لماذا لم نهتمّ: اكتشاف هام لأول مقبرة فلستيّة!/ شادي عمر

لماذا لم نهتمّ: اكتشاف هام لأول مقبرة فلستيّة!/ شادي عمر

تكمن أهميّة الاكتشاف بكونه “الحلقة الضائعة” لبحث الحضارة الفلستيّة من خلال ما خلّفوه هم بأنفسهم، وليس من خلال المصادر التاريخيّة لشعوب أو حضارات عاصرتها، كالحضارة المصريّة التي تصدّت للغزو الفلستيّ

من الآثار الخزفية التي وُجدت في المقبرة بعسقلان

من الآثار الخزفية التي وُجدت في المقبرة بعسقلان

.

|شادي عمر|

جرى يوم العاشر من تموز الجاري (2016) الإعلان عن اكتشاف أثريّ عظيم، هو الأوّل من نوعه. ورُغم أهمية هذا الاكتشاف، لم تعره وسائل الإعلام الفلسطينيّة على مختلف أماكن وجودها الاهتمام الكافي مع الأسف، فلم تكن من طرفها أيّ تغطية- وفي أحسن الأحوال تغطية خجولة.

الاكتشاف كان لأول مقبرة فلستيّة عُثر عليها في متنزّه عسقلان والمُسمّى “متنزّه أشكلون القوميّ”، ويُقدّر عمرها بـ 3000 عام. يُعدّ هذا الاكتشاف الأول من نوعه، إذ لم يتم سابقا العثور على أيّ مقبرة فلستيّة، بل جرى العثور على قبور فرديّة معدودة. وتكمن أهميّة الاكتشاف بكونه بمثابة “الحلقة الضائعة” لبحث الحضارة الفلستيّة من خلال ما خلّفوه هم بأنفسهم، وليس من خلال المصادر التاريخيّة لشعوب أو حضارات عاصرتها، كالحضارة المصريّة التي تصدّت للغزو الفلستيّ. وفق مصادر المصريين الذين يصوّرون أسرى فلستيين في معبد رعمسيس الثالث في مدينة هابو، وهو النقش الذي يعود لنهاية الألفيّة الثانية قبل الميلاد، أو كالشعوب الكنعانيّة والقبائل البدويّة التي سكنت جبال يهودا والسامرة وعاصرت حقبة المدن الفلستيّة الخمس الأهم اللاحقة للغزو، وهي: عسقلان، أسدود، جت، عكرون وغزّة.

ولن يجرِ حتى الآن، في الحفريات الاثريّة والبحوث التي تبعتها، العثور على الآثار الكافية للتمحيص والتعمق في حضارة هذه القبائل الطارئة على كنعان، وتحديدًا عند الساحل الجنوبيّ، ولم يتعدَّ ما وُجد بضعة قبور ومعابد وأبنية سكنيّة وبعض النقوش المعدودة غير المشفرّة. وكما هو معلوم، فإنّ مصدر المعلومات الرئيس في علم الآثار في بحث الشعوب القديمة هو من القبور، كونها تحفظ القطع الخزفيّة بشكل كامل بما فيها من مخلّفات للأغذية المختلفة التي توضع مع الموتى في أحيان عدّة، للحياة المقبلة، وفقًا لإيمانات حضارات قديمة عديدة وهي تحوي أحيانًا كتابات ونقوشًا وأقمشةً ومعادنَ، بالإضافة إلى الحُليّ والأسلحة والهياكل العظميّة ورفات الموتى. كلّ هذه المعطيات تعطي من خلال تحليلها والبحث فيها كمًّا هائلًا من المعلومات والمعرفة عن الحضارات القديمة في طرق الحياة وطقوس الموت، بما فيها الدفن أو الحرق، والحمية والأغذية السائدة آنذاك، وعن التجارة من خلال تتبع مصادر القطع الخزفيّة والفخاريّة، والعلاقة مع السكان المحليّين من خلال فحص مدى تأثّر الحضارة الفلستيه في مثالنا بالحضارة الكنعانيّة في صناعة الأواني كمثال.

واليوم، للعلوم المختلفة دور كبير وضروريّ في استقصاء المعطيات والمعلومات من الآثار المكتشفة، سواءً أكان ذلك عبر التحليل الكيميائيّ لمخلفات المشروبات والأغذية في القطع الفخاريّة، أم عبر تحليل الجينوم لهياكل الموتى العظميّة، والتي بإمكانها أن تدّل وتساعد في تتبّع هجرة الشعوب البشريّة عبر التاريخ- وفي مثالنا مسقط الفلستيين.

