Status Quo: من المهد إلى اللحد/ حنّا جبران

“Wall Street” كنائس القيامة موجود أعلى التلّ حيث الجلجلة، حيث صُلب المسيح. هناك، يصلب المسيح كل يوم من جديد لما يشاهده يحدث تحت قدميه من تجارة.

Status Quo: من المهد إلى اللحد/ حنّا جبران


كنيسة القيامة.. وقايمة.


|حنا جبران|






من المهد…

دخول كنائس المهد (ونقصد الكنيسة مقسمةً بحسب الجماعات الدينية المسيحية) من الباب المنخفض الصغير لم يشعرني بالخشوع ولا بالتواضع أبدًا، بل شعرت بألم في ظهري بسبب الانحناء. يُصغّر الباب لمنع دخول الحيوانات (كالجمال والخيول) إلى الكنيسة. شعرت بالاغتباط لأنهم لم يصغّروا الباب لمنع  دخول الماعز، عندها كنّا سنزحف للدخول.

الالتزام بتنفيذ قوانين “الوضع القائم”  الـ Status Quo في المكان يعكس التفاهم والمحبة المسيحية بين الرهبان الذين يظهرون، على مرّ العصور، حياة سلمية بين أبناء الدين الواحد… بفضل رجال القانون المتواجدين في المكان.

عكس أسئلة الاختيارات الأمريكية، هنا يوجد جواب واحد لأربع أسئلة.

يعجبني التعاون القائم بين الرهبان وممثلي الجماعات الدينية بعد القداس الصباحي، فالجميع يهبّون لتنظيف المكان، سريعًا، خوفا من أن “يتبرّع” أحدهم ويقوم بتنظيف بلاطة تخص جماعة غير جماعته.  يجدر الانتباه للمكانس، وللمكانس عصيّ، وللعصي استعمالات أخرى.

قد يُسمح للزائر أن يضع قدمًا على بلاطة للجماعة “أ” وأخرى على بلاطة للجماعة “ب”. ولكن، يا ويلنا إن داس راهب على ما ليس له، فقد يجد نفسه في تلك اللحظة ملقى أرضا ومثبّتا من قبل بعض الرهبان المصارعين. الرهبان المناوبون يهجرون الصلاة أثناء ورديّتهم، ويتفرغون لمراقبة تحركات الأعداء في الدول المسيحية المجاورة.

استعنا – أنا وضيوفي- بمرشد محلّي لشرح تاريخ الكنائس.. كمعظم المرشدين في الأماكن المقدسة الأخرى، يحافظ المرشد على النص ولا يخرج عنه أبدا، بغض النظر عن السؤال الذي توجهه إليه، خاصة إذا كان في لغة أجنبية، فإنك تحصل على نفس الجواب. هنا لا يوجد أربع أجوبة محتملة للسؤال؛ بعكس أسئلة الاختيارات الأمريكية، هنا يوجد جواب واحد لأربع أسئلة.

في الصورة؛ مدخل كوخ الأقزام السبعة.

يجلس راهب قرب مدخل مغارة الميلاد يتحدث مع المنظمين البعيدين عنه أمتار عدة (حيث أنه لا يحق له الاقتراب من موقعهم) عن أمور يومية، بصوتٍ عالٍ لا يُسمع في الكنيسة غيره. بين الفينة والأخرى، يقطع الراهب كلامه ليصرخ بالحجّاج: Silence!.

فرح ولادة المسيح يذوب مع حزن الـ Status Quo: شتّان ما بين قصة الميلاد والرعاة والتسامح والفقر والمحبة من جهة، والحياة اليومية للقائمين على المكان.

يجب أن تًخفض وتصغّر باقي الأبواب في أماكن عيش القائمين على المكان هناك، فقد يكون لعملية الانحناء اليومي تأثير أبعد من مجرد ألم في الظهر- قد يسبب ذلك ألما في الروح فتصحو من سباتها.


*


إلى اللحد…

إذا كان مدخل المهد يمنع دخول الجِمال، مدخل كنائس القيامة يسمح بدخول الفيلة. قصّة التعاون بين الجماعات الدينية تطل من خلال مفتاح ذلك الباب. منعا لحدوث خلافات بين الجماعات المسيحية في الداخل حول من سيتولى الحفاظ على مفتاح الجنّة، تسلمت المُفتاح عائلة مقدسية مُسلمة.

هذا هو المكان الوحيد الذي أتمتع فيه برؤية الشرطة تقوم بتفريق الجموع.

شعرت (حتى قبل دخولي المنطقة المحلّلة) بأهمية الحجيج الاقتصادية للديانات عامة، سماوية أو  غير سماوية. آلهة جميع تلك الديانات أوجدت فرصا اقتصادية للقائمين عليها- رجال الدين عادةً.

مؤرخو حياة المسيح يتحدثون عن ثورته عندما أمسك حبلا وأخذ يطرد الباعة من الهيكل. كان للكهنة والكاهنات المكانة الخاصة عبر تاريخ الديانات، وقد حظوا بمراكز قوة مكّنتهم من السيطرة على جموع المؤمنين، وخاصة بفعل ثيابهم المَهيبة والمُقصّبة بالخيوط الذهبية. كان الكهنة والكاهنات من أكثر الناس فهما لتأثير الأزياء على الآخرين، فأحسنوا استغلالها.

