الموسيقى العربية: إذا كانت الصفة الأساسية للتقاسيم هي الارتجال، فلماذا نكرر تقاسيم الأساتذة الكبار في الموسيقى العربية؟ فالتكرار حفظاً وتأويلاً أكثر منه ارتجالاً. إحساسي وولعي الشخصي في الموسيقى هو الخروج عما تعودنا سماعه إلى منطقة سماع إضافية تفتح لي وللمستمع مساحات جديدة. أما موضوع الرفض فهو أسهل الأمور في ثقافتنا العربية كوننا نعتبر الموسيقى أداة للفرح ولحفلات الأعراس والترويح عن النفس وليست موضوع سماع ونقاش ووجهة نظر.


3. لماذا هاجرت إلى النمسا، وبعمر الـ 18؟

أهلي قرروا إخراجي من بيروت بعيد اندلاع حرب المخيمات، وشاءت “الصدف” أن يقيم أخي الأكبر في النمسا فكانت هي الإمكانية الوحيدة للخروج من بيروت.


4. ولماذا اتجهت إلى الموسيقى، والعود تحديداً؟

إهتمامي بالموسيقى بدأ أصلاً في بيروت وهذا ما دعا أهلي لتوضيب حقيبتي. آنذاك كنت أغني في فرقة “فرح” اللبنانية وكانت الأغنية السياسية في صلب ريبتوار الفرقة. الاهتمام المتزايد لي في السياسة (المحلية، الاقليمية والدولية…) جعل والداي يعتقدان أن الثورة ستخرج من عتبة منزلنا (الله ستر). كنت في بيروت مهتماً بآلة الغيتار والعود وكما يُقال في العامية، اطنطن عليهما وعندما بدأت في فينا بالمعهد الموسيقي بدراسة آلة الغيتارعلمياً، تبين لي بأن هذه آلة ليست ناطقة بإسمي. في أول حفل موسيقي في المعهد فقدت الشعور في يدي اليسرى، لم أعرف كيف عزفت المقطوعات الثلاث ووجهي يبرق احمراراً ويصب عرقاً. لم أعرف لماذا صفق الجمهور ولماذا استاذي أبدى ارتياحه وسيدة متقدمة السن تقدمت إلي معربة عن سرورها بعزفي وأنا كنت قبل ثوان في الجحيم. وشاءت “الصدف” أن أتعرف آنذاك على الأستاذ عاصم الشلبي، وهو يعزف التشيلو والعود، وتتلمذت عنده على المدرسة البغدادية.


5. هل من ذكريات لك في مخيم ضبية أو في بيروت لما يمكن أن تعتبرها، الآن، إشارات إلى أنك ستصبح يوما ما مروان الموسيقي؟

خرجنا من مخيم ضبيه في مطلع الحرب اللبنانية عام 1975. كنت أسمع جدّي يغني أم كلثوم ولكن موسيقى المارشات للكشافة كانت تستحوذ عليّ أكثر. لكني كنت صغيراً جداً و كان همي الأول استيعاب دروس المدرسة خوفاً من سادية الأساتذة. أهلي ذكروا لي بأن احدى العائلات الامريكية القاطنة في بيروت كانت تراقب خروجي الصباحي المبكر من المنزل وتحديقي للبحر، وقولهم بأني سأكون يوماً ما شاعراً (خطأ آخر في المراقبة الامريكية للشرق، ولكنهم على الاقل يراقبون!). قدوم معهد الفنون الجميلة إلى المبنى الذي كنا نعيش به في بيروت وشغفي بأنشطته كان بمثابة الإشارة الأولى باهتمامي بالفنون بشكل عام. وكنت كلما عدت من المدرسة أذهب إلى صفوف الرسم والمسرح. تغذيت كثيراً من الطلبة والأساتذة وكانت الجامعة هدية لي رغم أن الحروب لا تعطي سوى الدمار.



6. لو افترضنا أنك لم تكن فلسطينياً، هل كان ليتغيّر شيء في موسيقاك؟ ومن هنا أسأل: ما تأثير فلسطين (كقضية) أولا، ثم تأثير تفاصيل حياة اللجوء الفلسطيني (مخيمات، أنروا، ثورة) عليك بشكل شخصي، ثانيا؟

