“ويكيليكس” يكتشف أمريكا

ما كشفه موقع التسريبات “ويكليكس” هو قنبلة إعلامية بكل المعايير، لكنَّها لم تنفجر حتى الآن. الحدث برمّته كتب تاريخًا جديدًا في التنظيرات الإعلامية، حين وقعت اللعبة من أيدي الارستقراطيات الرأسمالية المسيطرة على الإعلام إلى موقع كان مهمشًا قبل شهور ونشر وثائق تقف الامبراطوريات عاجزة أمامها..

“ويكيليكس” يكتشف أمريكا

Wikileaks_3_1

|فراس خطيب|

باردلي ماننغ يقترب من الثالثة والعشرين من العمر. مجنّد أمريكي في سلك الاستخبارات. هو أول المتهمين بتسريب الوثائق التي كشفت أمريكا. اتهامه ليس نهائيًا لكنّه متورط جزئيًا حتى الآن بقضية تسريب 251,287 ملف (وورد) حجمها 1.6 ميغا بايت في  قرص مدمج. ملف صغير كان كافيًا لإشعال نار “الحرج” لدى لمنظومة الدبلوماسية الأكبر حجمًا والأكثر تعقيدًا في العصر الحالي.

القرص المدمج الذي وصل إلى مؤسس “ويكليكس”، جوليان أسانغ، رفعه إلى صلب العناوين ثانية، ليسجل الموقع الذي تأسسَّ في العام 2006 تاريخًا للمرة الثانية خلال أقل من شهرين: كانت الأولى حين كشف أسانغ وثائق تورّط الأمريكيين بقتل المدنيين في العراق وأفغانستان، ليأتي دور فضائح الدبلوماسية الأمريكية في حين لم تنفع عظمة الأمريكيين لمنع النشر رغم حجب الموقع عن مرتاديه. إذ كانت وسائل إعلام كثيرة مستعدة أن تكون مصدرًا ثانيًا لكشف الحدث، أولها موقع صحيفة “الغارديان” البريطانية.

يوم الأحد بعد السابعة تقريبًا بتوقيت غرينتش، بدأت رسائل الدبلوماسيين إلى الدبلوماسيين تنكشف. كان الفضح مباشرًا، في حين كان العالم (وحكّامه) يترقبون التسريبات بشغف طفولي كمن يشاهد مباراة كرة قدم وينتظر هدفًا ماّ… فهل سُدّد؟!

صحيح أنَّ الكشف لم يجبر رؤساء دول وحيتان الأنظمة على الاستقالة كما حصل في “ووتر غيت” التي أودت بحياة ريتشارد نيكسون السياسية، ولم يدفع رؤساء آخرين نحو الاعتذار للأمة عن علاقة جنسية كما حصل لبيل كلينتون، لكنّ الفضائح الدبلوماسية تختلف، هي قنبلة لا تنفجر فورًا، تلقى في الساحة العامة لكنّها تنفجر في الغرف المغلقة.

“ويكليكس” يقاوم سيطرة رأس المال والحكومات على صناعة الأخبار

من يعتقد أنَّ التسريبات الهائلة مجرد “معلومات مخجلة” كما يصمّم الإسرائيليون على تسميتها، فإنه يقلل من عمق  الحدث، فلو كان الأمر كذلك لمّا جنّد الأمريكيون مئات الدبلوماسيين للرد على الفضائح المذكورة ولما حذّروا حلفاءهم مهيّئين إيّاهم للتسريب. ويخطئ من يعتقد أنَّ المياه ستعود الى مجاريها عندما يتهم الأمريكيون رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين رسميًا بأنه “متعاون مع المافيا”، أو حين يكتشف رفيعو المستوى في الأمم المتحدة بأنَّ أرقام بطاقات الإعتماد الخاصة بهم وتحركاتهم وهواياتهم تحت سلطة الدبلوماسي الأمريكي، أو حين يتم الكشف أن الموساد الاسرائيلي يفكر بأساليب لا تشبه صورته في كتب الاستخبارات، بل أعمق. وهل فعلاً يعتبر الإيرانيون التسريب عن الطلبات العربية الرسمية (أو التوسّل) لضربهم أمريكيًا بـ “مؤامرة شيطانية” لدق الأسافين مع العرب، لا غير؟! أم أن ردّهم “دبلوماسيّ” مثل الوثائق؟ هذه قضايا من قضايا، وحتى الآن لم ندخل إلى الكوريتين الشمالية والجنوبية، ولم نقترب من الصين ولا حتى الى الإتحاد الأوربي ولا إلى موقف البيت الأبيض من نيكولاي ساركوزي “القيصر العاري”.