الفلستيّون هم قبائل وشعوب من المرجح أنّهم قدموا من منطقة بحر أيجة، وتحديدًا كريت (مسقط رأسهم ليس محلّ إجماع وما زال قيد البحث)، في الربع الأخير من الألفيّة الثانية قبل الميلاد واستوطنوا الساحل الجنوبيّ لكنعان واحتلوا المدن واستقرّوا بها، مع الحفاظ على استقلاليّة سياسيّة وثقافيّة إلى حدٍّ ما، وما لبثوا أن اندمجوا ثقافيًّا ودينيًّا وانصهروا في النسيج الكنعانيّ.

هذا الاكتشاف العظيم والأوّل من نوعه سيؤدّي إلى قفزة نوعيّة وكبيرة في بحث حضارة الفلستيّين وتفاعلها مع الحضارات المجاورة، بشكل دقيق وعلميّ بعيدًا عن الافتراضات الظنيّة. ويعود الفضل بذلك للبعثة الحفريّة من جامعة وينتون في إيلينوي الأمريكيّة، والتي بدأت في العام 1985. وقد تم التنقيب في هذه المقبرة بسريّة تامّة منذ اكتشافها قبل عاميْن، خوفًا من تدخّل جهات دينيّة يهوديّة لوقف التنقيب.

في الختام، من الضروريّ أن نقوم بتصحيح خطأ شائع وهو أنّ الشعب الفلسسطينيّ اليوم بمختلف أماكن وجوده، ينحدر مباشرةً من الفلستيّين القدماء. هذا الادّعاء خاطئ ولا يمتّ للصحّة بصلة؛ ما يجمعنا بالفلستيّين القدامى لا يتعدّى الاسم الذي نحمله اليوم، ربّما بمحض الصدفة، إن صحّ القول. وأقدم استعمال لاسم فلسطين كان في القرن الخامس قبل الميلاد حين وصف المؤرخ اليونانيّ هيرودوس منطقة جنوب سوريا بفلسطين، ومن ثم تبنّته الإمبراطوريّة الرومانيّة في القرن الثاني للميلاد كالاسم الرسميّ لمقاطعة يهودا والسامرة بعد خراب الهكيل الثاني، ربما نكاية بأتباع الدين اليهوديّ. فلو استعمل الرومان اسمًا آخر لكنّا نحمل ذلك الاسم اليوم.

واليوم، معلوم لدينا عدم وجود جينوم “طاهر” لنا نحن كسكّان لهذه البلاد، ونحن نُعتبر جينيًّا نتاجًا لكلِّ الشعوب التي مرّت مع تفاوت النسب، وكذا الأمر ثقافيًّا؛ فثقافتنا الفلسطينيّة المعاصرة هي نتاج لكلّ الثقافات التي مرّت على هذه البلاد، وأيضًا هنا بتفاوت النسب بين الثقافة العربيّة الإسلاميّة والبيزنطيّة والكنعانيّة والفلستيّة وغيرها. لعلّ عدم المعرفة الكافية والوعي بتاريخ المنطقة الجغرافيّة التي نقطن وتاريخ كلّ الشعوب التي مرّت عليها وساهمت ببناء الثقافة الفلسطينيّة، وهُويّتنا الفلسطينيّة التي نعرفها اليوم، هو نتيجة للاستعمار ومحاولاته المنهجيّة لعدم ربط أيّ صلة بين الشعب الفلسطينيّ والشعوب القديمة التي قطنت فلسطين التاريخيّة أو جنوب سوريا- كنعان على امتداد التاريخ. وهذا يحتّم على المختصين في علم الآثار والحضارات القديمة من أبناء شعبنا (وهم قلائل مع الأسف) أخذ مسؤولية نشر الوعي حول تاريخ بلادنا القديم، كما يحتّم على أبناء شعبنا دراسة ذاتيّه من مصادر أكاديميّة ذات مصداقية قدر الإمكان، لعلّ هذا يعوّض النقص الموجود في مناهجنا الدراسيّة- تحديدًا كفلسطينيّين في الداخل.

(الكاتب متخصّص في علم الآثار وحضارات الشرق القديم)

.

plestim-1

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>