سؤال جميل وصعب ولكن الافتراض واجب. اليوم وعندما أشاهد ابنتي وابني يلعبون الموسيقى في سن مبكر، وأدرك أن فرصهم في تعلم الموسيقى هائلة، أشعر أن حياتهم تتخذ منحاً جميلاً: قد لا يكونان في المستقبل موسيقيين إنما يتغذون معرفة وحب للجمال والألحان. هذه الفرص لم تتوفر لي في الصغر، ولكن بجهد واجتهاد شخصي أصبحت موسيقياً. لذلك أعتقد افتراضياً بأني لو لم أكن فلسطينياً لكنت أصبحت موسيقيا ربما بدوافع أخرى. أما فلسطين فأنا منها وهي مني، ولكنها لا تعطيني مشروعية أن أكون موسيقيا. هي حاضرة فيّ دون الحاجة إلى الإشارة المُشددة على ذلك إن كان بالنغم أو بالنص. تعبيري عن فلسطين من خلال الموسيقى هو تعبير جمالي وليس سياسي. أما تأثيرات اللجوء فيصعب تفسيرمعاناتها، ولكنها شكلت محفزاً أساسياً لي من أجل العمل نحو ما هو أفضل. الشعور بالبؤس والفقر والإهانة الاجتماعية ليس قدراً إلهياً يجب الانصياع إليه، بل الخروج منه والتمرد عليه هو الأهم.


7. أخبرنا عن فرقتك، وما الذي يضيفه هذا التنوع الثقافي/الفني إلى مشروعك الموسيقي بروحه الفلسطينية؟

الفرقة تكوينها خُماسي وأعضائها من النمسا، استراليا، بولندا بالإضافة لي. نلتقي خمستنا في موسيقى عبادو. زملائي موسيقيون ماهرون ومن أطياف موسيقية متعددة، أطياف تضيف إلى الموسيقى ذات النكهة الفلسطينية المشرقية إطارا جماليا مختلفا. حوار هذه الموسيقى مع مدارس موسيقية متعددة يفتح مساحة أضافية للموسيقى العربية كي تنطق خارج الأسراب العربية المحلقة فقط في الاجواء العربية. ليس هذا الحوارمن إختراعي، كونه كان وما زال موجوداً في تاريخنا الموسيقي. إقتناعي بضرورته وأهميته يشكل الحافز للمشاركة في تطويره.

8. نسمع الكثير من مفردات الحياة الفلسطينية في أغنياتك، كيف يتلقى المستمع الغربي/الأجنبي هذه المفردات وقد أتت من تفاصيل/يوميات المخيم الفلسطيني تحديداً؟

المستمع الغربي لا يتلقى الكلمة أو أية تفاصيل شعرية، إلا إذا كان يتكلم العربية، ولكنه يتلقى الصوت والموسيقى. وحتى إذا خبر النص، فالنصوص مترجمة وبذلك تكون مجردة. ليس المهم في نظري تلقي المستمع الغربي لتفاصيل الحياة الفلسطينية اليومية بغض النظر إن كانت من داخل أو من خارج المخيمات، الأهم في نظري أن يعايش المستمع الغربي صورة لفلسطين خارجة عن ما هو متعارف عليه في التغطية الإعلامية لفلسطين (شرقا أو غربا). الفن الفلسطيني إن كان موسيقى، فيلماً، لوحة، مسرحية، رقصة أوكتابا يتيح لقاء آخر مع فلسطين، لقاء جماليا يضع الإنسان الفلسطيني وأحلامه في المركز ويفتح بابا جديدا لتعريف المقاومة والحياة لشعب فلسطين.

9. تكتب مقالات في الصحافة وتحاضِر في جامعة فيينا عن الموسيقى. ما أهمية أن يكون الفنان مثقّفاً في مجال فنه؟ ثم أيضا مثقفاً في آداب وفنون وعلوم أخرى؟

الثقافة ضرورية لنا وإلا أصبحنا مجرد ماكينات. في إعتقادي أن المعرفة والثقافة ليست مرهونة بالأكاديمية، فغالبية الكبار في الموسيقى العربية في عصر النهضة لم يتخرجوا من جامعات بل من بيوت معرفة وثقافة. الثقافة للفنان جزء مشكل من هويته الفنية: فالموسيقي مرتبط بالشعر، والشاعر مرتبط بالايقاع. بالنسبة لي الفنون بشكل عام مرتبطة ومكملة لبعضها البعض. النظرة الشمولية للفنون تفتح آفاقا خلاقة للإبداع.