لعل التاريخ الحاصل في هذه النقطة ليس كامنًا فقط في مضمون فاضح الدبلوماسيات إنَّما في الحالة الإعلامية الحديثة التي اختلقها التسريب. قد يكون  ”ويكليكس” خاضعًا لرؤية سياسية معيّنة، وقد يكون رهينة لاتهامات يمكن أخذها بعين الإعتبار مستقبلا، لكنَّه بالتأكيد، وعبر الكشف المذكور، غيّر واقع الإعلام وحالته النمطية التي عادةً ما تكون خاضعة لرؤوس أموال أو لسلطات حاكمة غارقة في الاقتصاد السياسي، وتجاوز المألوف في الإعلام ليحقق إنجازًا تاريخيًا في قدرته على إرباك قيادات دول عظمى دون أن يكون مؤسسة كبرى أو خاضعًا لعائلات رأسمالية كما هي الحال في العالم “الحر”. “ويكليكس” اسم حديث في عالم الإعلام الحديث،  لكنه وبنفس الوقت يكتب عصرًا جديدًا يقاوم سيطرة رأس المال والحكومات على صناعة الأخبار، وينجح في مواجهة أكثر الدول رأسمالية ووعيًا لهذه النقطة.  وفي هذا إنجاز.

خلال الشهر الماضي، كشف “ويكليكس” عن الممارسات الأمريكية في العراق وأفغانستان. وزير الحرب الأمريكي روبيرت غيتس هاجم مؤسس الموقع الأسترالي الأصل جوليان أسانغ (39 عامًا) شخصيًا، قائد عسكري أمريكي قال إنَّ يديه ملطختان بالدماء! (من بالضبط؟!)، وسائل إعلام ضخمة مثل “سي إن إن” انتهجت أسلوب “التعبئة” المعهود، واستدعت أسانغ إلى مقابلة على الهواء، وبدلا من التمحور حول قتل عشرات آلاف المدنيين في العراق وأفغانستان، بدأت المذيعة تسأل أسانغ عن حياته الشخصية لإحراجه ضمن قضية تحرشات جنسية لم يتم استيضاح ملامحها بعد ان أغلق ملفها وأعيد فتحه في السويد فجأة.. قال أسانغ إنه لن يجيب على اسئلة متعلقة بحياته الشخصية وفضّل الحديث عن الوثائق التي تكشف قتل آلاف الأبرياء. إلا أنَّ مقدمّة “سي إن إن” صمّمت، فترك أسانغ الأستوديو دون اكتراث لكونه على الهواء مباشرةً.

قد يستنتج البعض، وبحق، أن الأمور المذكورة والمكشوفة “كانت معروفة دائمًا”، لكنَّ يجب التنويه إلى أنَّ هناك جديدًا في التسريب. فحينما يكون الاتهام السياسي تكهنًا أو تحليلاً يختلف كليًا عن كونه رسميًا وموقعًا. إنه يشبه الفارق بين تكهن أرقام اللوطو، والفوز بالجائزة ما بعد التكهن!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. لقد سلط الإعلام الرأسمالي العالمي “كشّافاته” على المدعو أسانج. هذه الحقيقة لوحدها كافية أن تثير شكوك أي مثقف. هل الإعلام العالمي معني بانفجار بصدد تسريبات ويكيليكس؟! طبعاً لا، ولذلك انا شخصياً أعتقد أنه لا تأثير حقيقي لهذا “السكوپ” الإعلامي سوى تطبيع عمل الأنظمة العالمية. حتى باعتقادي ما كان في حاجة يطبعوا… ما هي الناس كلها نايمة؟!

  2. أولا، الاسم أسانج وليس أسانغ.
    ثانيا، المقابل ليس هذا أخطر تسريب في تاريخ أمريكا. أيام حرب فيتنام سربت وثائق غاية في السرية (أكثر بكثير من الوثائق المعروضة هنا) أظهرت أن الحكومة كذبت على الجمهور مسرب الوثائق كان دانيل إلزبرغ وقد حوكم لكن التهم أسقطت بسبب مخالفات المباحث العديدة خلال المحكمة.
    ثالثا، لا تغالي في تفاؤلك ولا تستهتر بقدرة الحكومات على التكيف، فكما نجحت كل الحكومات الأمريكية باحتواء معارضات الحروبات بعد تعلمها دروس حرب فيتنام كذا سيحدث هنا.. العالم لا يتغير.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>