“Wall Street” كنائس القيامة موجود أعلى التلّ حيث الجلجلة، حيث صُلب المسيح. هناك، يصلب المسيح كل يوم من جديد لما يشاهده يحدث تحت قدميه من عمليات تجارية : الكاهن يحث جحافل المؤمنين بمتابعة التحرك عن طريق اللمس والدفع، ولكنه يعطي النهار بطوله لمن يريد ابتياع الشمع. أكثر ما لفت نظري هو استعمال أحد الكهنة أداة معينة يدخل بواسطتها النقود الورقية إلى داخل الصندوق الخشبي، تماما كذلك المستعمل في الكازينو عندما يقوم المقامر بشراء الجيتونات. على فكرة، كان سعر الشمعة السمينة عند إحدى المجموعات 3 دولار، بحسب إحدى قريباتي. لست أدري إن تمكنت من إيجاد شخص في العائلة تضيء الشمعة على روحه، فنحن عائلة صغيرة، ولكن يبدو أنها أضاءت عددا من الشموع على روح الثورات العربية، فاكتمل العدد.

مقابل قبر المسيح (الفارغ)، زرنا كنيسة مركز الكرة الأرضية. فعلا، قمت بالقياسات المطلوبة، وتحققت من صحّة نقطة المركز.  فعلى سطح الكرة، هناك نقطة واحدة فقط تعتبر مركز السطح الكروي.

مجموعات سلفيّة مندسة...

أعجبني ذكاء العثمانيين التجاري عندما باعوا نفس الأماكن المقدسة المسيحية لكل جماعة حملت ذهبا. في نهاية المطاف وجدت 6-7 جماعات مسيحية نفسها صاحبة حق في المكان نفسه، فتقاسمت المنطقة مساحة وزمانا، وطبّق “الوضع القائم” من جديد. هنا أيضا، لا يخلو المكان من مخالفات الـStatus Quo، خاصة في المناسبات الأكثر قدسية مثل سبت النور، حيث تتدخل قوات الشرطة الإسرائيلية لفض الاشتباك. حتى ساعة كتابة هذه السطور لم تستعمل الشرطة الرصاص الحي بعد، ولكن آثار الهراوات تطبع من جديد على أجساد بعض الرهبان. هذا هو المكان الوحيد الذي أتمتع فيه برؤية الشرطة تقوم بتفريق الجموع باستعمال القوة. “خَرْجهِن”.

كان هناك راهب ملتح ربما قارب الثمانين من عمره، يقف لينظم عملية الدخول إلى القبر. وقف المؤمنون بخشوع في الخارج، ينتظرون فرصة دخولهم إلى القبر لتقبيل رخامه الدافئ من حرارة الشموع والناس، وكان الراهب الكهل يدخل حوالي الدزينة في كل مرة، حيث يمكث الزائرون حوالي الدقيقة في الداخل، فيقوم راهب آخر هناك في الداخل بقرع يد معدنية على قطعة خشب معلنا انتهاء فترة التعبد. عادة يحاول مؤمن أن يسرق لحظة إضافية بصحبة القبر الفارغ، فيقوم الكاهن بدفعه إلى الخارج.  أثناء انتظاري للضيوف، واقفا قرب مركز العالم، خرجت مجموعة من الداخل، ولم تدخل مجموعة أخرى، بقي القبر فارغا من المؤمنين كذلك. خرج الراهب مستفسرا عن توقف خط الإنتاج، فوجد الراهب الكهل منشغلا بشرح بعض الأمور الدينية لأم شابّة وطفلتها، وقد ترك باقي المؤمنين ينتظرون. أمسك الراهب بعضلة ذراع الأم بلطف وسحبها إلى خارج دائرة الانتظار، وهناك تابع لها ولطفلتها الشرح عن بعض الرموز الدينية الموجودة على مدخل القبر. كان الراهب يشرح باللسان واليد، ولم يترك ذراع الأم إلا عندما توقف لسانه عن الحركة. توجه بعدها إلى شابتين كانتا تطفئان الشموع التي أشُعلت بالنار المقدسة، وبادر بالشرح.

في تلك اللحظة بالضبط، أدركت للمرة الأولى سبب قرار السيد المسيح القيامة من الموت والصعود إلى السماء، عاليا، بعيدا عن المكان وعن الزمان. فالمسيح الإنسان تمكن بألوهيته من رؤية المستقبل، فهرب، وبقي القبر فارغا.

أثناء خروجنا، مررنا قرب حوانيت “السوفينير”، غالبية زبائنها كانوا من اليهود، فكانت الشمعدانات وقبعات الصلاة تفوق الصلبان والمسابح عددا.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. من الصعب رؤية الوضع بهذا الشكل بين الاشخاص الذين من المفروض يمثلون الديانة المسيحية للأسف الشديد ان الحال باقي على ما هو عليه حتى يأتي الشخص المناسب ليصحي عقول هؤلاء الرهبان

  2. حقيقي، واقعي، ومؤلم جدا. النزاع على المناطق والأماكن هو ما نحمله من الطبيعة الحيوانية ومن المخزي أن نراه في ذروته داخل الكنائس. أجد نفسي أبتعد عن هذه المدينة، وما يهمني هو سكانها ومظلوموها فقط…شكرا لك د. جبران

  3. وجهةنظر صائبة!!كان يمكن للكاتب أن يُضيف أن معظم القيّمين على هاتين الكنيستين، ليسوا بعرباً !! ولا ينتمون حقيقة الى هذه الأرض وهذا الفضاء!؟؟

  4. يؤسفني أن تتساوى روحانيه الدين مع بضع قطع “بلاط”. وعندما نتوقع من رجالات الدين أن يعتلو عن الخلافات الدنيويه نجد أن خيبتنا بقدر توقعاتنا العاليه منهم. نقد رائع وحقيقه مؤلمه.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>