10. لك مدوّنة بإسم “يوميات موسيقي” تنشر فيها كتابات في تجاربك الشخصية وآرائك الموسيقية (ننشر بعضها هنا بعد الحوار) كيف ولماذا أتتك فكرة إنشاء المدوّنة؟

أتت الفكرة نتيجة تجربتي الشخصية بأن حياة الموسيقي في الشرق وفي الغرب تسودها الصور المسبقة، فقلة من يعتبرها مهنة. لقد تعرفت على الكثير من الشباب الذين مُنعوا من دراسة الموسيقى لأن أهلهم فضلوا الطب أو الهندسة. غير أنهم ينظرون إليك نظرة جدية حين يشاهدونك في برامج التلفزة، وكأن المقابلة تضيف إلى رفع المستوى الإجتماعي لهذه المهنة. بين هذين النقيضين هناك حياة مليئة بالمتع و الصعوبات. فعل الكتابة عندي جاء ليضيء على تفاصيل يعيشها ويعايشها فنان في حياته بعيدا عن أضواء المقابلات. خبرات تفتح للآخر مدخلا لفهم تفاصيل حياة يومية لفنان قد تعطي للقارئ نظرة أكثر واقعية عن هذه المهنة.


11. قرأت أنك شاركت في إعداد كتاب عن المطبخ العربي من بيت لحم إلى دمشق، هل للطبخ علاقة بالموسيقى أم أن ذلك أمر آخر تماماً؟ بالنسبة لي مثلا، للطبيخ علاقة بأي/كل شيء.

هنا نرجع للموضوع الثقافي: برأيي المطبخ هو من أصدق المصادر في التاريخ كونه فارغ من الايدولوجيا. هذا الكتاب والتي شاركت زوجتي، فيولا الراهب، بكتابته هو عن المطبخ الشامي. وليس كتاب الطبخ ما هو متعارف عليه كمجموعة وصفات للأطباق فحسب، بل هو مدخل إجتماعي، ثقافي تاريخي لتطور المطبخ في هذه المنطقة. عنوان الكتاب هو” وقت التين” ومصدره مثل فلسطيني قديم يقول:”وقت التين ما في عجين، ووقت البطيخ ما في طبيخ”. هذا المثل والذي يعكس موسمية المطبخ الشامي هو مرآة لمدخل الكتاب والمبني على التقسيم الموسمي للوصفات. الكتاب يعرض تأثير المطبخ العربي في اللغة العربية، مدونا بعضا من الكم الهائل من الصور الجمالية القادمة من المطبخ المشرقي والتي تستخدم في الأهازيج الشعبية للعروس على سبيل المثال ( يا خيارة وفقوسة، يا طاسات منقوشة….)، أو في التعبير عن الفروقات الاجتماعية (العز للرز والبرغل شنق حاله). أما المطبخ والطهي يشكلان لي متعة خاصة فتسمعني أدندن بعض الشيء لضبط إيقاع الفرم والتقطيع.

12. قلت مرة: فلسطين ليست برنامجي الموسيقي، ولا أُظهِرها في المنحى المعروف. وكذلك: قضيتي هي الموسيقى بعيداً من مباشرة السياسة. يمكن إذن للموسيقى أن تخدم القضية إن تميّزت موسيقياً، ولكن هنالك من يغطّي خيبة موسيقية بشعارات وطنية وسياسية مباشرة وفجّة، ألا تزعجك هذه الأغنيات؟

المزعج أنك تهرب من خطاب السياسي لتجده في أغنية والأنكى من ذلك أن السياسيين يرجعوا ويصفقوا لهولاء المغنين، ولذلك الذي يتحمل المسوؤلية بالأساس هم أصحاب الشأن السياسي (في الماضي والحاضر وعلى الارجح مستقبلاً) والذين كثيرا ما يسخرون الفن لبربامجهم السياسية. ولذلك وللأسف فالإهتمام بالفن ليس بدافع الفن نفسه. بإعتقادي أن الفن هو أفضل السفراء لأعدل قضية في تاريخنا المعاصر. إمكانية سرقة أغنية أصعب بكثير من سرقة ثكنة عسكرية محمية.

13. وبالمقابل هل ترى بضرورة أن يكون للفنان موقفاً سياسياً/ثقافياً/اجتماعياً؟ وإن كان كذلك، ما العلاقة التي يجب أن يوجدها بين هذا الموقف وبين جمالية القطعة الفنية؟

الفن هو وليد الحرية (هذا القول من الفيلسوف نيتشه) وبدون هذه الحرية سيبقى الفنان مقيدا، والفن المُقيد لن يثمر الكثير في حياتنا. ليس هناك في رأيي من هو بدون موقف سياسي ثقافي أو إجتماعي، لذلك فالمهم ليس الموقف بحد ذاته بل إنعكاسه في عمل الفنان. فعندما يصبح الفن منبرا لترويج موقف سياسي، إجتماعي أو ثقافي فقد خاصيته وحريته الفنية.

