“العاجزون” في دمشق: عرض يدين الاغتراب وأوهامه

مسرحية “العاجزون” لرياض مصاروة تُعرض في دمشق هذه الأيام * مخرج المسرحية مضر رمضان: في النص دعوة واضحة كي يتحمّل الجميع المسؤوليات، وخاصة المثقف، لا أن يهرب من وطنه أو يفكر بالبحث عن هوية له خارجه، مهما عانى من وطنه، لأنه لن يجد إلا الضياع والتهميش والتشوّه

“العاجزون” في دمشق: عرض يدين الاغتراب وأوهامه

ملصق المسرحية

>

|آنا عزيز الخضر|

اِنطلق العرض المسرحي “العاجزون” من فكرة الاغتراب، في صالة “مصطفى علي”، ليكون المحور والموجه الأهم لكل القصص والذكريات؛ إذ انطلقت منه محاور العرض الدرامية، كما كان ملعب شخصياته، حيث الاغتراب قدرها، وبالتالي يكشف عن المفارقات الواسعة والأزمات الوطنية والثقافية والمعضلات الاجتماعية، وما يترافق معها من انكسارات وهزائم نفسية. فالشخصيات تجمعت من بلدان مختلفة وركز العرض حول بحثها عن ذاتها، وقد اعتبرت نفسها فوق الواقع لتميزها الخاص وطموحها بالأفضل في كل المجالات، انكسرت الآمال، فذهب أصحابها يبحثون عن عوالم يجدون أنفسهم فيها.‏

تجد كل شخصية ضياعاً يتضاعف في الغربة، حيث يخيم التهميش والضياع والانحراف، عبر كل تفصيل من تفاصيل العرض بدءاً بالديكور الشحيح الغريب، إلى الإضاءة المعتمة وانتهاء بحوار الشخصيات وعوالمها، وحتى بنيتها الدرامية والذاتية. وقد كان الصمت المطلق هو الوجه الأخر لإحباطهم، يأتي من يستفزه ويكسر ممانعتهم في إبقاء جروحهم الشخصية مختبئة، والتي نكأت رغمًا عنهم، لتكشف عن أعماق النفوس، بعد أن تبلدت المشاعر والعقول ونسوا مشاكلهم وإنسانيتهم التي فقدوها في الغربة، وقد حملت كل شخصية عقدة نفسية ترتبط مباشرة بتلك الانكسارات، وكانت عقدهم تعكس تلك الهزائم بدقة، وبكلّ ما مر معهم من أحداث، وقد عطبت أعماقهم الإنسانية بأشكال مختلفة،عرفناها بعد أن بدأت تلك الحوارات، بعد الصمت الطويل، الذي شكل إطاراً درامياً وجواباً منطقياً، لأنه سيكون الأجدى، كنتيجة لمقدمات لن تؤدي إلا إلى هنا.‏

مشهد من "العاجزون" بصيغتها السورية

فكانت البداية مع إصرار إحدى الشخصيات على استنطاق الجميع، بالهجوم على ذالك الصمت، ويتبين أن محاولات بحثهم عن ذاتهم خارج الوطن حولتهم من أناس يسعون إلى كل ما هو نبيل تجاه الوطن والمجتمع والإنسان، كل منهم إلى منحرف بشكل من الأشكال، وتنساب آلامهم عندما يستفزّهم شبيههم في مسيرة الحياة والمصير؛ فتلك الشخصية تطلب الإفصاح عن سبب عجزهم، فتتشابك القصص المؤلمة وتبدأ من تلك المرأة التي مات زوجها، بسبب مأساته وانكسار قضيته الوطنية التي عاش من أجلها، بعدها طلب منها ابن خالتها المجيء إليه، إلى أوربا كي تعيش الحياة وتعرفها عن قرب، وإذا به يهيئ لها مطباً فظيعاً قاسياً، ويجرّها به إلى الانحراف، يقودها إلى الدعارة ومهاوٍ كثيرة. وفي النهاية تصل إلى ارتكاب جريمة من أجل الخلاص لكن بعد ماذا؟ بعد أن خسرت إنسانيتها وانجرفت إلى الهاوية، حيث لم يبق موبقاً إلا واقترفته. وبعد أن يروي الجميع حكايته وضياعه، بدا أن كل شخصية تعاني وتختصر مشكلات لا تعدّ ولا تحصى، مع الاعتراف بكل ما حصل بحقها من ظلم، وبكل ما اقترفته، ليبدو الحوار كأنه بوح يطلب الصفح. ‏