14. قلت مرة: لا يُطوّر وضع اللاجئين الفلسطينيين حول العالم سواهم، ويجب على الأقليات في المجتمع ألاّ تنتظر الغالبية لتهتمّ بها. أوافقك تماماً، لكن ما الذي يعوق الفلسطينيين عن تطوير أنفسهم، في المخيمات وفي العالم أجمع، فنّياً/اجتماعياً/سياسياً؟

الذي يعيقنا هو أن القضية الفلسطينية عويصة جداً! لقد تعرضنا كشعب لظلم هائل. لكن العامل الأهم والمعيق هو أننا نتمترس بخندق الضحية وننتظر الفرج، هذا بالإضافة للإتكالية السائدة في مجتمعاتنا العربية. كما أن مفهوم وآلية التضامن لدى الدول المانحة أو الصديقة عززت نوعا من عقلية الكسل والتسول لدى البعض في المجتمع الفلسطيني. غير أني أرى أن هناك الكثير من الأمثلة الإيجابية والخلاقة في الحياة الفلسطينية على الصعد الشتى والتي لم تتجاوز هذه العقلية فحسب بل أنتجت الجديد المبدع، غير أنها وللأسف غير معروفة ولا يتم إستقطابها.

15. إلى أي مدى يتواجد الفولكلور الغنائي الفلسطيني في مشاريعك التجديدية والتجريبية الموسيقية؟

هناك بعض الأعمال المسجلة وغير المسجلة تعتمد على النص الفلسطيني كأغنية مراكب مثلا، والتي تتحدث عن البحر الفلسطيني المفقود، أو دبكة الدحية والتي إستخدمتها كشكل غنائي. هناك أغنية “خليك” أتنقل بين مقاطعها اللحنية إلى الدلعونا، وظريف الطول ويا حلالي ويا مالي، وأختمها بموال مُطعم ببعض “الراب”. هذه الأغنية بالذات لم تسجل على اسطوانة، لأنها تخيفني في بعض الأحيان لإعتمادها المباشرعلى المقاطع الشعبية ولاستنهاضها المباشرللمستمع. وجود التراث الغنائي الفلسطيني في أعمالي هو وجود مبطن والهدف منه ليس التنطيق بل العبور الى مساحة موسيقية جديدة.


16. هل من مكانة للموسيقى الفلسطينية والعربية ضمن الموسيقى الإثنية في العالم؟

بالطبع هناك مكانة للموسيقى العربية وليس فقط من جانبها الاثني وهذا يعود للتجارب المهجرية العربية في أوروبا وأمريكا.

17. وما هي مراجعك الشرقية أو/و الغربية التي تنطلق منها في مشاريعك التجديدية؟

مراجعي الشرقية والغربية متنوعة ولكن تجربة الشيخ إمام ومنير بشير شرقياً لهما حيز كبير عندي. غربياً تتسع الدائرة لكثرة مصادرها من الكلاسيكية حتى الجاز. أراك تشدد على موضوعة التجديد وهذا قد يبعد المستمع العربي أكثر فأكثر. أنا لا أجدد بقدر ما أضيف بوسائل وتقنيات غير متعارف عليها في الذائقة العربية.

18. لا يمكن إلا الشعور بشيء من السخرية أحيانا في أدائك الموسيقي. حتى طبيعة الموسيقى نفسها، غرابتها، توحي بشيء من السخرية، ومراسلاتي معك مؤخراً وقراءة يومياتك عززت ذلك الشعور لدي. هل هي رد الفعل الطبيعي لحالة/قضية غير طبيعية منذ عرفناها؟

السخرية نابعة من تجارب عدة في حياتي. أعيش حالات كثيرة شبيهة بالسوريالية ولكنها واقعية. لذلك هي رد فعل مدروس ونقد لاذع لممارساتنا كعرب في الجغرافيا العربية أو في المهاجر. لا أستطيع سرد هذه التجارب ولكن هناك أمثلة كثيرة كانت السخرية الحل الأمثل لي في معالجتها. مثلاً: نحن نحب أسماء مُضخمة لمقطوعات ليست بهذه الضخامة. فتراني أُطلق كلمة “فتوش” كتسمية لمقطوعة عود صعبة الأداء بعض الشيء، أو أسمي مقطوعة إيقاعية تعتمد على وزن شعري عربي قديم ” قصة حب بين جمل وبقرة”، وفي اسطوانة “نرد” هناك مقطوعة من التراث العثماني وشكلها الموسيقي يُدعى “سيرتو” فاطلقت عليها تسمية “سيرتو سيري” كون الغالبية العظمى من المستمعين لن يعرف الشكل الموسيقي لهذه المقطوعة. أو عندما تفاجىء الجمهور بأغنية وتقوم برقص الدبكة على وقعها وهذا محرم في ثقافتنا كونها لا تليق بموسيقي “مهم” على شاكلتي. السخرية سلاح مهم في كسر الحواجز المفروضة علينا! عفواً الحواجز التي نفرضها نحن على أنفسنا.

19. أعرف أنك منعت أكثر من مرة من دخول فلسطين لإحياء حفلات هناك. هنالك من الفنانين والمثقفين العرب من يرفض فكرة الدخول بحجة الختم الإسرائيلي – وهو ليس إلزامي بالمناسبة- ورؤية شخصية للجندي الإسرائيلي، مفضّلاً “النضال” من بيته الآمن بعيداً عن فلسطين، كيف ترى الأمر؟

أشجع كل الفنانين والمثقفين على زيارة فلسطين لتعزيز التواصل الأخوي ومعرفة واقع الإحتلال وحياة الشعب الفلسطيني وتعقيداته. من يرفض رؤية الجندي الاسرائيلي، يتنازل أيضا عن لقاء أخوه الفلسطيني. وقد يُسعد هذا الرفض الجندي الإسرائيلي أكثر وأكثر لإن إحتلاله يريد تقطيع مجمل أواصر صلات المُحتل مع هذا العالم الخارجي. أحترم من يقاطع بدافع قناعة ذاتية، وليس بدافع ترويج مواقف سياسية كاذبة. أحترم الفرد الذي يرفض زيارة فلسطين لعدم مقدرته على رؤية جندي إسرائيلي يوقفه، وأستغرب من مواقف ساسة عرب يطالبون رعاياهم بالمقاطعة بينما لا تكل أرجلهم عن مقابلة الساسة الإسرائيليين.

20. بالمناسبة، كيف تؤلف؟ تكتب على ورقة دون آلة؟ على العود دون ورقة؟ لوحدك أم مع فرقتك؟

أحب العمل المبدع بعد منتصف الليل، عندما تخبو الأصوات في الشوارع وأجلس وحدي مع العود. أعزف على العود، ثم أترك العود، لأعود للعزف على العود، ثم عود على بدء. بعض الليالي أخرج ورقة منوتة، أو قد لا أخرجها. ليس للفرقة دور في التأليف وقد يكون لها دور في التوزيع الموسيقي. بعد إصدار الاسطوانة لا أعاود الإستماع لمقطوعاتها. ويبدو أن صغيري ذو السبع السنوات ولاعب الكمان يعرف استفزازي فيضع اسطوانتي في مسجل غرفته مستخدماً أقصى درجات صوت المسجل. وللنفاذ من هذا الاستفزاز نستخدم الجيران كحجة له حتى يخفض صوت المسجل. على الأقل حجة الجيران تظهر لصغيري بأنها حجة مقنعة وصادقة.

21. أخبرنا عن ورشات العمل الموسيقية التي تقوم بالإشراف عليها.

ورشات العمل بدأت أيام الدراسة الجامعية على شاكلة محاضرات للتعريف بالموسيقى العربية. لكن اتضح لي بأن المحاضرة تبقى صفتها نظرية ولذلك عملت على المدخل الإيقاعي حيث يدخل المشاركون إلى الموسيقى عبر الإحساس الإيقاعي وغناء الإيقاع والتحرك على وتيرته لتعزيز هذا الحس (طبعاً الحديث هنا ليس عن استخدام الإيقاعات الراقصة). ومن الحس الإيقاعي إلى الحس اللحني. المهم في هذه الورشات هو التعرف على الموسيقى العربية بعيداً عن الصور المُسبقة لها. لست متفرغاً لهذه الورشات وأحبها مع الاطفال أو مع طلبة الموسيقى.

22. ما علاقتك بالمخيم الآن؟

زيارات ثم ذكريات. ذكريات ثم زيارات.

23. الآن.. ما أكثر الأكلات (الطبخات) التي تحبها؟

طبيخ اللبن بغض النظر عن محتوياته، مقلوبة الباذنجان، برغل بدفين. مقبلات على موسمها. شو رأيك بأكلة ارضي شوكي؟

24. أين ستكون وبماذا ستكون مشغولاً في الأيام القادمة؟

اسطوانتي المنفردة والتي سأحاول تسجيلها في أوآخر هذا الصيف وأتمنى صدورها العام المقبل.

25. كلمة أخيرة تقولها لقرّاء رمّان..

عندما نلتقي المرة المقبلة أقول لك الكلمة الاخيرة.


كاتب وصحفي فلسطيني، مؤسس ومحرر مجلة “رمّان” الثقافية الفنّية الفلسطينية


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>