أما المرأة تروي حكايتها، بالتناوب مع ذاك الشخص الذي كسر صمت الجميع، فتتعادل المآسي؛ كل منهم محبط داخلياً ونفسياً، يعترف بهزائمه بشكل جريء وخصوصاً أنّ كل واحد منهم يحمل في داخله انكسارات فظيعة، فهو لم يخسر حلمه فقط، بل انجرف إلى ضياع تعاظم مع مرور الوقت، وقد حسب نفسه أنه يبحث عن بديل أفضل لوطنه، فكان الوقوع في مطبات قاتلة هو المصير. هربوا من المشاكل فوصلوا إلى الانهيار، وقد حملت الشخصيات تطرفها، في كل فكرة آمنت بها، فكانت النتيجة وخيمة، وقد وجهت كل عناصر العرض المسرحي إلى الاغتراب. ولخدمة هذه الفكرة بدءاً من مكانهم الحزين الملجأ المعتم، ثم حوار الشخصيات وجرأتهم التي كانت لها وظيفة درامية خاصة هنا، حيث شكلت معادلاً درامياً لما تجاوزوه من قيم، ثم أداء الممثلين الذي أظهر تمكنهم وتعمقهم في عوالم شخصياتهم الخاصة، ما مكّن العرض من بلورة الضياع في كلّ الاتجاهات.‏

حول الأسلوب الإخراجي واختيار النص والمقولة، تحدث مخرج العرض مُضَر رمضان، فقال: يعالج النص انهيار المثقف وانهيار المفاهيم إلى درجة تم البحث فيها عن ملجأ خارج الوطن، وكانت أوروبا بالنسبة للكثيرين حلماً وملجأً، رأى فيها بعض من المثقفين إعادة لتعريف ذاتهم، لكنهم فوجئوا بأنها كتلة منهارة، ليس للإنسان فيها وجود، فإما قاتل أو مقتول. وأوحيت بذلك من خلال الديكور، والذي بدا كمغارة آيلة للسقوط، وهي في الحقيقة تعاني انهيارًا في المفاهيم والشعارات، وقد تقصدت اختيار هذا النص بسبب الأزمة التي يعيشها وطننا، ففيه دعوة واضحة كي يتحمّل الجميع المسؤوليات، وخاصة المثقف، لا أن يهرب من وطنه أو يفكر بالبحث عن هوية له خارجه، مهما عانى من وطنه، لأنه لن يجد إلا الضياع والتهميش والتشوّه. فالمثقف مطالب بذلك أكثر من غيره، وقد اخترت هذا النص أيضا لوجود شخصيات حملت التطرف السياسي والديني، والذي يؤدّي إلى نهايات سيئة بالمطلق. وبالنسبة للنص الأصلي لم يكن التغير إلا بهدف تعميم الفكرة بشكل أكبر وأوسع، وإن حمل العرض الجرأة، لكن تم توظيفها في المكان الصحيح. فالجرأة بحدّ ذاتها تتطلب الدقة وتوجيهها بذكاء تحديداً عند التوجّه إلى مجتمعنا، وإن ركزت على قضية الثقافة كون المثقف قادراً على التحليل وتفكيك الجزئيات والتقاط الأبعاد، من هنا فإنّ مسؤوليته تجاه الوطن أكبر. ويمكنني القول إنّ الهروب من مشاكل الوطن هو خيانة للوطن، ومن يبحث عن ذاته خارج وطنه فإنّ مصيره الضّياع والانهيار، ولن يحصل عليها أبداً، وركّزت على هذا الجانب، على كل مسارات العرض المسرحي ومحاوره، كي أدين كل من يؤمن بهذه الفكرة، كما قصدت، أن تكون الأجواء سوداء ومشوّهة، لإظهار تلك الحالة لأنها النهاية المحتومة لهذا التطرف والضياع.‏

(عن “الثورة” السورية)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>